إعلان

حكاية أسطورة مصرية اسمها: "ابراهيم حمدتو" -بروفايل

08:06 م الأحد 29 أغسطس 2021

ابراهيم حمدتو

كتبت-رنا الجميعي:

نعتقد أن الأساطير ما هي إلا قصص خيالية، نحكيها للصغار حتى تقوى مهارة التخيل لديهم، وكأن الواقع لا يُسعفنا بمادة مُتخيّلة، غير أن للبعض حكايات مُبهرة يمكن روايتها، فيها من قوة الخيال وأكثر، ورُبما إن قصصتها ستجد من لا يُصدّقها، لكنها موجودة بيننا، أصحابها هم أساطير يمشون على قدمين، وهذه حكاية أحدهم..

كان ياما كان صبي في سن العاشرة يُدعى "ابراهيم حمدتو"، وذات يوم كالمعتاد كان الصبي يستقل القطار من "كفر سعد البلد" إلى دمياط، ذاهبًا إلى عمله الذي يُساعد به أسرته المُكونة من أربعة أشقاء آخرين وأب وأم، لكن ذلك اليوم لم يكن مثل باقي الأيام، كان الله يُعدّ خطته، وعلى بُعد محطة من كفر سعد وقع الصبي الصغير من شدّة الزحام في المسافة الفاصلة بين الرصيف والقطار، ولم يفيق ابراهيم من غيبوبته سوى بعد ذلك بثلاثة أيام، ليجد نفسه فاقدًا ذراعيه الإثنين.

1

من غيبوبة إلى كابوس ثقيل وجد نفسه إبراهيم؛ كان مُمدَا على سرير المستشفى، ومكان يديه الاثنين ملفوف بالضمادات، رائحة المرض تفوح بالمكان وأعين أسرته المصدومة تزيغ هاربة من مُواجهته، كيف لصبي صغير مثله أن ينجو من أثر ذلك الحادث؟ ولأن عناية الرحمن دومًا موجودة، فقد وقف بجواره خاله، كان واحدًا من أبطال حياته، وأول ما فعله كان مُحاولة إفهام الطفل الصغير أن الحادث ليس أبديًا، وأن الحياة ستستمر رغم كل شيء، جعله يرى بعينيه رجلًا دون ذراعين أسس أسرته وأكمل حياته بشكل عادي، هذا ما كان يحتاج أن يفهمه إبراهيم في ذلك الوقت.

لكن كيف سيمرر ابراهيم وقته بعد ذلك؟ ظلّ لعام وأكثر داخل بيته، لا يرى أحد، بعد ذلك بدأ في الذهاب إلى مركز شباب كفر سعد حيث أصدقائه، أصبح ابراهيم يقضي الكثير من الوقت هناك، حاول لعب كرة القدم مرات عديدة، لكنه أصيب كثيرًا بسبب فقده للاتزان، بعدها بدأ يُشاهد أصدقائه يلعبون تنس الطاولة، ويقوم بدوره كمُحكّم(حكم) بينهم، وفي يوم من الأيام كان اثنين من أصحابه مُختلفين حول احتساب النقطة لأي منهما، أشار ابراهيم لأحدهم بأنه صاحب تلك النقطة، فقال له صديقه الثاني "انت كأنك بتمارس اللعبة"، فردّ عليه إبراهيم "وايه المانع إني أمارس؟".

ظلّت تلك المُحادثة ترنّ في أذن إبراهيم، كان حينها عائدًا من مركز الشباب في الواحدة صباحًا، وطيلة الطريق إلى بيته تكرر الحوار ذاته داخل عقله، حتى ظهرت فكرة قرر ابراهيم تنفيذها في اليوم التالي، لم يستطع الصبي النوم جيدًا يومها، ففي الثامنة إلا ربع صباحًا كان إبراهيم واقفًا عند مركز الشباب، ينتظر العامل عم كمال حتى يفتح له الباب، دخل ابراهيم مُسرعًا نحو الصالة المخصصة للعبة، ووقف ينظر إلى مضرب التنس الساكن عند الطاولة، ثم أخذ نفسًا طويلًا، وبعدها قام بمسك المضرب بفمه، وحدثت المُعجزة تمكّن إبراهيم من ضرب الكُرة بفمه، حدّث نفسه قائلًا "ايه ده".

