أهالي مصابي قطار المناشي.. "كعب داير" بحثا عن الضحايا والأطباء
-
عرض 3 صورة
-
عرض 3 صورة
-
عرض 3 صورة
كتبت - مها صلاح الدين ونانيس البيلي:
تجاوزت عقارب الساعة الواحدة من ظهر أمس، عندما جلس حميدة الرجل الستيني ينتظر وصول ابنه في الثانية ظهرا كعادته لتناول الغداء، لكن هذه المرة اختلف الأمر. لم يصل الابن ودق الهادف برقم مجهول، فاجأه صوت هادئ بعبارات مقتضبة "ابنك مصاب وهوديه مستشفى إيتاي"، ثم أغلق الخط، ولم يرد مرة أخرى.
انتفض الأب في هلع، بعدما انخلع قبله على نجله الذي لم يتم عقده الثالث بعد، وهرع نحو مستشفى إيتاي مثلما وجهه المجهول، ولكنه لم يجد نجله. بعدها تلقى اتصالا ثانيا علم منه أنهم نقلوا بعض المصابين إلى مستشفى دمنهور، لم يتردد في قطع مسافة تتجاوز الـ 100 كيلو متر، في سابعة من الزمن ولكنه لم يجده أيضا، توجه على الفور نحو المستشفى العام في مركز بدر، ووجه أقربون آخرون نحو مستشفى اليوم الواحد، ولكن كافة المحاولات باءت بالفشل.
ومع انقطاع آخر خيوط الأمل، تلقى العجوز، مكالمة هاتفية في الرابعة عصرا، من أحد الأقارب بصوت يملأه اللهفة "ابنك في مستشفى دمنهور التعليمي".
لم يحسب العجوز كم مر من الوقت حتى وجد ابنه، ورغم ما مر عليه في رحلة البحث عن نجله خريج كلية التربية الرياضية، انخلع قلبه حينما رآه طريح الفراش مصابا بكسر في عموده الفقري، وساقه، ووجه ممتلئ بالجروح.
ووسط عشرات المصابين لم يجد حميدة من يسعف ابنه، سوى ببعض الإجراءات الأولية حتى يأتي طبيب متخصص في جراحة المخ والأعصاب ليقرر نوعية الأشعة اللازمة لإجراء جراحات كان من المفترض أن تجرى في غضون الساعات الأولى منذ وقوع الحادث.
لكن الساعات كانت تمر ببطء على أب لا يعرف إلى متى سينتظر، بدأ من فرط انفعاله، الشجار مع العاملين في المستشفى من أطباء وممرضات لتسريع الإجراءات، ولكن منتصف الليل قد خيم دون أي تطور.
كانت هند أوفر حظا، فبعد المكالمة الهاتفية المشؤومة، وجدت شقيقها في مستشفى إيتاي بعد وقوع الحادث على الفور، "ودونا المستشفى، ومن المستشفى طلعونا مركز طبي خاص برة، ومن المركز الخاص جابونا هنا"، هكذا تسرد هند معاناة الصبي الموجوع في رحلة البحث عن مستشفى بها أطباء، كي تقبل حالته، حتى وصلوا إلى مستشفى دمنهور التعليمي.
اتكأت هند على سرير فارغ بجوار سرير أخيها، بدأت تلتقط أنفاسها بوجه مرهق وعيون ناعسة في محاولة من لاستجماع كلمات تسرد بها ما حدث في ساعات اليوم الطويل، لم تقبل المستشفيات القريبة استقبال شقيقها الذي لم يتجاوز عمره السادسة عشر بعد أن عرفوا أنه يعاني من نزيف داخلي، وصدمات غائرة في الصدر والكبد، وهو ما يستلزم دخوله إلى غرفة العمليات على الفور، على الأقل لاكتشاف مصدر النزيف ووقفه.
بعد بضعة ساعات، أخيرا جاء دور الصبي لدخول غرفة العمليات، لتنتظر هند برفقة الأهل في قلق وترقب، بعد أكثر من ساعتين، خرج الصبي من غرفة الإفاقة، وتمكن الأطباء من وقف النزيف، وبدأ الأهل في جمع العبارات المتناثرة من شفاه الصبي عن الحادث، فتارة يقول إن القطار اصطدم بقطار البضائع، وتارة يسألهم حالة أصدقائه، الذي كان بصحبتهم.
