في الديسمي أثر السيول يتجاوز "كورونا".. الأهالي سكنت المدارس والدفن "في أي حتة ناشفة"
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
كتبت-إشراق أحمد:
تصوير-عمرو عرفات. أحد سكان مركز الصف:
أسبوع انقضى ومازال رجب مصطفى لا يستوعب ما حدث؛ يذهب ليطل على منزله الغارق، تمنعه المياه فيعود إلى مكانه، يطمئن على زوجته وأولاده الثلاثة بينما يجلسون وسط جمع من أهالي الديسمي. لم يعد باب الدار يغلق عليهم، بل أحد فصول مدرسة الصف الإعدادية بنين. تبدلت إقامة أسرة رجب حال العديد من سكان القرية التي أغرقتها السيول منذ الجمعة الماضية، فُتحت لهم مدارس مركز الصف –جنوب الجيزة لتجمع شتاتهم، بينما يعد الناجون أيامهم وأفراد عائلتهم يومًا تلو الآخر، لا يعبئون بما يدار خارج فلكم من نشرات وتحذيرات من انتشار فيروس "كورونا" المستجد، فمصابهم لم ينته بعد ليلتفتوا إلى غيره.
الخميس قبل الماضي، شهدت مصر موجة طقس عصيبة، وصفتها الأرصاد بـ"منخفض التنين". أمطار غزيرة قُدرت بنحو نصف مليار متر مكعب هطلت على مصر خلال يومين، خلفت سيول في بعض المناطق، لكن أشدها تضررًا كان منطقة الزرايب في 15 مايو، ومركز الصف التابع لها قرية الديسمي.
كانت سيدة إبراهيم تجلس وأبناؤها الستة في المنزل، انهوا الإفطار وانتظروا أن يؤذن لصلاة الجمعة، فيما انضم رجب لصفوف المصلين في مسجد قرية الديسمي –جنوب الجيزة. مكث الجميع في سلام، كل في مكانه يلتمس شيئًا من الدفء بعد ليلة مطيرة، لكن لم تكن موجة الطقس العنيفة انقضت بعد كما ظنوا؛ في دقائق انقلب المشهد، فزعت سيدة تركض بصغارها وسط الأهالي الصارخة "المايه نازلة علينا"، وما إن وصل الراكضون للمسجد، حتى أتم الإمام الصلاة سريعًا، وهرع رجب عائدًا إلى سكنه باحثًا عن زوجته وأولاده.
تركت سيدة كل شيء خلفها "سيبنا دبشنا –الماشية- وحاجاتنا في البيت وجرينا"؛ فقط حملت رضيعها ذو العام والنصف، وأمسكت بيدها طفلها الصغير الآخر، فيما لا تفارق عيناها أولادها الأربعة المهرولين خلفها.
كانت الأصوات الصارخة المحذرة بمغادرة البيوت مزلزلة للأم الأربعينية، وحين خرجت هالها المشهد "الدنيا كلها هجت من البيوت". طوفان من البشر خلفه مياه قادمة عن بعد من ناحية الشرق، حيث يقع جبل الصف مصب الأمطار الهادرة.
احتمت سيدة وزوجها وأبنائها بـ"مسجد العزبة" كما تحكي، لم يكن بلغته المياه بعد، إذ يقع بالجانب الغربي من القرية، ومع مغيب اليوم التقت بشقيقها "كان جاي بعربيته. قالنا إنتم قاعدين هنا ليه وأخدنا على الصف". كانت المياه وصلت إلى مكانهم.
في ذلك الوقت، كان رجب عالقًا في منزله. حين عاد لزوجته وأبنائه لم يجدهم، انتظر لكن الأوان قد فات؛ غمرت الأمطار بيته ذو الطابق الواحد" الحيطان عندي 4 متر. المايه وصلت لحدود 3 متر". لم يجد رجب مفرًا، احتمى بأعلى نقطه بالدار "طلعت على السطح وفضلت عليه لغاية تاني يوم".
ليلة لم تغفل فيها عينا الشاب الثلاثيني، تدور خوفًا على أسرته التي انقطعت السبل بينهم، ويزيده المشهد رعبًا في نفسه "السيل حواليا والمطره من فوق مبتوقفش. كنت حاسس أن البيت هيقع من تحتي". ما كان رجب وحيدًا، رافقه في تلك الساعات جاره "كان معاه عياله والست بتاعته قعدنا كلنا فوق السطح"، فيما واصل الدعاء في الظلمات "فضلت أقول يارب ارفع عنا البلاء وافرجها علينا"، فجاءه الفرج صباح السبت "جم ناس بلانش أخدونا طلعونا على البر".
كان رجال الدفاع المدني والهلال الأحمر المصري وصلوا إلى الديسمي لإنقاذ الأهالي، الذين علق العديد منهم داخل منازلهم وسط السيول، ولم يكن هناك سبيل للوصول إليهم سوى بالمراكب.
ما إن رأى رجب أهل قريته النازحين إلى الصف حتى سألهم عن أسرته، وفي أحد الدواوين التي فتحت للمتضريين التقى زوجته "كانت جريت بالعيال وقعدت تدور وتبكي عليا من يوم الجمعة".
كذلك لم تجف دموع سيدة لثلاثة أيام "مكنش لاقية أمي وأخواتي.. تاهوا مني في الهوجة". حتى يوم الاثنين فقدت أثر أهلها، دارت بها كل الظنون السيئة، إلى أن التقت بهم في المدارس التي خُصصت لجمع المتضررين ممن ليس لهم أقارب في قرى مجاورة أو مكان آخر يقيمون فيه.
3 مدارس (الصف الإعدادية بنين، الصنايع بنات، الخطوط صنايع) خلت من طلابها بعد قرار وزارة التربية والتعليم بوقف الدراسة قبل أسبوع، أصبحت اليوم مأوى لأهالي الديسمي. تجتمع كل أسرة أو عائلة في كل فصل.
بين الحين والآخر تتوافد قافلات المساعدة بالملابس والأطعمة، والخميس الماضي توجه متطوعون لتعقيم المدارس وتوزيع مواد للنظافة الشخصية درءًا لأي سوء، لكن ذلك لا يشغل الناجون كثيرًا؛ إذ ثمة أفراد لم يهدأ بالهم على ذويهم، ما ظهر لهم أثر بين الأحياء ولم يتأكد أنهم من الأموات.
"طالما مظهرش لغاية النهاردة يبقى أكيد مات ولو ظهر هتبقى الجثة مجهولة المعالم من الماية لكن الناس حاطين أمل أنه اللي ليهم لسه عايش"، كذلك لمس عمرو عرفات، أحد سكان الصف المتطوعين لمعاونة الأهالي المنكوبة، حكايات البعض عن المفقودين، الذين بدأ يظهر البعض منهم مثل جمال، ابن عم رجب مصطفى.
بعدما هدأت الأمور بحلول الاثنين الماضي، أخذ الشاب يسأل عن أفراد عائلته، اطمأن برؤية والديه وأشقائه، فيما صدمه أحاديث البعض عن ابن عمه "قالوا لي أخده السيل وهو بيحاول يجري منه"، وحدد أخرون مكانه، قرب أحد المنازل، ليذهب رجب لأول مرة إلى الديسمي، وعند أحد برك المياه وجد جمال على هيئته وقت الفزع "كان ماسك في شجرة والمايه محاوطاه". رحل الشاب تاركًا وراءه طفلين وزوجه ثكلى، ودفنة لم تكن هينة.
غرقت مقابر الديسمي هي الآخرى "روحنا قعدنا ندور يمين وشمال على حتة نقدر ندفن فيها"، استمر بحث رجب وأسرة الفقيد حتى وجدوا "حتة ناشفة" كما يصف الشاب، ليواروا جثة جمال بعيدًا عن مدفن العائلة "اللي كان عايم على مايه".
رغم الفقد لكن رجب يرى في المصاب رحمة "السيل نزل علينا الصبح الناس لحقت تجري. لو كان حصل بليل مكنش حد نجي"، يأسى على الحال لتوقف الحياة حتى اللحظة، لا يعلم المصير وكيف يعود لمنزله، فيما أصبحت تنتظر سيدة المساعدات لأجل صغارها، تتذكر ماشيتها التي جرفها السيل ومن خيرها كانت تغتني عن السؤال، تنظر لحال بيتها ذي الطابقين وقد بات مهددًا بالسقوط فتزيد حيرتها "بقالنا أسبوع قاعدين مش عارفين نبحروا ولا نقبلوا".
فيديو قد يعجبك: