إعلان

ماذا يوجد وراء الحجر؟.. حكايات عاملي نقابة الصحفيين في يوبيلها الماسي

01:26 م الخميس 31 مارس 2016

كتب-محمد زكريا ورنا الجميعي:
75 عام مروا على نقابة الصحفيين، الكائنة في 4 شارع عبد الخالق ثروت. لم تكن النقابة عبارة عن طوابق مُجرّدة، بل امتلأت بحياة وشهدت عتباتها أصوات المطالبين بالحريات، فيما مرّ الوقت داخلها بين صيحات غضب، وهتافات نصر، بين أمور تضيق على جماعة الصحافة فقط، وشئون تسع دولة بأكملها. عمرت أركان طوابقها بأحاديث ومشادات، لم تشمل النقابة جماعة الصحفيين فحسب، هُناك أناس آخرون يسعون داخلها، لا تهمهم تفاصيل دهاليز السياسة، ولا أمور عالم الصحافة، هذا الطرف يهتم أكثر بالرزق والمُعاملة الحسنة، تلك الفئة تشمل موظفي النقابة، والعمال التابعين لشركة المقاولون العرب، وتزامنًا مع يوبيل النقابة الماسي، ثمة مُحاولة لمعرفة ظروف هؤلاء، وأحوالهم. بعضهم رفض ذكر اسمه، خوفًا من ضرر محتمل قد يقع عليه.

مبنى خارجي يغلب على هيئته زجاج الأزرق، غير واضح للمار ما يقبع بالداخل، يقام البنيان على أربعة أعمدة على شكل مسلات، ذات يوم حين وطأت سيدة مسنة لداخل النقابة، سألها حارس الأمن عن الهوية الشخصية، فرفضت بقولها "أنا عضوة نقابة من قبل ما انت تتولد"، ردّ سريعًا "أنا اتولدت بقى عشان اشوف الكارنيه بتاعك"، ما أثار غضب الصحفية، نقلت شكواها لأحد أعضاء المجلس، فقدّر التزام الحارس بعمله، يتذكر الموقف ضاحكًا أحد حراس الأمن، فيما يعلم عن السُمعة الملاحقة للصحفيين "معروف في شركة المقاولون عن تناكة الصحفيين".

neqab

قبل اهتداء جماعة الصحفيين للمقر الحالي، في إحدى الاجتماعات المقامة لهم بنقابة المحامين، انتبهوا لقطعة الأرض الفضاء المجاورة، وجدها مجلس النقابة مناسبة للبناء عليها، غير أنها وصلت للشكل الحالي عام 2001، ثمانية أدوار هي عدد طوابقها،  وفي الدور الثالث  منها يقبع حارس الأمن مرتديًا بدلة رسمية على مكتبه أمام مكتب النقيب، ينظر في وجوه العابرين، يتساءل عن بطاقة العضوية إذا تسلل الشك إلى نفسه "مجلس تأديب، تحقيق، ندوة" أكثر الكلمات التي تتردد كسبب للقدوم، 12 ساعة هي مدة العمل له، يبدأ في الثامنة صباحًا، بفتح بوابة الدور، يضئ الأنوار، يتأكد أن أبواب المكاتب مغلقة، وفي الثامنة مساءً يحين وقت الانصراف.

 خلال هذا الشهر لم تكتمل الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين، للمرة الثانية، فلم يحضر سوى 220 عضو من أصل 2105 صحفي يمثلون النصاب القانوني، بينما هناك أوقات تتوالى فيها حشود الصحفيين، بين اعتصامات، حين الإعلان عن مشروع العلاج في بداية السنة، ولجنة القيد، ورغم ما تُمثله تلك الأعداد من زخم، غير أنها بالنسبة للعاملين تعني تعب مضاعف، بين نظافة الطوابق، وإزالة المنشورات، أما الانتخابات النقابية فيقوم حارس الأمن خلالها على تأمين الصناديق من اللجان، وحتى القاعة بالدور الرابع، كما يمنع النزول لأيّ من الأدوار المُغلقة، حفاظًا على السرية.

لم تكن الانتخابات فحسب أيام مُرهقة، الاعتصامات أيضًا تحمل أوقاتًا عصيبة وغريبة، عقب الثلاثين من يونيو، حينما أغلقت إحدى الصحف التابعة لجماعة الإخوان، حسب قوله، جاء صوت أحد المعتصمين يستغيث "فيه واحد بيموت"، أعدّ حارس الأمن نفسه جيدًا لمثل هذه الأزمات، فهو متدرب على الإسعافات الأولية، يهرول مسرعًا تجاه مكان الاعتصام، فيما كان النور منقطع عن الطابق المتواجدين به، "روحت أديله ضغطة على صدره، سمعت حاجة طرقعت وقال آه"، حينها تيقن أن الرجل يدّعي.

"كتمة نفس"
ما إن تتجاوز حارس الأمن المرابط عند الباب الأرضي، يوجد مصعدين، غالبا ما يعمل أحدهما فقط، ينقل الأفراد لسبعة أدوار علوية، للمصعد عاملان يتناوبان عليه، لثمان ساعات، ذلك المكان الضيق الذي يتسع لخمسة على الأكثر، يقف هو بردائه الأخضر الزيتوني منتظرًا المرافقين له، يكبس على زر الطابق المراد، لسبعة أعوام ظل يصعد ويهبط في رتابة، يتفق مع زميله للراحة كل ساعتين "جو الأسانسير حبسة، بيبقى تعب لو قعدت أكتر من ساعتين، من غير ما أخرج أشم هوا ربع ساعة"، يتفق مع زميليه على الاستراحة، ويتبادلوا فيما بينهم العمل.

لا يبالي العامل الثلاثيني كثيرًا بالوقفات على سلالم النقابة، اعتاد على سماع هتافاتها، أحيانًا يتساءل عن مطالبها "عشان لما حد يسألني ابقى عارف"، كل الأوقات اعتيادية بالنسبة له، حتى احتفالية النقابة بإنشائها في العام الماضي، كانت بالنسبة له يوم طبيعي، دقائق مُنفردة يعيشها فقط حين تُفتح أبواب المسرح، فيختلس النظرات للاحتفال المُقام.

"أنا جاي هنا تكدير"
 كـ"عقاب" جاء عامل النظافة الخمسيني إلى النقابة، وطأت قدماه المبنى منذ بداية شهر مارس الماضي، عمل الرجل الأسمر لـ23 سنة بشركة المقاولون كـ"ساعي"، يُظهر "كارنيه" العمل والبطاقة، غير أن غيابه لأسبوع، لمرض زوجته، فتقرر الشركة انتدابه "عشان اتغضب عليا شوية نقلوني"، لم تكتف الشركة فقط بالنقل، أنزلت مرتبته ليكون عامل نظافة، كثير الأشغال "وأنا كبير في السن".

يجوب العامل الأسمر أرجاء الدور الثاني، يُلقي السلام على موظف البوفيه، المنشغل بتلقي الطلبات، ولا يسكن عن الحركة، يجاوره تليفون يرن باستمرار، تلح نغمة الجرس في الطلب، يرد العامل، يبدأ في تسجيل الطلبات على "نوتة"، ويهرول إلى إنجازها، حيث مياه البراد تُغلى على النار، وعلبة اللبن موضوعة بجانبها، يبدأ موظف البوفيه يومه في الثامنة صباحًا "بدخل النقابة قبل الموظفين".

"انت صحفي؟"
وطئت قدمه نقابة الصحفيين منذ خمسة أعوام، عمل أحد أقاربه هُناك "جيت عن طريقه"، لكنه غادر المكان وبقي هو، هيبة حملها مبنى النقابة، فوقعت في قلب عدلي قبل العمل بها "بس بعد كدا اتعودت"، تسع ساعات يقضيها موظف البوفيه بالمبنى، يزدحم اليوم في الصباح وبعد الظهر خاصةً، تأتيه الطلبات من الموظفين العاملين والصحفيين المترددين باعتياد، ووجوه طازجة يراها موظف البوفيه من وقت لآخر، حيث العديد لا يأتي سوى لمناسبة ما "لما يبقى فيه ندوة أو مؤتمر".

يتبع الموظف شركة المقاولون العرب أيضًا، فيما يعتبرها "هناك شغال في بيتك"، يختلف الحال في النقابة، حيث التعامل السيء من بعض الصحفيين، كما يقول، ابتسامة خفيفة ارتسمت على وجهه، تبعها قوله "محدش بيغير حاجة"، عند سؤاله عن امكانية الشكوى للمدير الملحق من الشركة.

qodos

ذات يوم أنقذ موظف البوفيه كونه عامل، وليس صحفيّ، ففي ظهيرة يوم 26 يناير 2011، شاهد تفاوض ضباط الأمن مع "محمد عبد القدوس"، عضو النقابة، لإنهاء التظاهرة المقامة على السلم، غير أنه رفض "قعد على الأرض ومرضيش يتحرك"، بدأ الأمن بشدّ الصحفي، انتهاءً إلى "جرجرته"، مع تأجج الوضع دخل الموظف إلى النقابة "قفلوا الباب علينا" اتقاءً للأمن، ولكن كان عليه المغادرة لبيته، فيما لا تُشير الظروف الطارئة إلى التهدئة، ما اضطره إلى الرحيل من جراج النقابة، اشتبه فيه أحد الضباط قائلًا له "انت صحفي"، وبدا أنه سيقبض عليه، لكنه أجابه أنه مجرد عامل "قالي امشي ومتبصش وراك"، ولأسبوع كامل بعدها لم يقدم إلى العمل، ما عرّضه للتحقيق "بس اللي جه يحقق معانا قالنا أنا حصلي نفس اللي حصل معاكو، وقالنا متتكررش تاني ورجعت الشغل"، تلك الحادثة استثنائية بالنسبة لموظف البوفيه، فخلال الخمس سنوات التي قضاها داخل النقابة فأوقاته عادية، يوميًا يقع على سَمْعه حديث الصحفيين في السياسة، غير أن التعوّد يقتل الاهتمام، ولا يجد بالأساس الوقت لمتابعة الصحف، فيما يصف  عمله "اللي بنبات فيه بنصبح فيه".

مكتبة الإهداءات
لنقابة الصحفيين تاريخ عريض، يمتلأ بأحداث تهم شعب بأكمله "مفيش إلا كتابين بيتكلموا عن النقابة"، تقول أمينة المكتبة بالدور الثاني، فالمكتبة تقوم على الكتب المُهداة، تُشير إلى كراتين مُكدسة فوق بعض، لم يخصص ميزانية لها سوى لعام واحد "أيام النقيب مكرم محمد أحمد"، لذا فالوارد للمكتبة مرتبط بإهداءات الصحفيين والهيئات، أكبر عدد دخل المكتبة ذات يوم "ألفين كتاب من شخص واحد"، يؤثر خاصية الإهداء على تنوع الكتب وزيادتها.

تتميّز المكتبة بباب عريض بلون البيج، لا تُوجد يافطة تُعرّف ماهية المكان، لكنك إذا فتحت الباب ستجد رفوف من الكتب، وصحف متراصة على منضدتين في وسط المكتبة، خمسة عشر عام قضتها أمينة المكتبة، تستقبل الكتب الجديدة، ترقمها، تضع مؤشر تعريفي لها، تسجلها على الكومبيوتر، مع كل صباح تضع الصحف اليومية،في الظهيرة أكثر الأوقات ازدحامًا، يدخل الصحفيون باحثين عن الجرائد.

تبدأ أمينة المكتبة عملها في التاسعة والنصف صباحًا، تقوم بروتينها اليومي، ثُم تجلس لمكتبها، المدة التي قضتها من عمرها في المكان، جعلتها تكتسب الخبرة والعلاقات الجيدة، لكن مشكلة "عدم التقدير" هي ما تؤرقها، كتعليقات من نوعية "دي بتقراجرايد وقاعدة مبتشتغلش"، يُضايقها عدم فهم طبيعة عملها، حيث يرتبط أكثر بتردد الصحفيين على المكتبة "طب أوقات بيبقى مفيش صحفيين يدخلوا، أنا مش مطلوب مني إني أجيب الصحفيين يدخلوا المكتبة، أنا في مكاني واللي حابب يدخل يدخل".

"أنا مرتبي 290 جنيه وربع"
لم يكن مبنى النقابة على هذه الهيئة منذ افتتاحه رسميًا عام 1949، ويرجع الفضل في شكله الحالي إلى رئيس التحرير الأسبق لجريدة الأهرام، ابراهيم نافع، تُشيد السيدة "وفاء سادة" بذلك الازدهار، تجلس السيدة مقابل مكتب جرجس، بنبرة هادئة تقول إنها تعتبر النقابة "بيت صحفي"، حيث حالة ألفة متبادلة بين الصحفيين وإداري النقابة، كما أن الاهتمام بالجانب الإنساني هو سمة أعضاء المجالس المتعاقبة، خلال 30 عام هي مدة خدمتها، فالعمل النقابي لا يستقيم دون موظفيها، ترى أقدم موظفي النقابة حالة ازدهار يشهدها الكيان، من زيادة أعضائه وزيادة الخدمات المقدمة لهم، حيث أدى بالتبعية لزيادة أعداد موظفيه.

مرت على وفاء أوقاتًا صعبة، حين تحوّلت وسط المدينة إلى ثكنة عسكرية، في أعقاب ثورة يناير، فيما شاهدت الأحداث عن قرب، كانت النقابة حينها بيت الصحفيين، فهي ملجأ لحمايتهم من التقلبات والأحداث التيتوقعهم تحت بطش الأمن أثناء ممارسة العمل،  تواظب السيدة الخمسينية على قراءة الصحف يوميًا، حين تصل نُسخ منها للنقابة، بجانب حرصها على تصفح أغلب المواقع الإليكترونية.

في غرفة غير متسعة، لمكتب شئون العاملين، حيث يعمل جرجس، يُنهي بعض الأوراق والاتصالات، ثمان أعوام قضاها داخل مبنى النقابة، كان أول عمل له بعدما رأى إعلان جريدة الأهرام، تقدّم إلى الوظيفة وامتحن "اختاروا 14 من بين ألف واحد".

عايش جرجس كل أحزان وافراح الصحفيين، فمن إعلانات لدورات أو مسابقات أو مصايف أو زيادة البدل، "لما البدل يفضل فترة طويلة زي ماهو، وتكون الأسعار غليت، دا بيزعلهم"، هُم هي الصيغة المشارة إلى الصحفيين، كطرف آخر بعيد بداخل مبنى النقابة، بعد عمله لخمسة أعوام بالوارد والصادر "أي ورق داخل أو خارج من النقابة بيعدي عليّا الأول، أمضي عليه"، انتقل إلى شئون العاملين بالدور الثاني، يدير شئون العمال فيما يقلّ تعامله مع الصحفيين، لا يوجد فرق بين تعاقب النقباء منذ مكرم محمد أحمد وحتى يحي القلاش "مالناش علاقة بأي نقيب"، فيما يكون التعامل مباشرة مع السكرتير العام "السكرتير هو اللي بيمضيلنا المرتبات، الحاجات الخاصة بالموظفين".

احتملت سلالم النقابة وقفات عديدة، ظلّت ملجأ لكل مطالب بحق، البعض يجيئها من مسافات بعيدة، فلم تبخل عتباتها على موظفيها بمظاهراتهم، ففي العام 2010، خلال شغل مكرم محمد أحمد منصب النقيب، تحوّل موظف "الوارد والصادر" بالنقابة، فادي جرجس، إلى متظاهر، حمل يافطة مكتوب عليها "أنا مرتبي 290 جنيه وربع"، شاب في مُقتبل عمره يرغب في الزواج، واستقرار الحياة، لكن مُرتب كهذا لم يكفي، ارتفع المرتب بعد المطالبات حتى وصلت لمرتبه الحالي، 1200 جنيه، لكن نبرة عدم الرضاء لم تزل ترن بصوت جرجس "الزيادة مكنتش كافية، زي ما يكون واحد مش قادر يمشي خالص، لما تزقه هيمشي شوية، بس بعد كدا هيقف تاني".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان