إعلان

"غرفة المسافرين".. نص أدبي سداسي الأبعاد

د. عمار علي حسن

"غرفة المسافرين".. نص أدبي سداسي الأبعاد

د. عمار علي حسن
07:00 م الأربعاء 06 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يجمع كتاب "غرفة المسافرين" للأديب البارع عزت القمحاوي بين أشواق كاتبه ومهارته وخبرته ورغباته في آن، ليعبر أنواعا أدبية عدة، واقف في نقطة تتلاقي عندها خطوط وخيوط موزعة على ألوان سردية ومعرفية، لنجد أنفسنا في سياحة بين فنون الرواية وأدب الرحلة والفلسفة والاجتماع والعمارة، ونعود في النهاية إلى حدود ألفناها في فن القصة ولوحاتها ومتتالياتها وحدودها التي تتعين بوضوح، لكنها تتآلف وتتشابك وتتتابع لتنصهر في وحدة فنية تتخذ من السفر موضوعا لها، بكل شؤونه وشجونه، وأحواله ومقاماته، ومباهجه وأوجاعه.

يدخل القمحاوي، دون إعلان هذا، في معارضة لمنطق الإمام الشافعي، الذي حمله بيت شعره الشهير "سافر تجد عوضا عمن تفارقه .. وانصب فإن لذيذ العيش في النصب"، حيث يجعل اللذة كلها منصرفة إلى السفر ذاته، وليس التعب والكد في سبيل العيش. فالسفر عنده، ولدى كثيرين غيره، متعة وبهجة للروح والجسد معا، بل يضيف إلى الفوائد التي حددها الشافعي للسفر حين قال:

"تَغَرَّبْ عَن الأَوْطَانِ في طَلَبِ الْعُلى .. وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ

تَفَرُّجُ هَمٍّ، وَاكْتِسابُ مَعِيشَةٍ .. وَعِلْمٌ، وَآدَابٌ، وَصُحْبَةُ مَاجِد".

فالسفر عند القمحاوي يزيد على هذه الفوائد الخمس. والإعلان عن هذا إن لم يأت في النصوص المتتابعة فقد أتى في المفتتح، إذ يقول، دون مواربة: "إليكم افتراضي الذي أؤمن به إيمانا مطلقا:

ـ من لم يسافر، ولو عبر قصة في كتاب لم يعش.

ولأنني أخشى تهمة المبالغة، ومن باب تجنب الشقاق مع قارئ أسعى إلى صحبته الحسنة، أعدل عبارتي إلي:

ـ من لم يسافر، ولو عبر قصة في كتاب، لم يعش حياة واحدة قصيرة".

إلى هذا الحد يكون السفر عند الكاتب إضافة للحياة، ناقصة هي من غيره، أو راكدة على حواف التعفن، إن لم يتحرك الإنسان نحو بلاد الله. إنها المعادلة نفسها التي سبق للشافعي ملامستها وهو يحرض على السفر:

"إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ .. إِنْ سَال طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ".

يغيب ظاهر الشافعي في النص، ويحضر باطنه، ليس بالتبني ولا بالتقمص ولا بالإحالة الضمنية، إنما بالمضاهاة واختلاف الزمن وأسلوب التعبير عن التجربة، بين شعر مقفى وسرد عرم. أما الذي يحضر ظاهرا فهو التناص مع تجارب أدبية وإنسانية حديثة ومعاصرة، عن السفر أو تدور حوله، متفاعلة مع أحواله أو مع الجوانب العاطفية، والتجارب العملية التي تخصه.

هنا نكون أمام لون مختلف من السرد لا يعتمد على جلب وجذب معارف ومعلومات إلى ثناياه، ووضعها خشنة على هيئتها الأولى الخام، أو تذويبها بمهارة وذكاء، بما لا يضر انسياب النص، دون ذكر مصدر الاستعانة والاستبانة، إنما بإحالات إلى مصادر ومراجع متنوعة على طريقة البحث في أي من حقول العلوم الإنسانية، ترد تباعا في الهامش، ويدل حاصل جمعها وتأملها على أن الكاتب لم يبث خواطره أو انطباعاته ومشاهداته في السفر، كما يرد في أدب الرحلات، ولم يعتزم كتابة متتالية قصصية أو رواية، وإلا استغني عن هذه الإحالات وأفسح مجالات للتخييل إلى جانب خبرة الواقع بأماكنه وشخوصه ومواقفه وأزمنته، ولم يقصد أن يؤلف كتابا في علم الاجتماع يتوسل بالسرد، وإلا ما كان قد حضر المجاز بشتى صورة عفيا على النحو المتوفر والوافر، وليس هو أيضا كتابا في علم النفس عن الانفعال بالسفر وما يتركه في الوجدان من تأثير، وليس هو أيضا كتابا في الفلسفة، يضعنا أمام فكرة مجردة أو ملموسة يتم درسها وعرضها بنزوع منطقي واضح، إنما نحن أمام حالة أدبية تصنع نصا عابرا للأنواع، يأخذ من سابقين دون أن ينساق خلفهم، أو يخضع لهم، أو يذوب فيهم، إنما يعيد هضم ما تركوه من فهم وإدراك وشعور حيال السفر، ويضيف إليه الكثير، حتى أنه يجعل دائمي السفر يكتشفون جديدا لم يلتفتوا إليه خلال ذهابهم وإيابهم المتكرر، وكانوا يعبرونه كثيرا دون التوقف عنه، لا بالذهن ولا بالمشاعر.

وهنا تحضر إحالات واستفادات ومقتطفات واقتباسات من روايات وقصص مثل: النداهة" ليوسف إدريس، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، و"رجوع الشيخ" لعبد الحكيم قاسم، و"حجر بيت خلاف" لمحمد علي إبراهيم، و"ألف ليلة وليلة" و"حي بن يقظان" لابن طفيل، و"تونيو كروجر" لتوماس مان، و"أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة" لستيفان زيفايج، و"1900" لأليساندرو باريكو، و"مدام بوفاري" لجوستاف فلوبير، و"لو أن مسافرا في ليلة شتاء" و"مدن لامرئية" لإيتالو كالفينو، و"عشيق الليدي شاترلي"، لـ د. ه. لورانس، و"الأشياء تنادينا" لخوان خوسيه مياس، و"ترجمان الأوجاع" لجومبا لاميري، و"هادي" ليوهانا شيري، و"دلتا فينوس" لأنابيس نن، و"تعويذة" لروبرتو بولانيو"، وبعض قصص أنطون تشيخوف، إلى جانب مسرحية "مسافر ليل" لصلاح عبد الصبور، وديوان أوراق الغرفة 18" لأمل دنقل، وديوان "جهات هذه المدينة" لوليد خازندار.

وتمتد الاقتبسات والإحالات إلى كتب مثل: معك" لسوزان طه حسين، و"أوراق شخصية" للطيفة الزيات، و"تخليص الإبريز في تلخيص باريس" لرفاعة رافع الطهطاوي، و"ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية: القرن 16 إلى القرون 18" لنيللي حنا، و"كيف تلتئم .. عن الأمومة وأشباحها" لإيمان مرسال، و"النحت في الزمن" لأندريه تاركوفسكي، و"كيفية السفر مع سلمون .. معارضات ومستعارات جديدة" لأمبرتو إيكو، و"الرحلة إلى مصر .. الوادي وسيناء" لنيكوس كزنتزاكيس، و"الماء والأحلام .. دراسة عن الخيال والمادة" لجاستون باشلار، و"الكلمات" لجان بول سارتر، و"كيف نقرأ الأدب" لتيري إيجلتون، و"اللاطمأنينة" لفرناندو بيسوا، إلى جانب دراسة "الريفيرا المصرية" لعباس خضر.

ويحال كذلك إلى أغاني "الطير المسافر" التي غنتها نجاة الصغيرة من أشعار عبد الرحمن الأبنودي، وأغنية Hurry Home to Me من أشعار شيلتون برايس، وفيلم "خادمة من منهاتن" الذي أخرجه واين يانج.

هذا التعدد لا يلغي سردية النص، ويجعلنا أمام كتابة تقريرية، أو بحث اجتماعي في موضوع "السفر" إنما يحضر فن القصة القصيرة في الخلفية، ليرسم حدود كل وحدة سردية، ويغلقها من جوانبها شتى، إلا من منفذ أو مسرب ينفتح في اتجاه وحدة أخرى، لنصبح أمام حبات عقد ملضوم بخيط ذهبي من البلاغة والرؤية العميقة والوصف والتنقل السريع في الأمكنة، وتجدد الصور والمواقف، رغم أن الموضوع واحد.

ولأن موضوع الكتاب عن السفر كان من الطبيعي أن تتوالى مفردات مرتبطة به كمسار "سياحة" و"حقيبة" و"رحلة" و"عودة" و"اتجاه" و"نقل" و"اتجاه" و"مطار" و"ميناء" و"محطة" و"مدن" و"مصيف" و"فندق"، وأخرى مرتبطة به كحالة "غربة" "شوق" و"فراق" و"نزهة" و"عجائب" و"انحطاف" و"رفيق"، وتتوالى مدن مثل روما وفينيسيا وتورينو وبوخارست وصنعاء ومرسى مطروح وسولوتورن، وغيرها، ومعها تتعدد ملامح البشر وطقوسهم، لكن هذه هذا الشكل الخارجي للتدابير لا يغمي على أن الجوهر واحد، حين يكون الإنسان مسافرا، ليصبح السفر واحدا من الأفعال التي توحد بين الناس على اختلافهم.

هذا اللون من الكتابة الذي يسهم في توسيع دوائر الأدب، كان موجودا على استحياء في تراثنا الأدبي، لكنه وقف عند الحدود الفاصلة بين المقالة والقصة أو الحكاية، لكنه لم يتطور إلى المستوى الذي صار عليه في أوروبا وأمريكا اللاتينية، حيث سعى الأدباء إلى الخروج عن الأنماط التقليدية، وأبدعوا كتابات بينية، غير مكترثين بإصرار بعض النقاد على توزيع النصوص على الخانات المتعارف عليها، والتي تكتب عنها المقالات والدراسات النقدية، وتعد الأطروحات العلمية.

وكتاب "غرفة المسافرين" ينتمي إلى هذا النوع من الكتابة الأدبية الذي استوى على سوقه هناك، ويمضي هنا في حياتنا الأدبية، غير منبت الصلة عن جذوره في ثقافتنا العربية، ثم بما وصل إليه في ثقافات أخرى, متوسلا في جميع مساراتها وقيمها وتفاصيلها وأزمنتها بفن القص أو الحكي.

ولعل المقطع الذي ورد في الكتاب تحت عنوان "رواة القصص"، قد رسم معالم الطريق الذي سلكه الكاتب دون أن يعلن فيه عن هذا بشكل مباشر، حيث يقول في مستهله: "هناك تواطؤ لا غني عنه عند قراءة رواية أو مشاهدة فيلم أو مسرحية، وكذلك عند الخروج في رحلة سياحية". ثم يفسر هذه العلاقة: "نبدأ القراءة مستريحين في أماكننا أو نرتدي ملابسنا ونتزين ونخرج للمشاهدة رغم أننا نعرف أن الوقائع غير حقيقية، لكننا نتواطأ مع الكاتب فنعتبر ما نقرأه أو نراه حقيقيا .. أعتقد أننا كذلك لا نخاطر بشيء، إذا ما ما انحنينا أمام سلطة رواة القصص في رحلتنا، فزمن الرحلة محدود، والتواطؤ يسعدهم، ويسعدنا على السواء، ويجعل للسفر جدوى".

ويشرع الكاتب بعد هذا في البوح بتصوره الذي لا يرى السفر إلا مجموعة من القصص والحكايات. ولأن الأمر على هذا النحو فهو نفسه لم يستطع تجنب الوسيلة نفسها حين كان يمضي في كتابة نص طويل عن السفر، يجعل منه المركز ثم يدور حوله ليصف لنا أشياء من طبائع الشعوب، وشكل المعمار، والتنوع الذي تتخذه الطبيعة في مناظرها، سواء في عفويتها وعنفوانها، أو حين يمد البشر إليها أيديهم.

لكن الأهم من هذا الشكل الخارجي الذي ينهمر في صيغة حكايات، هو استبطان نفوس كثير من المبدعين مع السفر، في تآلفها ونفورها، وفي قلقها واطمئنانها، وفي حلها وترحالها، ليخبرنا في النهاية، وبطرق متعددة، أن السفر بالنسبة للكاتب يعني التجدد وتنوع الخبرة وإطلاق فرصة للتأمل، والأهم هو التقاط تفاصيل صغيرة تصلح قصصا، أو أجزاء من رواية، ليس بالضرورة من خلال إعادة وصفها وشرحها كما جرت في الواقع، وإضافة شيء من الخيال إليها، إنما يمكن أيضا أن يكون ما تسمعه الأذن، وتراه العين، في السفر، ملهما لكاتب، وموسعا لمداركه، ومعمقا لرؤيته حول علاقته بالآخرين، ويمثل مددا ينهل منه معارف وقيما وتصورات، أو رافدا يسهم في "تكثيف الوجود" حسب تعبير الكاتب.

لقد سبق لعزت القمحاوي أن أبدع نصوصا بينية هي "الغواية" و"ذهب وزجاج" و"العار من الضفتين" و"الأيك في المباهج والأحزان"، وأغرق الأخير في تأملات عميقة عن حواس الإنسان، من واقع خبرة الكاتب الذاتية، وإطلاعه على تجارب آخرين، توسلت بالحكي أو فن القص، وجاء "غرفة المسافرين" ليمضي على المنوال نفسه، لكن في موضوع مختلف، احتشد له الكاتب، مستقطرا حصيلة تذوقه وتأمله وانفعاله ورغباته، ومضيفا إليها الحالات نفسها التي مر بها أناس من بني طريقه من الأدباء، أو شعراء وباحثين، ومستفيدا من حصيلة تأمله لعوام الناس في سفرهم.

وفي هذه الكتب، فتح القمحاوي الباب على مصراعيه أمام الأشياء أو الجمادات لتكون، مثل البشر، بوسعها أن تبوح،ـ وتعبر عن نفسها، وتشعر الآخرين بأهميتها، مثلما فعل الكاتب مع "الحقيبة"، في الكتاب الذي نحن بصدده، حيث أفرد لها فصلا من كتابه بدأه بالقول: "لا يحتاج الإنسان إلى المزيد من الممتلكات، بل إلى تعميق علاقته بما لديه بالفعل.هذا ما أدركته في لحظة إعداد أول حقيبة سفر. وهذه عبر بالغة، لكنها لا تجدي، فالناس لا يكترثون ـ حتى ـ لعبرة الموت".

وهذه السمة الأخيرة تجعل "غرفة المسافرين" نصا مختلفا في عالم القص المتنوع، أو بمعنى أدق فيما يمكن للحكاية أن تكون به وسيلة تعبير، وقادرة في حد ذاتها على أن تذيب الكثير من عطاءات المعرفة وألوانها ومساراتها وحقولها في مجرى سردي، يكون بمكنته أن يحوي شخصيات وأماكن ومشاهد ومواقف ورغبات ومشاعر وتطلعات وآمال لا تكف عن الانهمار، دون أن يهضم حق القارئ في تصنيف النص كيفما شاء، لكنه في كل الأحوال لا يستطيع أن ينكر استمتاعه بما يجود به القص من عطايا.

إعلان

إعلان

إعلان