بين بيروت وعكار.. «زينة» تتطوع لرفع أنقاض «أحزان لبنان»
كتب- عبدالله عويس:
بين نترات «المرفأ» وبنزين «عكار».. كان اللبنانيون على موعد مع الموت حرقا مرتين في أغسطس الحزين، والذي قدر له أن يكون شهرا لاندلاع حمم بركان الفساد في لبنان، البلد العربي المأزوم.
لم يمر سوى 11 يوما، على الذكرى الأولى لمأساة المرفأ، أحد أكبر الانفجارات غير النووية في العالم، حتى استيقظ لبنان صباح الأحد الماضي، على انفجار صهريج للوقود صادره الجيش، كان مواطنون يحاولون تعبئة الوقود منه في ظل شجار نشأ بينهم.
وما بين الانفجارين، حاولت «زينة حيدر» مساعدة الضحايا وذويهم، بتبرعات وأدوية، ومأكل ومشرب للمحتاجين. في خضم أزمة اقتصادية وصفها البنك الدولي بالأسوأ منذ عام 1850.
على بعد أمتار من مستشفى السلام في طرابلس، التي ضمت أكبر عدد من ضحايا حادث انفجار الصهريج، البالغ عددهم 28 قتيلا على الأقل، وقفت «نور غزاوي» تتابع مشهد خروج جثامين الضحايا، في سيارات الهلال الأحمر، تمهيدا لتشييعها صباح اليوم، الأربعاء.
تعمل نور ضمن فريق تطوعي لإغاثة المصابين، أسسته زينة منذ عام. وكانت بالمستشفى لتلبية احتياجات بعض المرضى وتقديم العون لهم. وكان المشهد قاسيا على الشابة التي تتعرض لضغوط نفسية كبيرة، جراء ما تعاينه من أزمات في لبنان.
تزاحم على الموت
صادر الجيش اللبناني صهريجا ممتلأ بالوقود، مخبأ في قطعة أرض ببلدة التليل بعكار شمالي البلاد. وحدث شجار بين المواطنين الذين كانوا يحاولون الحصول على الوقود، قبل أن ينفجر الصهريج، ويفجر معه حالة من الغضب.
على إثر الحادث، أحرق بعض الأهالي منزل صاحب خزان الوقود. كما حطم المحتجون الواجهة الزجاجية لمنزل رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي. الذي صرح في وقت سابق بأن ما حدث «يستصرخ ضمائر الجميع للتعاون لإنقاذ اللبنانيين مما هم غارقون فيه من ويلات ونكبات وإهمال». فيما وجه الرئيس اللبناني ميشال عون بإجراء تحقيق لكشف ملابسات الانفجار.
ومثل بقية اللبنانيين، تتابع زينة ذات الـ30 عاما، مشاهد الطوابير الطويلة للحصول على الوقود. وقبل أسبوع، بدأت الأزمة في التفاقم على وقع إعلان المصرف المركزي اللبناني توقفه كليا عن دعم استيراد المحروقات، وتأمين الاعتمادات اللازمة لاستيراده وفق سعر الدولار بالسوق، وهو يصل إلى 20 ألف ليرة للدولار.
ورجحت دراسة أعدتها «الدولية للمعلومات» وهي جهة أبحاث خاصة، زيادة سعر صفيحة البنزين من 75 ألف ليرة إلى 336 ألفا، وصفيحة المازوت، من 57 ألف ليرة إلى نحو 279 ألفا بعد قرار رفع الدعم عن المحروقات. وترى زينة أن ذلك سيزيد اللبنانيون أعباء على أعبائهم.
عزز ذلك من عملية الاحتكار، ما دفع الجيش اللبناني منذ أيام للبحث عن وقود مهرب أو مخزن، كما يقود حملة لفتح محطات البنزين المغلقة. وكان الصهريج جزءا من تلك الحملة: «لا حل لما يحدث في لبنان سوى بالقضاء على الفساد، الذي أصبح مستشريا في كل قطاع، وأي حديث عن حلول أخرى فهو من قبيل العبث» تحكي زينة.
الانفجار الكبير
عقب الحادث، سارعت زينة إلى مساعدة الضحايا، كجزء من عملها الخيري التطوعي رفقة 11 مواطنا تعرفت عليهم من على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن لهذا العمل تاريخ يعود إلى حادث أكبر.
«كان الانفجار في مرفأ بيروت أكبر من أيادينا البيضاء، حاولنا إنقاذ لبنان ولو بقليل ما نملك» تحكي زينة، التي بدأت بشكل فردي توزيع بعض المساعدات للمحتاجين، بعد استغاثات على مواقع التواصل الاجتماعي، في أعقاب انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس 2020. لكن ذلك فاق استطاعتها.
الانفجار وقع بعد شهور من احتجاجات بدأت في أكتوبر 2019، قادها لبنانيون لمواجهة الفساد المستشري في كل القطاعات، وردا على فرض رسوم مالية أقرتها الحكومة، على الاتصالات المجانية عبر التطبيقات. وتجاوزت الاحتجاجات الانتماءات الطائفية والحزبية، التي ميزت لبنان عبر عقود.
على أن سحب دخان المرفأ، حملت إلى جانب 214 قتيلا، ومئات المصابين، عجزا اقتصاديا أثقل كاهل اللبنانيين، المثقل بالأساس، على خلفية أزمات المصارف، ووباء كورونا، وغياب العديد من الخدمات الأساسية للمواطنين. وبحسب زينة التي درست الصحافة فإن «الوضع صار أصعب على الناس، خسر الكثيرون أعمالهم ومصادر رزقهم، وتعطلت الحياة».
وكان البنك الدولي قد قال في تقديرات سابقة، إن تكلفة الأضرار المادية التي سببها انفجار المرفأ، ما بين 3.8 و4.6 مليار دولار، وقدر البنك إعادة الإعمار والتعافي بنحو 1.8 و2.2 مليار دولار: «فماذا أفعل أنا بشكل شخصي في ظل هكذا ظروف؟» تتسائل زينة.
على مواقع التواصل كانت حدة الاستغاثات تتعالى، ومع مساعدة زينة لبعض المتضررين، لجأ إليها كثيرون لتحويل مساعداتهم إلى مستحقيها، فبحثت عن أشخاص آخرين ليعاونوها: «ووجدت كثيرين من الشباب يودون المساعدة، ومنذ ذلك الحين تكون لدي مجموعة قوامها 11 فردا يقدمون المساعدات».
في أمل!
آية وأحمد وعلي وروعة وإسماعيل ومروى وسلوى.. بعض الشباب الذين بدأوا العمل مع زينة في مساعدة المحتاجين في لبنان، سواء خلال حادث مرفأ بيروت، أو ما تلاه من أيام. وأطلقت الشابة على المجموعة اسم «في أمل».
والاسم مرتبط بالأذهان بأغنية فيروز، المطربة اللبنانية، التي كان لها ظهور تلى انفجار المرفأ، حين زارها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومنحها وسام جوقة الشرف الفرنسي، أعلى تكريم رسمي في فرنسا.
وكانت زيارة ماكرون للبنان في إطار دعوته لإجراء إصلاحات عاجلة، وتشكيل حكومة، خلفا لحكومة حسان دياب الذي استقال بعد انفجار المرفأ. وحتى اللحظة لم تتشكل حكومة في لبنان بعد: «لأن الجميع يبحث عن المناصب والكراسي، ولا يشغله بال المواطن» قالتها زينة.
وأُوكل إلى مصطفى أديب تشكيل الحكومة، قبل أن تتعثر المفاوضات، ثم أوكل الأمر إلى سعد الحريري، الذي استقال أيضا من المنصب بعد تعثر تشكيل الحكومة، بعد ذلك دخل نجيب ميقاتي على الخط، لكن بلا فائدة حتى اللحظة، بسبب الخلافات الطائفية.
تتذكر زينة كل هذا، فتقول «على ما يبدو ما في أمل، زعماء هذا البلد بلا رحمة، وها هي الكوراث تتكرر حتى رأينا ما حدث في عكار». وفي ظل التحديات التي يواجهها لبنان، وبحسب البنك الدولي فإن «هناك تقاعس مستمر في تنفيذ السياسات الانقاذية، في غياب سلطة تنفيذية تقوم بوظائفها كاملة (...) ولا تلوح في الأفق أني نقطة تحول واضحة»
مجهود فردي
وتقوم زينة بجمع فريقها داخل منزلها، وتدون كل ما وصل إليهم من مساعدات، ولكل فرد في المجموعة عمله الخاص، وتكلف الشابة بعضهم بمهام بعينها. وتوثق بالصورة وصول الأغراض لمستحقيها. ويساعدها زوجها في هذا الأمر كثيرا، كما يتولى في بعض الأوقات رعاية طفليها حال انشغالها عنهما.
ومع انفجار صهريج الوقود في عكار، بدأت الشابة في البحث عن أدوية ومستلزمات طبية كالقطن والشاش وأدوات التعقيم، إضافة إلى أغذية للمصابين وذويهم خلال تلك الفترة. ومن ثم اتجه بعض أفراد فريقها إلى مستشفى السلام بطرابلس لتوزيع ما حصلوا عليه على المرضى.
ويعيش لبنان أزمة حادة في الكواشف والمستلزمات الطبية، وبحسب بيان لنقابة المستشفيات اللبنانية، في يونيو الماضي، فإن «المستشفيات اضطرت لتقليص عدد حالات دخول المرضى إلى المستشفيات بسبب نقص المستلزمات».
وتجد زينة صعوبة في الحصول على الدواء، الذي ارتفع سعره كثيرا خلال الفترة الماضية، عقب إصدار وزارة الصحة لوائح بالأسعار الجديدة للأدوية، على سعر صرف 12000 ليرة للدولار، بعد أن كان 1500 ليرة. لترتفع أسعار الأدوية ما بين 4 و6 أضعاف: «لدى بحثنا عن بعض المراهم كانت بعض الأسر تعطينا ما لديها من مخزون، أو حتى ما كانت تستعمله بشكل شخصي».
ويستغل البعض ذلك الاحتياج للأدوية بحسب الشابة، فيقومون برفع السعر في السوق السوداء بشكل كبير، علاوة على بحثها عن بدائل للأدوية التي يكتبها الطبيب للمصاب.
وتستخدم زينة ورفاقها وسائل التواصل الاجتماعي في مناشدة الكثيرين بالتبرع بأدوية وأدوات طبية، وتلقى تفاعلا مقبولا، لكن ذلك لا يكفي برأيها: «هذا مجهود فردي، لكن أين دور الحكومات؟».
أعباء متزايدة
تقول زينة، والتي تتولى تنظيم عمل مجموعة «في أمل» إن البعض قد يوفر لها النقود في حين تشتري هي المستلزمات المطلوبة للمحتاجين عموما، كألبان الأطفال للأسر الفقيرة. وتروي مشاهدات لبعض الأسر التي تتبرع بالفائض الذي لديها من ألبان: «مسلمون ومسيحيون يقومون بالتبرع، في مثل هكذا ظروف لا مكان للطائفية المقيتة، ونحن أنفسنا لا علاقة لنا بالسياسة».
ويرجح تقرير صادر عن البنك الدولي في يونيو الماضي، أن يكون أكثر من نصف سكان لبنان تحت خط الفقر، وتراجع قوتهم الشرائية، وهي أمور ترى زينة ظلالها على أرض الواقع، وهي تستجيب لمئات المناشدات من المحتاجين، الباحثين عن مأكل ومشرب.
ويعيش لبنان حالة اقتصادية صعبة، يعاني على إثرها أهله البالغ عددهم نحو 8 ملايين، غيابا في الخدمات، وقلة المعروض من الطعام، واختفاء الأدوية، وانهيار العملة الرسمية أمام الدولار الأمريكي، الذي وصل سعره في البنوك الرسمية إلى 3850 ليرة لبنانية. لكن السعر يتجاوز ذلك بكثير في السوق السوداء، بواقع 19100 ليرة لكل دولار.
كان لذلك تأثير على المساعدات التي تقوم بها زينة ومجموعتها، فأسعار السلع مرتفعة، والحصول على أدوية يدفعها للبحث في السوق السوداء، حيث ترتفع الأسعاربشكل كبير.
وتراجع الناتج المحلي في لبنان من حوالي 55 مليار دولار أمريكي في 2018، إلى 33 مليار دولار في 2020، وتراجع إجمالي الناتج المحلي للفرد بنسبة 40% بحسب البنك الدولي. وفي تقرير «مرصد الاقتصاد اللبناني لخريف 2020» الصادر منذ شهرين وصفت الأزمة التي يتعرض لها لبنان بـ«الكساد المتعمد». وانكمش إجمالي الناتج المحلي بنسبة 20.3% في 2020، وهو الأعلى في تاريخ البلاد ومن أكبر نسب الانكماش عالميا.
يحدث هذا في ظل زيادة نسب البطالة، التي بلغت نحو 40% في ديسمبر الماضي. وترتفع معها نسبة الهجرة بين الشباب: «كثير من المهاجرين يقولون وهم يودعون الوطن أنهم لن يعودون مرة أخرى، هذا شعور مؤلم وقاس علينا جميعا» تحكي زينة.
أمان مفقود
تفعل زينة ورفاقها ذلك العمل التطوعي، لضمان مستقبل أفضل للبنان. يعيشون فيه بأمان. لكن تقريرا للبنك الدولي عد الحكم الطائفي والنزاعات والعنف الناجمان عن صراعات الشرق الأوسط يقوضان عملية التنمية في لبنان. على ما قاله البنك في تقرير «التشخيص المنهجي للبنان» والصادر في 2016. وبالتالي فإن مستويات القلق والانعكاسات الخطيرة على الأمن في لبنان قد تتزايد، وتؤدي إلى اضطرابات اجتماعية بحسب تقرير المرصد اللبناني لـ2020.
هذا القلق تعبر عنه ابنة بلدة مرياطة، الواقعة في شمال لبنان بقولها «فقدنا الأمان في هذا البلد، والقوة والأمل والمستقبل، لدي طفلان وأخشى عليهما تداعيات ذلك كله في السنوات القادمة». لكنها على كل حال تحاول ما استطاعت تقديم يد العون رفقة مجموعتها.
«نحن الشعب الذي يحب الحياة، لكننا صرنا الشعب الذي يهاب الموت أكثر، وننتظره مع كل كارثة، ونعتبر ذلك مسألة وقت» تحكي زينة، التي ترى في الأزمة الاقتصادية الخانقة بلبنان تتجاوز مسألة المأكل والمشرب: «لو أن الأموال من فوق رؤوسنا وأسفل أقدامنا، ستظل هناك غصة، وهي أن لبنان صار مكانا على الخريطة فحسب، لكننا بلا دولة».
بين أجواء مقبضة، وظروف بالغة الصعوبة، تحاول زينة ألا تفقد الأمل. تعطي رفاقها جرعات الحماس، وتوضح لهم أهمية ما يقدمونه: «وعندي أمل أن يعود لبنان حرا كريما كسابق عهده، وأن تتحسن الأحوال عما قريب».
فيديو قد يعجبك: