إعلان

مشهد سريالي بامتياز

مشهد سريالي بامتياز

د. جمال عبد الجواد
09:29 م الجمعة 25 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

المشهد في مصر سريالي بامتياز؛ فبينما توجد بقع مضيئة لدرجة الإبهار، فإن الإهمال والتراخي المعتاد هو سيد الموقف في المساحات الواسعة البعيدة عن الضوء.

تقوم الدولة ببناء مدن جديدة شديدة التطور في كل أنحاء مصر، ويتم تنفيذ واحد من أنجح مشروعات التجديد العمراني والحضري في منطقة القاهرة الخديوية، ويجري تحويل بعض من أسوأ العشوائيات في تل العقارب ومنشية ناصر لنماذج مبهرة للتنمية الحضرية.

هذه هي المشروعات التي ينفق الرئيس السيسي شخصيا وقته في متابعتها، ولأنه من المستحيل للرئيس أن يتابع كل قرية وحي وحارة وشارع في مصر، فإن ما يحدث في أنحاء مصر الأخرى، "على قديمه" تماما.

المقصود بـ"على قديمه" ليس أن الأشياء متروكة على حالها، ولكن المقصود هو أن نفس عوامل التدهور التي تكفلت بتقويض المدن والأحياء القديمة في الماضي، ما زالت تعمل وبنفس المعدلات لتقويض أي بقعة تقع خارج الاهتمام المباشر لرئيس البلاد.

لدينا في بلادنا أنماط وطرق مختلفة للتدمير الحضري. أحدثكم اليوم عن نمط يتم بمقتضاه تحويل الأراضي الزراعية إلى أرض مبانٍ، تقام عليها الأبراج الشاهقة متلاصقة في شوارع شديدة الضيق.

ينتشر هذا النمط في كل المدن المصرية المحاطة بالأرض الزراعية، والتي يواصل سكانها في التزايد، فيما تعجز حكوماتنا عن إيجاد حل يوفر مساحات كافية لاستيعاب السكان المتزايدين بطريقة إنسانية ومتحضرة وقانونية.

هذه هي العمرانية وفيصل وبولاق الدكرور والطوابق وكفر طهرمس. إنها عشوائيات كبرى تم إنفاق المليارات لبناء أبراجها الشاهقة، وتجهيز شققها بالسيراميك والسخانات والتكييفات، ولكن ليس لكي يشعر أي أحد بالسعادة والرضا لأنه يعيش في واحد من هذه الأبراج، فكل شيء خارج البرج لا يدعو للشعور بالرضا على الإطلاق.

الشوارع في هذه المناطق ضيقة، بعد أن تم بناء كل هذه الأبراج بالمخالفة لكل قوانين ولوائح البناء على الأرض الزراعية وكردون المباني والارتفاعات. وسبحان الله، فقد تم ارتكاب كل هذه المخالفات دون أن تلاحظها أعين الإدارات المحلية؛ أما إذا بحثت في الأمر فستجد الورق سليمًا وقانونيًا تمامًا، مع أن كل شيء آخر– باستثناء الورق- غير سليم بالمرة، ومخالف لكل قواعد البيئة والتنظيم والنظافة والجمال والاتساع والارتفاع والانفتاح والانغلاق والانبساط والانبطاح، وأي شيء له قواعد تنظمه يرد على ذهنك.

قلت إن الشوارع في هذه المناطق ضيقة، وأعرضها لا يتجاوز اتساعه العشرين مترا، ومن شدة فخر الإدارة المحلية منحطة الخيال والضمير والإمكانيات بنجاحها في شق شارع بهذا الاتساع الرهيب، فإنها قررت تسميته بهذا الاسم "شارع العشرين"، ليصبح أكبر شارع فيكي يا منطقة، وفيه تتجمع جميع ألوان محلات التجارة والمقاهي والمطاعم.
هناك شارع يحمل اسم العشرين في كل واحدة من هذه العشوائيات الكبرى. ولأن شارع العشرين أعرض كثيرا من الشوارع الداخلية والشوارع المتفرعة منه، فإنه يصبح مطمعا، لأصحاب المحلات والمقاهي، بالتواطؤ مع المحليات والمرافق، الذين يستكثرون عرض الشارع على الناس، فيقتطعون بضعة أمتار من هذا الجانب، ومثلها من الجانب الآخر، لتوسيع مساحات العرض والبيع والشراء، وتوفير مساحات لنصب ترابيزات ومقاعد لاستضافة زبائن المقاهي.

على مدخل شارع العشرين – أي شارع عشرين، وفي التقاطعات الرئيسية التي يمر بها، يوجد موقف للميكروباص والتكاتك. وظيفة الميكروباص هي نقل السكان للمشاوير البعيدة، أما التوك توك فهو ضروري للمشاوير القصيرة عبر شبكة الطرق الضيقة، التي يستحيل على أي وسيلة مواصلات أخرى المرور بها.
سائقو الميكروباص والتوك توك بشر يحتاجون طعامًا يأكلونه، وشايًا يشربونه، وحجرًا يعدل الدماغ، ومكانًا يقضون فيه حاجاتهم. كل هذه الأشياء تجدها على مدخل شارع العشرين، ومعها أيضا كل ما يتخلف عن هؤلاء من زبالة– لا مؤاخذة.
كل هذا في فوضى عارمة وضوضاء مزعجة، وروائح مقرفة.
لي صديق يعيش في شارع العشرين، وصدمني أن أنباء الإنجاز السريع في المنصورة الجديدة والعلمين الجديدة، وحاجات جديدة كثيرة أخرى لم تبهره، يا ترى ليه؟

إعلان

إعلان

إعلان