لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

روائح الوقت .. "قصص قصيرة"

د.هشام عطية عبد المقصود

روائح الوقت .. "قصص قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 29 ديسمبر 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


الألفة ..
شمس خافتة دافئة تشغل ثلث مساحة المنضدة تاركة ماتبقى لتسكع الظل، شكل السور المنخفض الذى يصنعه تجاور شجيرات قصيرة تحيط بالإمتداد الخارجى للمقهى يصنع لوحة طبيعية يلونها الوقت بريشته فتضفى على المكان أثرا يدوم، ويثبت كأنه يدخل لوحات كتاب الخلود، فقط مقاعد قليلة يشغلها الجالسون، لازال الوقت مبكرا، تلذذ بطعم القهوة، وعندما بدأت نثار قطرات المطر ترسم لوحتها على الأرضية، قال واثقا: هذا المكان هو حديقة الناس الذين تألفهم.

ذاكرة المطر ..
جاء المطر وملأ الشوارع بلمعته وغسل واجهات البيوت فمنحها فرصة بدء حياة أخرى، ثم أنه صنع رائحته الخاصة تماما، رائحة المطر ؟! نعم للمطر رائحة قديمة أقل فى العمر من تاريخ ميلادك ومقاربة لتاريخ وعيك بالموجودات، هى تحديدا فى عمر قدرتك على وصف الأشياء من الذاكرة، تخصك تماما ثم الأهم أنك يمكن أن تدركها ولو أنكرها كثيرون ممن حولك.
يقينا هناك رائحة للمطر يحبها، وقد يعرفها البعض، كثيرون منهم ربما لازالوا أطفالا، وقد وعيتها منذ أدركتها وهى تصاحبك فى كل أوان للشتاء، أن تصفها فالأمر يحتاج إلى مزيد من محاولات، يمكن مثلا القول أنها تشبه شرفة تطل على فضاء واسع تحط عليها العصافير كل صباح وتطلق أغنياتها، أو أنها حديقة تمتد مخضرة بالعشب وتمضى حتى تتلاقى الأرض بالسماء، ثم الأهم أن لها رائحة خاصة لدى كل من يعرفها، مزيج من روائح وذكريات متداخلة ممتزجة، تضم شيئا من طفولتك ووجهى أمك وأبيك وشكل الأماكن التى أحببتها وبعض الأغنيات.
يحتاج كل منا فى الشتاء إلى رائحة المطر التى يعرفها، حين يأتي الشتاء ولا يأتي المطر أو يتمهل أو يحتجب يعتقد هو دون أن يقرأ شيئا عن ذلك، أن علم الفسيولوجى سيقول إن الإنسان يفقد كثيرا من طاقته وبهجته حتى تبادره رائحة المطر، ويضيف كما يتصور أنها تمنح الأرض لحظات بدايتها الأولى، فتعيد ربط وجودها الفلكى بالكواكب الناعسة فى المجرة الكبيرة، تلك الكواكب التى لم تكتشفها التليسكوبات العملاقة ولم تصلها السفائن ذات البشر، ربما هكذا يقول رأى ما كما أظن، وطبعا لا أتذكر أين، والدليل! ذلك الإحساس فى داخلك مستقرا واثقا، نعم الإحساس الذى يصنع روح البشر ويميز بينهم أيضا، ويصنع تاريخ الأحوال فى الدفاتر البشرية.
قبلها أمضى وقتا مطولا يبحث عن رائحة يحبها، رائحة المطر، مضى متيقنا فى وجودها فى مكان ما، وأنها لاشك ستفاجئه عبر وجه أمه فى الحلم، أو عبر رسالة معطرة فى الصباح المبكر، أو رسمة مفاجئة على غيمة مثلا، ابتسم مستبعدا ذلك الاحتمال، أو قد تكون من كل ذلك الندى المتلألئ على أوراق شجرة مجاورة، أليس هو مطر فى الأصل؟ وفقط لم يتأنى ليتتابع كمطر، أو ربما تكون هناك داخل زرقة السماء التى تطل على كامل البحر، أو يمكن أن تكون هى كل تلك الأشجار فى الحدائق تنتظر، والتى صارت ظلا يمنح المسافرين المتعبين شيئا من الود المجانى، لكنها يقينا تظل موجودة هناك، تلوح مثلما النسائم التى تحمل رائحة من نحب.

شكل الأيام ..
كيف تعرفون تغير شكل الأيام يا أهل تلك البلاد البعيدة ؟ كان يطلق السؤال كلما هم ملولا بإزاحة الستارة الداكنة الثقيلة التى تغطى كل مساحة الشباك، ليعرف أنه لا جديد، لازال لون السماء غائما، متى تشرق الشمس هنا؟، يتواصل الجو على هذا النحو ليس نهارا تماما ولا مساء تماما، فقط بين بين، ضوء يشبه ماقبل الغروب يحتل كل مساحة الليل ويمضى معه.
يقولون أن ذلك الإنطباع الأول ينشأ ويظل جاثما ويبقى، يعتبر الآن ذلك مطلقات أنهاها ما حدث وعرفه بعد ذلك، فى ذلك الصباح المبكر الذى أرخ ما بعده مستقلا، من يومها صار يعرف معنى أن يبدأ يوما جديدا، لن يكون له صلة بتغير لون السماء، ولا بأرقام أيام الشهر عبر تقويمات الساعات وهى تعلن مرور الأيام، مؤكدا لنفسه أن هذا هو التعريف الجدير بيوم جديد آخر.

دفء الأمكنة ..
يستقبله المقهى الصغير فى الشارع المطل على البحر فى المدينة الساحلية الصغيرة، تطل خجولة أشعة شمس صباح شتوى تلقى بنفسها هادئة على مقاعد تتناثر فى فوضى لا ينقصها انتظام تكتشفه الحواس فيبهج العين، فنجان القهوة الداكنة الذى لا يغادر مذاقه الفم، ثم فنجان آخر، يسأل نفسه: من أين يبدأ نبع الكلام؟، يسير فى تلك الشوارع الصاعدة الضيقة التى تحتفى بشرفات صغيرة تزينها الزهور وتقبع أسفل بعضها محلات الفاكهة والمقاهى الصغيرة التى تفتح بابها بلافتة تحية ملونة بطباشير أبيض على أرضية رمادية، كان كل شئ يصنع – رغم برودة الجو الظاهرة – دفء الأمكنة.

إعلان

إعلان

إعلان