4

تفاجأ الصبي ذو الثالثة عشر عامًا، ولم يُكرر اللعب ثانية، انتظر حتى خلا مركز الشباب من الجميع، ولم يبقى سواه وعم كمال، جرّب ثانية ضرب الكُرة بفمه نحو الحائط، حتى ترتدّ إليه مرة أخرى دون حاجة لطرف آخر، كرر إبراهيم ذلك عدد من المرات لفترة طويلة في الخفاء، حتى أنه وجد طريقة لإمساك الكُرة عن طريق أصابع قدميه، احتاج الأمر مجهود كبير منه، لكنه ما إن تمكّن من ذلك، حتى أعلن لأصدقائه أنه قد صار لاعبًا لتنس الطاولة، وكانت أول مباراة حقيقية يلعبها في مواجهة صديقه الذي سخر منه، ولأن الواقع أقوى من الأساطير فقد فاز إبراهيم بمُباراته، وارتسمت الابتسامة على وجهه لأول مرة منذ سنين.

مهار إمساك المضرب بفمه لم تأت للصبي الصغير من فراغ، فقد كان قبلها يستخدم فمه بديلًا عن اليدين في إمساك القلم، إبراهيم كان عنيد وصبور، فحينما تم إلحاقه بفصول المكفوفين في الإعدادية الأزهرية كان مُمتعضًا جدًا، ففي تلك الفترة في الثمانينيات من القرن الماضي لم تُتاح له فرصة تعليم أفضل من ذلك، فقد اعتُبر ضمن صفوف المكفوفين كونه لا يكتب بيديه، ويحتاج إلى مُرافق، لكنه لم يستسلم، تمرّن كثيرًا على إمساك القلم بفمه إلى أن تمكن من الاستغناء عن المرافق، وليس ذلك فقط، حتى صار خطاطًا ماهرًا.

ذلك الإصرار كان سمة مميزة لإبراهيم، لكنه لم يكن بمفرده في ذلك الطريق الطويل، حالفه الحظ بوجود عدد من الآباء الروحيين بجواره، كان أولهم خاله الذي أحبّه كثيرًا، حتى أن إبراهيم كان يُحدّث نفسه أحيانًا "أخاف أحلم وأقول الحلم لخالي ليحققلي الحلم"، فكل طلباته كانت مُجابة، أما الرجل الثاني الذي ساند إبراهيم في رحلته فقد كان كابتن عزت كمال.

3

ذات يوم سمع إبراهيم عن افتتاح مركز للمعاقين بدُمياط، تحمّست إدارة مركز الشباب الذي يلعب فيه الصبي بعد ما شاهدوا مهارته في اللعب، بالفعل ذهب إلى هناك واستقبلته إدارة المركز التي اندهشت من ذلك الصبي الذي يلعب بفمه ويُلقي الكرة بقدمه العارية، وفي الصالة الرياضية شاهده كابتن عزت كمال لأول مرة، كان يلعب بمهارة عالية، انبهر كمال مما رآه، وقال له "انت معجزة".

انقلبت حياة إبراهيم منذ تلك اللحظة، بعدما كان حُلمه البسيط أن يصير مثل الرجل الذي رآه دون ذراعين، أن يتمكن فحسب من تأسيس أسرة جميلة، لكنه منذ تلك اللحظة صارت أحلامه أكبر، فحينما علم من هو كابتن عزت كمال فرح كثيرًا، فقد كان اسم الكابتن مشهورًا في دمياط كلها، واحترف ابراهيم اللعبة على يديه، فقد كان إبراهيم يحتاج تدريب من نوع خاص، كون حركة جسمه تختلف عن اللاعب العاديَ، وهو ما استوعبه كابتن كمال.

2

أسطورة ابراهيم لم تنتهِ عند هذا الحدّ، فقد كانت تلك البداية فقط، اتسعت جُعبة أحلام الصبي الذي صار شابًا ثم كهلًا، فمن بُطولة لأخرى حتى حصل على الميدالية الفضية في بطولة أفريقيا للفرق عام 2011، ثُم المركز الثاني في بطولة أفريقيا ومصر الدولية عام 2013، وبعدها فاز بجائزة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم للتفوق الرياضي، ومن نجاح لآخر وضع إبراهيم البارالمبياد نُصب عينيه، وبالفعل تأهل إلى أكبر بطولة رياضية مرتين، الأولى في ريو دي جانيرو 2016، والثانية في طوكيو هذا العام التي حلّ فيها كشخصية "أنمي" بجانب تميمة الألعاب البارالمبية، وهي المرة الأولى التي يظهر فيها رياضي مصري بهذا الشكل الاحتفالي.

لم يحصل إبراهيم في كلتا البطولتين على أي ميدالية، وفي طوكيو غرق وجهه بالدموع في المُبارتين اللتين لعبهما أمام غريميه الصيني والكوري، لكن الأسطورة التي حققها إبراهيم لا تهتزّ بالخسارة، فما وصل إليه الصبي الذي فقد ذراعيه أكبر بكثير من أية بُطولة.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان