إعلان

"مساعدات غزة".. أكثر من مجرد صناديق طعام (قصة مصورة)

06:46 م الثلاثاء 21 يناير 2025

مساعدات غزة

قصة/صور-مارينا ميلاد:

"يا رجل، أحتاج إلى الطعام".

قالها "عبد الرحمن"، وهو يبكي، لمسؤول يرتدي شارة برنامج الأغذية العالمي في خان يونس (جنوب غزة).

خلف هذا الرجل، كان فريق يوزع الأرز الساخن والخبز لحشود بائسة، مُحطمة مثل المباني التي تحيطها، تتدافع لملء أوانيها. فخشى "عبدالرحمن"، وهو صبي لم يتجاوز عشر سنوات تقريبًا، أن ينفد الطعام الذي وفره البرنامج قبل أن يأتي دوره.

وتلك الكميات من الأرز والدقيق فلتت بصعوبة من معبر كرم أبو سالم الإسرائيلي، وهو واحد من الممرات القليلة المتاحة خلال الفترة الماضية لتوصيل مساعدات لا تكفي بأي حال من الأحوال.

في وقت، كانت أطنان من الأرز والدقيق تتراكم داخل مخازن مؤسسات خيرية في مصر، على بعد نحو 300 كم. صناديق يمكنها سد رمق "عبدالرحمن" ومن مثله، لكنها ظلت تنتظر أشهر طويلة حتى يأتيها قرار وقف إطلاق النار وفتح معبر رفح مرة أخرى لتنطلق منه. وقد جاء مفاجئًا مع بداية هذا الأسبوع.

إنها صناديق طعام صغيرة وبسيطة، لا تستحق العناء والحَذر على ما يبدو. لكنها أحيطت بدراما كبيرة وكثير من الحسابات والقرارات، أثرت على حامليها ومستقبليها معًا، وجعلتها - خلال 466 يومًا من حرب غزة- أكثر من مجرد صناديق طعام؛ إنما أوعية تحمل معها مشاعر مختلطة من الأمل والألم والإحباط وقدر كبير من الصَبر والتحمل.

بلبيس – الشرقية، مع شروق شمس اليوم التالي للإعلان عن إتمام اتفاق غزة، فُتح باب مخزن مؤسسة مِرسال الخيرية على آلاف صناديق الكرتون المتراصة داخله، وقد غطت الأتربة سطحها، لتشير إلى طول المدة التي انتظرتها على هذا الحال.

وقف أمامها المتطوعون الذين توزعوا في أنحاء المخزن، لتتولى كل مجموعة منهم أمرها، ويتم فرزها وترتيبها وإعادة تغليف التالف منها.

وفي الخارج، كان متطوعون آخرون ينزلون من الحافلات فوج بعد الآخر قادمين إليها. فقد تدفقت الاتصالات ونشطت مجموعات "الواتس أب" فيما بينهم ليلا، لتخبر الجميع: "استعدوا، سنتحرك لنكون جاهزين عند فتح المعبر".

تتزحزح إحدى الصناديق عندما مالت بسنت عامر بجسدها نحوها، فكانت الفتاة الثلاثينية تشعر بالإعياء، لكنها أصرت على المواصلة. فأمسكت بورقة تحمل أسماء المتطوعين، وهي مسؤوليتها بالمؤسسة مع 15 آخرين، لتنُظم مهامهم، توزع عليهم المياه، وتوفر لهم الأدوات.

لم تصدق أنهم عادوا إلى هنا مرة أخرى بعد كل هذا الوقت. فتقول المحامية التي أحبت العمل التطوعي أكثر من أي مجال آخر: "أشعر بنفسي في هذا العمل، تطوعت من قبل عدة مرات، لكن غزة ليست كغيرها، لدي إحساس أن ما أفعله يشعر به آخرون يبعدون عني كثيرًا".

فالصندوق الذي تسند عليه ويحوي عشرات الأكياس من الدقيق، يمكنه أن يقلل ساعات انتظار الطفل "عبدالرحمن" أمام المخبز بخان يونس حتى يحصل على رغيف واحد من المفترض أن يكفيه اليوم كله أو سيقلل من سعر كيس الدقيق، الذي يزن 25 كيلوغرامًا ويُباع بنحو 150 دولارًا أمريكيًا. ولم يقدر "عبدالرحمن" وكثيرون غيره على شراؤه.

وإلى زاوية مكتب يجاور الصناديق وتتناثر عليه الأوراق، جلست "بسنت" لتجيب على سيل من الرسائل للراغبين في التطوع. في ذلك الوقت، وصل حسن الحسيني (السائق) إلى المخزن بعد أن قطع ساعتين ونصف من محافظته "كفر الشيخ". في تلك اللحظة، كان يدور في رأسه صدى صور لأزمته خلال الطريق. والحقيقة؛ أنها لم تفارقه طوال أشهر التوقف الماضية.

فأمثال تلك الصناديق المتراصة بالمخزن الآن، ذهبت معه منذ أول قافلة أخذت طريقها إلى غزة بعد فترة وجيزة من الحرب. ثم توالت الصناديق وتوالت الرحلات. وشاركه في الفعل نفسه أولاد أعمامه (12 شخصا)، الذين يعملون سائقين أيضًا ورافقوا الصناديق الآتية من مؤسسات أخرى.

وقتها، لم يتخيل الرجل البالغ 35 عامًا أن هذه الصناديق ستأخذه إلى حيث ما يراه بالتليفزيون، كما يحكي، أن يشق طريقه بين شوارع مدمرة، وتمر الصواريخ فوق رأسه، وتخترق الشظايا إطارات سيارته، ويتهشم زجاجها، ويتدافع الأهالي نحوه من شدة جوعهم، فيقود ببطء وهو يبكي.

لا ينسى الرجل المرة الوحيدة التي تجاوز فيها رفح واتجه إلى نقطة أبعد، وطأها في غزة وهي "خان يونس". يومها أوقفه الزحام، وأوقع صناديقه، التي سقطت إما بأيدي مُحتاجيها أو سارقيها، ولم تصل إلى مقصدها بالنهاية، حيث مستودع الهلال الأحمر الفلسطيني.

وبدلا من أن يخيفه كل ذلك في كل مرة يتذكره، دفعه للعودة مجددًا، وظل ينتظر أن يرى الصناديق ويحملها مرة أخرى كما يجري الآن. فيقول: "شعرت في الأشهر الماضية بالإحباط كلما شاهدت الناس تموت من الجوع، فتمنيت أن نعود لما نفعله".

توقفت رحلة الصناديق إلى غزة عبر معبر رفح منذ مايو العام الماضي، لأنه "صار مسرحًا للعمليات العسكرية وخطرًا على سائقي الشاحنات"، وفوق ذلك، "التعنت في توصيل المساعدات من الجانب الاسرائيلي"، وفقا لما ذكره سامح شكري (وزير الخارجية المصري السابق) حينها. ثم تمسكت مصر طوال الأشهر التالية بموقفها: "رفض استمرار التواجد العسكري الإسرائيلي على الجانب الفلسطيني من معبر رفح".

وقتها؛ عادت آلاف الصناديق المحملة على 7 شاحنات أدراجها إلى المخازن. وكان يرافقها إبراهيم عبدالله (منسق القوافل بالمؤسسة)، الذي قضى شهر رمضان الماضي كله أمام المعبر بانتظار أن يأتِ دورهم، لكنه لم يأتِ.

أغلق باب الشاحنة لتُظلم على الصناديق المحشورة داخلها، وساعتها، ارتسم على وجه "إبراهيم" الكثير من اليأس، فيقول: "كنا متعبون ونريد أن نصل لهم بأي طريقة".

غادرت تلك الصناديق و"إبراهيم" المعبر، وخلفهما، كان "عبدالرحمن" يأكل مع أسرة غريبة بعض البازلاء داخل الخيمة.. ينتظرون جميعًا أن يسمعوا خبر دخول شاحنات جديدة قد عبرت إليهم، لكن جرت الأنباء بما لا تشتهي الأنفس وبلغهم إغلاق المعبر!

ومن بعدها، لم تنجح أغلب صناديق المساعدات التي اُسقطت جوًا من جانب عدة دول أن تنزل بأماكنها الصحيحة، بل تهافت عليها الأهالي وعمت الفوضى (اقرأ: الحياة ثمن وجبة| وقائع الموت في غزة لأجل الطعام). كما لم تغنِ الصناديق الشحيحة التي سمحت إسرائيل بإدخالها؛ فالطعام الذي سُمح لبرنامج الأغذية العالمي بإدخاله "لا يلبي سوى ثلث الاحتياجات الضرورية لإطعام أشد الناس جوعًا"، بل واضطر البرنامج - وفقا لما ذكره- لتقليص حصصه الغذائية مرة بعد مرة.

وبالنسبة لأولئك الذين يبقون بشمال غزة المحاصر، كان الوضع أسوأ بكثير من مكان "عبدالرحمن"، فقد لا تصل له أي إمدادات تقريبًا لمدد تقارب الشهرين، في وقت "تمنع القوات الإسرائيلية بشكل منهجي الوصول إلى سكان يحتاجون للمساعدة، وتعقد مهمة إيصال المساعدات إلى منطقة حرب لا تخضع لأي قانون"، وفقا لينس لايركه (المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية). وفي المقابل، تنفي إسرائيل.

الآن، تتجهز الصناديق بعد فتح المعبر أبوابه مرة أخرى، ليدخل نحو 600 شاحنة يوميًا، وفقا للاتفاق. وقد خرج منها خلال الفترة الماضية المنتجات التي اقترب موعد انتهاء صلاحيتها. ففُصل منها نحو 15 ألف صندوق، بها معلبات "بيف" وألبان عادوا إلى مورديهم، وبسكويت وُزع على أطفال، وفقا لأحمد جبريل (منسق القوافل) الذي يعمل جنبا إلى جنب مع إبراهيم عبدالله.

وشُكلت الصناديق هذه المرة بترتيب جديد، لتحمل الشاحنة منتجات متنوعة وليس صنف واحد. فتصعد الحوامل الخشبية أو ما يسموه (البلته) إلى داخل الشاحنة، وفوقها صناديق تزن ما بين 700– 800 كيلو؛ مُقسمة بين أصناف غذائية مختلفة، "يمكنها أن توفر قيمة غذائية، تكفي أسرة واحدة لأسبوعين، وفي نفس الوقت تتحمل النقل والتخزين مثل المعلبات والأشياء غير قابلة للكسر"، حسب ما يوضح كل من "إبراهيم" و"جبريل".

وبعد عدة ساعات، استقرت الصناديق في مكانها داخل الشاحنة. فراح "حسن" السائق يؤمن على الإطارات ويضع زيت وجاز وخلافه، ويُجهز مؤنه الغذائية والمياه في ثلاجة العربة. وبمجرد أن انتهي، قال: "هذا ما اعتدت عليه طول فترة عملي بالقوافل، فلا أعلم المدة التي سأنتظرها أمام المعبر".

في الأوقات العادية، من الممكن أن تنتظر الصناديق ومعها "حسن" ما بين ثلاثة أيام حتى أسبوع بحسب عدد الشاحنات، لكن المدة طالت ذات مرة إلى شهر كامل؛ في حين مكث ابن عمه (السائق أيضا) سبعة أشهر!. وفي هذه الحالة، تأتِ عربات أمام المعبر مُحملة بمياه وطعام لهم. يتذكر "حسن" تلك الليالي، ووقت أشعل الأخشاب مع زملائه ليحتموا من البرد.

وعلى بعد بضع كيلوهات منه، كان "عبدالرحمن" يشعل مع الأسرة التي يجلس عندها، الأخشاب أيضًا، لكن لتسخين آخر ما تبقى من طعام استطاعوا جمعه بعد عذاب، فلا يتوفر أي غاز طهي لديهم.

باتت الصناديق مستعدة لرحلتها. تحرك معها "حسن" و"إبراهيم" و"جبريل" حتى بوابات الإسماعلية، حيث عليها أن تصطف عند السادسة صباحًا مع آلاف الصناديق الأخرى الموجودة داخل سيارات التحالف الوطني للعمل الأهلي، الذي يضم نحو 36 مؤسسة، ليمضوا في طريقهم سويًا.

وبينما كانت الصناديق في حالة جيدة داخل الشاحنة، بدا على "جبريل" ومن معه الإرهاق الشديد، فتكلم عن أن ضغط الوقت يمثل أكبر صعوبة أمامهم، فيقول: "يمكن أن نظل 48 ساعة أو أكثر لا ننم، عندما لا نعرف ما القادم من المساعدات أو متى سنتحرك بالضبط مثلما حدث هذه المرة".

ثم سَرت الأنباء إلى الشاحنة عبر الراديو أن القصف لازال مستمرًا حتى الساعات الأولى من صباح أول أيام الهدنة بحجة "انتظار إسرائيل قائمة حماس بأسماء المحتجزات المفرج عنهم". دب فيهم القلق عند سماعها، خشوا أن يتغير الوضع برمته ويعودوا من حيث جاءوا؛ بالأخص "حسن"، فسبق وعاد بعد أن كان داخل المعبر نفسه.

قفز هذا المشهد إلى ذهنه في تلك اللحظة: "كنت على بعد خطوات، بيننا سور، رأيتهم يركضون والقصف متواصل عليهم، فرجعت وأحسست بعجز لم أشعر به من قبل".

ينتظر "عبدالرحمن" ومن معه هذه الصناديق بفارغ الصبر، في وقت يقضى التدافع والاختناق في طوابير الطعام على حياة من حوله. وبلغ التوتر أشده حينها؛ فلا يعلم ما سيحدث بين دقيقة وأخرى، وإن كان القصف سيصل أولا أم المساعدات.

ومثلما مرت الساعات الأخيرة قبل بدء الهدنة بطيئة وثقيلة على"عبدالرحمن"، كانت كذلك على "حسن" و"جبريل" و"إبراهيم" الذاهبين إليه. ظلوا على أعصابهم، ألا يرن هاتف أحدهم ويأتيهم خبر يُغير خطتهم.

تذكروا جميعًا في طريقهم ما تحملوه لأجل وصول هذه الصناديق أو "ما علمته لهم". فلم يكن "إبراهيم" يتوقع "أن يملك قدر كبير من ضبط النفس وهدوء الأعصاب"، كما يقول، حين اتجه إلى معبر العوجة (40 كم جنوب معبر رفح)، حيث نقاط التفتيش الإسرائيلية لدخول المساعدات إلى غزة. فيقول: "كنت مع عربات الإسعاف لمدة 26 يومًا حتى يدخلوا واستمرت الإجراءات ثلاث أيام أخرى.. فلا يمكن أن أصف شعوري وأنا أقف على الأرض هناك". وبالمثل، كان "حسن" الذي يضاف عليه الالتزام بتعليمات التعامل والقيادة والسرعة لإنجاز المهمة.

وفي كل مرة ذهب فيها "حسن" مع صناديق المساعدات، ظل الحديث بينه وأمه يتردد على مسامعه، وقت خشت عليه من هذه الرحلة، فقال لها بثقة "نعمل عمل خير، سلميها لله". وما كتمه ولم يخبر به أمه، أن يقينه هذا لم يمنع خوفه، خاصة أن لديه طفلين (7 سنوات، 6 سنوات)، لكن "كلما تذكر أن أطفال مثلهم جوعى وينتظرونه؛ فيتغلب على مخاوفه ويتحمل كل شيء"، كما يقول.

يتنهد تنهيدة عميقة ويكمل: "لم أكن أعرف أنني يمكنني فِعل ذلك".

تصل الصناديق أمام معبر رفح وتصطف الشاحنات في خط ثابت. ثم تطلق صافرتها الصاخبة احتفالا ببدء الهدنة بعد تأخرها لساعات، وفتح باب المعبر في وجهها.

حصل "حسن" على رقم دوره بكشف الشاحنات، وظل ينتظر اتصال الهلال الأحمر المصري ليدخل إلى غزة، التي تعمها الاحتفالات، ويعود ناسها إلى بيوت مُحيت أغلبها من الوجود، وعلى جانبهم أمواج البحر التي تعطي إحساسا زائفا بالراحة، وعلى الجانب الآخر، جبال من الأنقاض يتصاعد منها الدخان الأسود.

في لحظات الانتظار تلك، تذكر ذلك الصبي الصغير الذي قابله يومًا في خان يونس، وحدثه من النافذة: "أريد بيض"، قالها الصبي الذي يصفه "حسن" بأنه ذو وجه نحيل ولا يزيد عمره عن عشر سنوات.

"هل معك أحد؟"، سأله "حسن"، فأجابه الصغير بالنفي.

ربما يكون هذا الصبي هو نفسه "عبدالرحمن"، وهو واحد من 2 مليون شخص متبقين من سكان غزة، وصار ضمن نحو 35 ألف طفل فقد أحد أو كلا الوالدين.

فكر "حسن" وهو يخطو نحو بوابة المعبر: هل سيلتقيه مرة أخرى؟، وتمنى أن يكون نجا ويصله صندوق المساعدات.

اقرأ أيضا:

اتفاق غزة: مُهمة حصر أرقام "الموت والدمار" مستمرة

ذكريات مُلغمة.. ركام حرب غزة يهدد حياة الناجين

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان