إعلان

حكاية الشاعر والرئيس.. "درسٌ في الحوار الوطني"

د. أحمد عمر

حكاية الشاعر والرئيس.. "درسٌ في الحوار الوطني"

د. أحمد عبدالعال عمر
07:58 م الأحد 26 يونيو 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

على مشارف احتفالنا السبعين بذكرى قيام ثورة يوليو 1952، يُمكن القول إن ثورة 23 يوليو قد خطت في ميدان الثقافة والتغيير الاجتماعي في مصر خطوات واسعة، وأنها تركت بصماتها العميقة المؤثرة في ميادين الثقافة والفن والمجتمع.

ولهذا أظن أن من الظلم اليوم أن يقول بعضهم إن نظام ثورة يوليو زمن حكم الرئيس عبد الناصر كان يُعادي الثقافة والمثقفين؛ لأنه على العكس من ذلك كان يؤمن إيماناً راسخاً بقيمتها ودورها وجدواها في بناء الإنسان وتغييرالمجتمع للأفضل، وأنه فتح الباب لكل أصحاب الروئ الرصينة، والأقلام الوطنية لتعبر عن رأيها، وتتبنى قضايا الشعب بأي وسيلة تراها.

وإن لم يمنع هذا بالطبع من نقده ورفضه أحياناً كثيرة لمنطق تفكير وعمل وأولويات المثقفين، ومن قمعه لبعض الأفكار والممارسات التي وجد أنها قد تُهدد وتقوض مكتسبات الشعب ومخططات الثورة.

وفي مقاله القيم "أدباؤنا ومواقف لا تُنسى لعبدالناصر" الذي نُشر في العدد الخاص من مجلة الهلال بعد شهر من رحيل عبدالناصر في أول نوفمبر 1970، أورد الراحل الأستاذ "رجاء النقاش" حكاية الرئيس جمال عبدالناصر مع الشاعر نزار قباني، بعد أن نشر قصيدته "هوامش على دفتر النكسة" في أعقاب هزيمة يونيو 1967.

وقد حملت هذه القصيدة الشهيرة نقداً حاداً للذات العربية، وللتجربة الناصرية والقومية، ومُنعت بسبب ذلك من دخول مصر، وبسببها شُنّت على نزار قباني حملة قاسية في الصحف المصرية، وصلت إلى حد مطالبة بعض مدعي ومرتزقة الثقافة والوطنية بمنع إذاعة أغانيه، ومنعه من دخول مصر.

وقد دفعت تلك الحملة الشاعر نزار قباني إلى كتابة رسالة خاصة للرئيس عبدالناصر جاءت بمثابة نص أدبي بديع، وصارت وثيقة تاريخية تُثبت ما كان الرئيس جمال عبدالناصر يتسم به من سعة أفق وبُعد فكري وثقافي في شخصيته، وما اتسم به من حرص على أن ينطلق الفنان والمفكر والمثقف الواعي في التعبيرعن مشاعره الصادقة وأفكاره النقدية بلا خوف.

وحسنًا فعل الأستاذ رجاء النقاش، عندما أورد في مقاله نص رسالة نزار قباني إلى الرئيس جمال عبدالناصر، لأنها كشفت موقفا فكريا وإنسانيا لا ينسى لعبدالناصر، وهو موقف له مغزاه المهم في حياتنا الفكرية والفنية، لأنه يُعلمنا أهمية الحرص على تحرير الفنان والمفكر من الخوف والتردد والتفسيرات الخاطئة لما يكتبه أو يقوله.

ولتلك الأسباب أُعيد هنا نشر نص الرسالة مرة أخرى، بوصفها وثيقة أدبية مهمة، وحالة فريدة في نقد الذات والشأن العام، وفي الحوار بين رئيس مثقف كشفت له هزيمة يونيو مواطن الخلل والفساد في نظام حكمه، وبين شاعر قومي عربي وطني مزقت روحه وصدعت وعيه ووجوده تلك الهزيمة.

"سيادة الرئيس جمال عبدالناصر،،،،

في هذه الأيام التي أصبحت فيها أعصابنا رماداً، وطوّقتنا الأحزان من كل مكان، يكتب إليك شاعر عربي يتعرض اليوم لنوع من الظلم لا مثيل له في تاريخ الظلم.

وتفصيل القصة أنني نشرت في أعقاب نكسة الخامس من يونيو قصيدة عنوانها (هوامش على دفتر النكسة) أودعتها خلاصة ألمي وتمزقي، وكشفت فيها عن مناطق الوجع في جسد أمتي العربية، لاقتناعي أن ما انتهينا إليه لا يُعالج بالتواري والهروب، وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا.

وإذا كانت صرختي حادة وجارحة، وأنا أعترف سلفًا بأنها كذلك، فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة، ولأن النزيف يكون بمساحة الجرح.

من منا يا سيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5 يونيو؟

من منا لم يخدش السماء بأظافره؟

من منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض؟

إن قصيدتي كانت محاولة لإعادة تقديم أنفسنا كما نحن، بعيدا عن التبجح والمغالاة والانفعال، وبالتالي كانت محاولة لبناء فكر عربي جديد يختلف بملامحه وتكوينه عن ملامح فكر ما قبل 5 يونيو.

إنني لم أقل أكثر مما قاله غيري، ولم أغضب أكثر مما غضب غيري، وكل ما فعلته أنني صغت بأسلوب شعري ما صاغه غيري بأسلوب سياسي أو صحفي.

وإذا سمحت لي يا سيادة الرئيس أن أكون أكثر وضوحًا وصراحة، قلت إني لم أتجاوز أفكارك في النقد الذاتي، يوم وقفت بعد النكسة تكشف بشرف وأمانة حساب المعركة، وتُعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

إني لم أخترع شيئا من عندي، فأخطاء العرب النفسية والسياسية والسلوكية مكشوفة كالكتاب المفتوح.

وماذا تكون قيمة الأدب يوم يجبن عن مواجهة الحياة بوجهها الأبيض ووجهها الأسود معا؟

ومن يكون الشاعر يوم يتحول إلى مهرج يمسح أذيال المجتمع وينافق له؟

لذلك أوجعني يا سيادة الرئيس أن تُمنع قصيدتي من دخول مصر، وأن يُفرض حصار رسمي على اسمي وشعري في إذاعة الجمهورية العربية المتحدة وصحافتها. والقضية ليست قضية مصادرة قصيدة أو مصادرة شاعر، لكن القضية أعمق وأبعد.

القضية هي أن نحدد موقفنا من الفكر العربي، وكيف نريده؟

حراً أم نصف حر؟

شجاعًا أم جبانا؟

نبياً أم مهرجاً؟

والقضية أخيرًا هي ما إذا كان تاريخ 5 يونيو سيكون تاريخًا نولد فيه من جديد، بجلود جديدة، وأفكار جديدة، ومنطق جديد؟

قصيدتي أمامك يا سيادة الرئيس، أرجو أن تقرأها بكل ما عرفناه عنك من سعة أفق وبُعد رؤية، ولسوف تقتنع برغم ملوحة الكلمات ومرارتها، بأني كنت أنقل عن الواقع بأمانة وصدق، وأرسم صورة طبق الأصل لوجوهنا الشاحبة والمُرهقة.

لم يكن بإمكاني وبلادي تحترق، الوقوف على الحياد، فحياد الأدب موت له.

لم يكن بوسعي أن أقف أمام جسد أمتي المريض أعالجه بالأدعية والحجابات والصراعات؛ فالذي يحب أمته يا سيادة الرئيس يُطهر جراحها بالكحول، ويكوي- إذا لزم الأمر- المناطق المصابة بالنار.

سيادة الرئيس: إنني أشكو لك الموقف العدائي الذي تقفه مني السلطات الرسمية في مصر متأثرة بأقوال بعض مرتزقة الكلمة والمتاجرين بها.

وأنا لا أطلب شيئا أكثر من سماع صوتي، فمن أبسط قواعد العدالة أن يسمح للكاتب أن يفسر ما كتبه، وللمصلوب أن يسأل عن سبب صلبه.

لا أطالب يا سيادة الرئيس إلا بحرية الحوار؛ فأنا أُشتم في مصر، ولا أحد يعرف لماذا أُشتم. وأنا أطعن بوطنيتي وكرامتي لأني كتبت قصيدة، ولا أحد قرأ حرفاً من هذه القصيدة.

لقد دخلت قصيدتي كل مدينة عربية، وأثارت جدلا بين المثقفين العرب إيجاباً وسلباً، فلماذا أحرم من هذا الحق في مصر وحدها؟ ومتى كانت مصر تغلق أبوابها في وجه الكلمة وتضيق بها؟

يا سيدي الرئيس، لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه، والمجروح على جراحه، ويسمح باضطهاد شاعر عربي أراد ان يكون شريفًا وشجاعًا في مواجهة نفسه وأمته، فدفع ثمن صدقه وشجاعته.

يا سيدي الرئيس،

لا أصدق أن يحدث هذا في عصرك".

ويكفينا في نهاية عرضنا لنص هذه الوثيقة الأدبية النادرة التي أعطتنا درسًا في نقد الذات والواقع، وفي الحوار الوطني الراقي والصادق بين شاعر ورئيس جمهورية، أن نعرف أن الرئيس جمال عبد الناصر بعد أن قرأ رسالة نزار قباني ونص قصيدته المُثيرة للجدل، قد كتب بخط يده على ورقة الرسالة قرارًا بالموافقة على نشر القصيدة في مصر، وإيقاف أي إجراء ضد نزار قباني أو شعره.

إعلان

إعلان

إعلان