زار أكثر من 100 قرية.. رحلة مُدرس إيراني يزرع الخيال في عقول الأطفال (حوار)
كتبت-دعاء الفولي:
تقطع السيارة الطريق المتعرج فيرتجّ جسد إسماعيل آذري، وتتبعثر القصص التي أحضرها معه. الرحلة مُرهقة، لكن رجل الدين الإيراني لا يأبه.
هُناك؛ على مدخل كل قرية فقيرة يزورها، أطفالٌ غلبهم الحماس، هو أملهم الوحيد ليدخلوا عوالم سعيدة، لا خوف فيها ولا أميّة، تملؤها الألوان، يأخذ بأيديهم ليحبوا القراءة، يُخبرهم أن الكتاب هو أفضل صديق، يفتح أذهانهم على التفكير والسؤال، ويعوضهم عن المدارس التي لم يقربوها يوما.
لم يكن آذري رجل دين تقليديا، لم يكتفِ يوما بالكتب التي عُرضت عليه "أحببت القراءة منذ كنت صغيرا، القراءة في كل شيء، وخاصة القصص".. يقول لمصراوي.
حينما كُبر ولدا آذري قليلا، انتقلت لهما عدوى والدهما، يبلغ الصغيران الآن 7 أعوام و12 عاما "الأمر له مفعول السحر عليهما، رأيت كيف تؤثر القراءة على خيالهما وسلوكهما وحديثهما مع الناس"، غير أن عين رجل الدين طالما نظرت لمسافة أبعد "لماذا لا نقرأ القصص للأطفال؟ لا سيما إذا كانوا لا يحصلون على تعليم جيد".
4 سنوات فصلت آذري عن المرة الأولى التي بدأ فيها مشروعه. كان ذلك في قرية مندون الإيرانية، لم يمتلك وقتها سوى مجموعة قليلة من القصص، بعضها باللغة الإنجليزية، أخرى بالفارسية، فالتراث الإيراني عامرا بها "الجدات اعتدن قص الحكايات على الأحفاد وكذلك الأمهات"، ورغم أنه لم يمتلك صورة واضحة للمشروع، لكن تفاعل الأطفال شجعه على الاستمرار.
درس آذري العلوم الإسلامية في جامعة قم القريبة من العاصمة طهران "لا يتعارض الدين مع القصص، إنها الصورة التي تم تصديرها فقط عن المسلمين، ولكن حتى القرآن مليء بعشرات القصص"، فيما يستعين رجل الدين بالقصص الغربية أيضا.
“the dot”،“sky colour” وكتب آخرى يرويها آذري للأولاد، بات يعرف ما يُعجبهم "انا أيضا أصبح لدي كتاب مفضلين، كالكاتب الكندي بيتر رينولدس"، يحاول تطوير ما يفعل "الصغار أذكياء ويتعلمون سريعا"، لذا استخدم التكنولوجيا أيضا لتوصيل ما يريد.
ما يفعله آذري ليس بعيدا عن مجال عمله، إذ يُدرّس مادة الفلسفة الإسلامية والأدب العربي في مدرسة قريبة لمنزله، وحين يذهب للقرى يخلع عنه عباءة المدرس "اعاملهم كأصدقائي"، يبتكر معهم الألعاب، يفكر في ما يُسعدهم "أتنقل ومعي كمبيوتر محمول، أستخدمه لعرض أفلام مناسبة لأعمارهم لهم ثم نتحدث عنها"، كتلك المرة التي عرض فيها فيلما للمخرج الإيراني الراحل، عباس كياروستامي، عبر شاشة عرض اصطحبها معه "كانت اللمعة في أعين الموجودين لا تُقدر بثمن".
زار آذري أكثر من 100 قرية إيرانية، وكرر الذهاب لبعضها حوالي 30 مرة "أعمل على الاستمرارية، لأضمن فعالية ما أحاول تقديمه".
مع الوقت، باتت عائلة المُدرس الإيراني جزءً مما يفعل "أصطحب زوجتي وأبنائي معي في بعض الأحيان"، تُساعده زوجته في حكي القصص للأطفال، وكذلك ابنه الأكبر حُسين، يُشكلون معا فريق عمل متماسك "لا نقرأ ونتعلم فقط، نلعب الكرة أحيانا ونلهو ونركض ونغني، ونلعب بالدُمى ونقدم بها عروضا للأطفال".
رحلات آذري عسيرة "تقبع القرى على أطراف إيران، الطرق موحشة ومرهقة للسيارة ولي"، غير أنه ثمة أزمات أخرى "لا يتقبل بعض الآباء القصص التي نرويها"، عانى صاحب الـ39 عاما من نظرات الاستنكار والأسئلة المتشككة لما يفعله، خاصة في بداية مشروعه "لم أكن املك سوى عشرة قصص ومجموعة أقلام اقترضتهم من ابني"، لم يعلم المُدرس وقتها ما يريده أطفال الريف "اكتشفت أنهم ينقصهم كل شيء، محرومون تعليميا وماديا"، يعيش أهل تلك القرى على الكفاف "الجهل مستشر لدى بعض الآباء أيضا، فالقصص بالنسبة لهم رفاهية في ظل الفقر، حتى أن بعضهم يمارس العنف ضد أبناءه".
حاول آذري لفت نظر المدارس الإيرانية لمشروعه، إذ "لا يولي النظام التعليمي اهتماما كبيرا للقصة"، ولمّا لم تتم الاستجابة له، صار يفعل ذلك بشكل فردي؛ يتحدث لمعلمي المرحلة الابتدائية، يُشجعهم لتلاوة القصص على تلاميذهم، يقول لهم إن تقوية اللغة والكتابة عند الأطفال يصبح أسهل مع القصص، وفي المقابل مازالت مساعيه لا تجد ردودا واسعة.
لا ينتظر آذري مكافأة من أحد، يكفيه مئات الأصدقاء الصغار "حينما تقترب سيارتي من محيط القرى المختلفة، يأتي الأطفال ليستقبلوني، يلتفون حول السيارة، يحملون معي الكتب ونسير سويا"، يصيبه التعب أحيانا، بينما يتذكر نظرة طفل من الريف يُمسك كتابا للمرة الأولى، فيستعيد قدرته على التحمل.
التسلية جزء من مشروع المدرس الإيراني، إلا أنه يستغل القصص لتغيير حياة الأطفال " القصص تُربي المشاعر، تُطور الحواس، وتُدرب الصغار على المهارات الاجتماعية والأخلاقية ". زيارات آذري أصبحت مُمتعة، فلا يستأثر بالحكي وحده "يؤلفون القصص لي ولبقية أقرانهم ويروونها، وأحيانا أصطحب بعض تلاميذي ليقصوا الحكايات معي".
يذهب آذري إلى القرى يوميا. يقضي في كل واحدة ساعتين، وفي الأعياد يمكث من الصباح إلى الليل "وأحيانا أقضي في قرية واحدة أربع ليالي"، لا يتخلف المُدرس أبدا عن ميعاده، لكن يُعجزه الشق المادي؛ إذ يتحرك بسيارة قديمة، يُنفق على الكتب والأقلام من راتبه الشخصي، ويتمنّى جمع التبرعات لهؤلاء الأطفال "الناس تدفع الأموال لإطعام المحتاجين ولكن فقر المعرفة أسوأ بكثير".
فيديو قد يعجبك: