لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

رجل الدولة وفضيلة التكتم والصمت

د. أحمد عبد العال عمر

رجل الدولة وفضيلة التكتم والصمت

د. أحمد عبدالعال عمر
09:16 م الأحد 31 ديسمبر 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

عرفت مصر منذ فجر تاريخها القديم أول دولة في التاريخ، وأول جيش وطني، وأول سلطة وحكومة مركزية، وأول تنظيم إداري لتسيير شئون الدولة؛ ولهذا حفل الأدب التهذيبي المصري القديم بشرح آداب التعامل مع الرؤساء والمرؤسين، وآداب معاملة الحكام، وشرح كيفية مجالستهم ومحادثتهم ومؤكلتهم على موائدهم.

منها على سبيل المثال، تعاليم "بتاح-حوتب" وزير الملك "إسيسي" أحد ملوك الأسرة الخامسة (عصر الدولة القديمة) وتعاليم "كاجمني" وزير الملك "حوني" من أواخر ملوك الأسرة الثالثة عش (عصر الدولة القديمة)، وتعاليم الكاتب "أمنموبي" من أقليم إبيدوس، الأسرة الثانية والعشرين (عصر الدولة الحديثة).

ولقد كان لتعاليم أمنموبي التي كتبها لابنه "حور ماخر" شهرة عظيمة في زمانه، حتى أنها كانت تُسخدم كنصوص تعاليمية في المدارس في عصر الدولة الحديثة.

من أشهرها قوله: "احفظ لسانك سليمًا عندما تُجيب على رئيسك، ولا تذمه، واحذر الاندفاع في الإجابة؛ فالإنسان يبني ويهدم بلسانه". وقوله: "لا تصغين إلى أجوبة شريف في بيته، ثم تنشره إلى آخر في الخارج".

وفي حقيقة الأمر، إن الدولة في مصر منذ القدم، كيان تاريخي قوي، ودوائر السلطة فيها لها أدبياتها الخاصة وقواعدها الحاكمة وقوانينها الظاهرة والباطنة العابرة للأنظمة، والتي يجب أن يلتزم بها الداخل إلى ذلك العالم والخارج منه.

وأبسط تلك الأدبيات والقواعد أن يتعلم الإنسان الذي اقترب ورأى وعرف، وصار رجلًا للدولة، فضيلة التكتم والصمت أثناء عمله، وفضيلة الخروج بهدوء من دائرة السلطة -مع التزام التكتم والصمت- عندما يُقال له: شكرًا لقد انتهى دورك.

والخطيئة الكبرى التي يرتكبها رجل الدولة بعد الخروج من دوائر السلطة، هي الثرثرة بما رأى وعرف، لأن الثرثرة توفر له مكسبًا ماديًا ووسيلة لاستمرار النجومية والحضور في صدارة المشهد العام.

وهي خطيئة كبرى لأن صاحبها لم يميز كرجل دولة بين ما يجب أن يُقال وما لا ينبغي أن يًقال، ولأنه بسوء فعله وثرثرته الدائمة جعل من سنوات عمره بعد الخروج من السلطة، سنوات لإبتذال القيمة والمكانة.

وبعيدًا عن هذا النموذج السلبي لرجل الدولة، ولأن الأشياء بضدها تتميز لا يسعني إلا أن أقول في النهاية: رحم الله الدكتور أسامة الباز مدير مكتب الرئيس الأسبق مبارك للشئون السياسية، الذي كان نسيجًا وحده في وعيه الوطني والسياسي والتاريخي، وفي احترامه لنفسه وللمناصب والمؤسسات التي عمل بها، وفي بساطته وقدرته على التواصل مع الجميع، مع جعل التكتم الشديد والصمت عن ما لا يجب أن يُقال أبرز صفاته وفضيلته الكبرى كرجل دولة حقيقي.

إعلان

إعلان

إعلان