تتهرب هند من الإجابة عن أسئلته، حتى لا ينزلق لسانها وتخبره عن صديقه القابع في الغرفة المجاورة، بعد أن اكتشف الأطباء أنه يعاني من نزيف في الدماغ، وكسر في الجمجمة، ومع ذلك تركوه ينتظر حتى الصباح كي يأتي طبيب يمكنه أن يجري عمرية جراحية في هذا التخصص.
كانت الساعة تجاوزت منتصف الليل، حينما وقفت الأم الأربعينية "عصمت" بجوار زوجها "حمدي" يستندان على أحد الجدران أمام قسم الطوارئ بمستشفى دمنهور التعليمي، بدموع غزيرة بللت نقابها الأسود وقفت تتمتم بالدعاء لشفاء ابنها صاحب الـ17 ربيعاً المحتجز داخل غرفة العناية المركزة "عنده كسر في الجمجمة ونزيف في المخ والبطن وغايب عن الوعي".
مشوار يومي يستغرق نحو ساعتين عبر قطار خط المناشي يقطعه "أحمد حمدي" من قريته "الخطاطبة" بمحافظة المنوفية للوصول إلى مدرسته الثانوية الخاصة بقرية كوم حمادة بالبحيرة، تقول الأم إن ابنها اعتاد أن يستقل ذات القطار لانخفاض تذكرته التي تبلغ جنيه ونصف. وتضيف أنه عادة ما يركب مع زملائه بالعربة الثالثة التي توفي وأصيب معظم ركابها "كل زمايله حالتهم خطيرة، ربنا ينجيهم كلهم" تقول بصوت متحشرج.
اتصال هاتفي تلقته الأم من شقيقة زوجها في حوالي الواحدة ظهراً تسألها عن ذهاب نجلها للمدرسة "كانت عمته في طنطا وهتركب نفس القطر بس ملقتوش وصل"، بعدها انخلع قلب الأم، ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي علمت بالحادث" جيت على ملى وشي مش دريانة بالدنيا".
48 ساعة من المفترض أن يبقى خلالها الابن تحت الملاحظة "ولو ربنا نجاه هيدخل عملية مخ وأعصاب"، تتمتم "عصمت" بكلمات الحمد والشكر لله على سلامة فلذة كبدها بعدما أفقدتها الصور المروعة التي شاهدتها للحادث أي أمل في نجاته "كنا جايين نقول يارب يعيش بس، راضيين بأمر ربنا".
عرف تامر عن إصابة والده بالطريقة نفسها، مكالمة هاتفية أخبره فيها فاعل خير بأن والده الذي يسير في عقده السابع أصيب في حادث قطار، ترك الابن الأربعيني عمله وهرع نحو المستشفى، وفي الطريق حاول أن يتحدث إلى والده عبر الهادف، إلا أن المسعف هو من كان يقوم بالرد.
على أحد الأسرة في الطابق الأول من قسم الطوارئ الخاص بالرجال، بمستشفى دمنهور التعليمي، وجد تامر والده غارقا في دمه، يصمت للحظة ويتذكر، كيف تم نقل والده بعد ساعتين كاملتين من وقوع الحادث، ومن ثم يطلق تنهيدة ارتياح ممزوجة بالألم، ويقول "اتكتبله عمر جديد".
بضعة ساعات مرت وكأنها سنوات، تنقل خلالها الرجل الأشيب بين غرف الأشعة المقطعية، التي كشفت إصابته بكسر في الضلوع، ورشح على الرئة، وغرفة العمليات، لتركيب "درنقة"، وإجراء جراحة أخرى لأنفه المقطوع، وبعدها استقر الرجل كغيره من المصابين على أحد الأسرة في قسم الطوارئ يصارع الألم، ويعاند دموعه علها لا تزرف أمام أبنائه، ولكنها تنتصر في النهاية.
فيديو قد يعجبك: