إعلان

بالصور: خليفة الشيخ "أحمد ياسين".. قصة معلم يهزم المحتل كل يوم

07:16 م الخميس 09 أبريل 2015

كتبت- إشراق أحمد:

ثلاثة أصابع باليد اليمنى بها يثبت "أحمد السوافيري" كل يوم إرادة لم يستطع المحتل كسرها، ليس لشخص بل لشعب عزَ عليه ألا يوصف بغير الصمود.

على كرسي يدلف إلى الفصل، أمام تلاميذ الصف الابتدائي، يلقي كلماته عن أحد دروس التربية الإسلامية، لا يخلو الحديث من ذكر القضية، وتنشئة الصغار، ليكونوا جيل تحرير الأقصى، فهو ذاته يهيم شوقا لذلك اليوم، الذي يتكلل فيه الصبر، ويُثأر من الصهاينة، مغتصبي حياته وآخرين مثله بقذف صاروخ، إذ تعد فلسطين من أكثر البلاد التي ترتفع بها نسبة الإعاقة الحركية –وفقا لمركز المعلومات الفلسطيني- وأضافت الحرب الأخيرة على غزة 10% آخرين من إجمالي 11,232 ألف مصاب حسب إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية.

كان يسير "السوافيري"، بينما لم تضع الحرب على غزة أوزارها بعد عام 2008، فإذا بصاروخ يسقط، تهتز الأرض من تحت أقدام ابن الـ19 عاما -وقتها، تسيل دماؤه كما بحر، أيادي تنتشله إلى المشفى، لا يدرك طالب الثانوية العامة ولا يتذكر سوى تلك الرائحة الطيبة التي نفذت إلى أنفه قبل دقائق من القصف، شعر طيلة نقله وايداعه المشفى أنه قريب من "الشهادة" حتى مَن حوله ظنوا ذلك "كنت مهيئ نفسي كأي فلسطيني عارف الطريق وايش فيه.. يا إما الأسر أو الشهادة أو الإصابة" يقولها ابن 25 ربيعا وقد نال الثالثة.

القدمان واليد اليسرى، والإصبع الأول والخامس من اليمنى نال منها الصاروخ الصهيوني، تبددت أحلام "السوافيري" في لحظات، تمر ذكراها في 20 إبريل، أيام عصيبة مرت على عائلة الشاب الذي وجد نفسه عاجزا عن الحركة بين عشية وضحاها، آمال للوالدين برؤية ابنهم عريسا، وطموح للابن باعتلاء درجات علمية متقدمة، كلها طالها الحزن في البدء، وما تخفية نظرات الأهل من ألم على الابن توجعه رغم ابتسامة الثغور.

أصر "السوافيري" أن يكون سببا في عودة البهاء للعيون، ومثال للتحدي والإصرار، مستجمعا إشارات سيقت إليه، بدءا من الرائحة الطيبة مرورا بالمقطع المصور الذي أعطاه له صديق، لأشلاء جسده بعد القصف وبينها يده "كان صباع السبابة مرفوع في وضع الشهادة"، واستلهم خطى مَن لهم أثر في حياته.

في 19 مايو 1989 اعتقلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي الشيخ أحمد ياسين –مؤسس حركة حماس، في حملة تقوم بها بين الحين والآخر لوأد المقاومة، بذلك الوقت كان أسعد السوافيري في انتظار مجيء مولوده الخامس، وقد طرح عليه صديق تسميه صغيره باسم القائد المعتقل تيمنا به، أسر الأب الاقتراح في نفسه، حتى قرابة شهر، وتحديدا في 23 يونيو حين رزقه الله بـ"أحمد".

لم يعلم الأب أن يوما سيأتي يُعدد فيه ما بين ابنه والشيخ الجليل من صفات، يتمنى "السوافيري" أن يكون حقا في مصاف مَن يعتبره "قدوة الأمة العربية وليس فلسطين فقط"، حيث جمعهما الاسم وشهر الميلاد ذاته -كلاهما ولد في يونيو، والكرسي المتحرك، والتدريس، إذ بدأ الشيخ معلما للطلاب وكذلك الشاب، الذي أصر على خوض امتحانات الثانوية في ميعادها بعد شهرين من الإصابة، ليلتحق بكلية العلوم التطبيقية وتخرج فيها عام 2012 محققا أمنيته، فيما حقق أمل والديه وتزوج في أغسطس 2008 "كنت متخوف لكن وجدت عشرات الفتيات متقبلة الأمر.. اخترت شريكة حياتي وكانت الموافقة كبيرة" هكذا تمهد الطريق بأريحية أمام ابن حي الزيتون.

بإرادة يملأها العزيمة، ونفس يحليها الإيمان والرضا يواصل "السوافيري" طريقه، فمنذ الإصابة وضع نصب عينيه المصير "استمر في تعليمي أو أضل في مكاني"، فكان الخيار الثاني، أنهى دبلوم تأهيل الدعاة والمُحفظين بعد قرابة خمس شهور من الإصابة، وفور تخرجه التحق بجامعة الأمة للتعليم المفتوح لاستكمال الدراسة والحصول على بكالوريوس تربية إسلامية، فكانت خطوة أخرى تثبت معدن الشاب العشريني.

"تدريب ميداني" مادة بالجامعة مفروضة على جميع الطلاب، ما أراد "السوافيري" أن يستثني منها، وإن كان متردد، غير أن الأصدقاء والأساتذة كانوا له دافع، لكن ظل يراود نفسه سؤال "هل الطلاب بدهم يتقبلون وأنا بهذا الوضع؟"، إلى أن زال مع اللقاء الأول مع طلاب مدرسة صفد الابتدائية بحي الزيتون، ذابت كل العوائق مع تفاعل الطلاب، وابتسمت نفس المعلم ليس فقط لتقبل التلاميذ إنما "كان شريط حياتي يمر أمامي"، حيث تصادف تدريس "السوافيري" بنفس الفصل والمدرسة ذاتها التي التحق وهو بمثل عمر الصغار أمامه، كان الأمر لطف خفي يتلقاه الشاب؛ ليطمئنه بعد خوف.

تغيرت الأحوال، بين المدرسين الذين تلقى "السوافيري" التعليم على يدهم، بات زميل لهم، يشارك الطلاب طابور الصباح، يلقي التحية على تلاميذه، يمسك الطبشور بين إصبعيه المتبقيين يكتب على السبورة عنوان درس اليوم "ويقشعر بدني عندما أحكي في كل صباح متذكرا الأقصى والقدس"، لكن بمجرد النظر إلى الصغار يتملك اليقين من نفسه بأن هؤلاء الطلاب يوما ما سيكونون من جيل تحرير الأقصى، ومنهم سيخرج معلمين في شتى بقاع الأراضي المحتلة.

يأتي هذا الشهر –إبريل- ليكتمل العام السابع على إصابة "السوافيري"، ظن في الأعوام الأولى أن لحظات الواقعة هي الأصعب على نفسه، حتى عام 2012 حينما فقد ابنته الصغيرة "سما"، لفظت أنفاسها بعد 3 أشهر من الحرب على غزة "والدكاترة قالوا إنها ربما ماتت من استنشاق الغازات المصاحبة للقصف"، لكن مجيء "المعتصم" قبل 9 أشهر وفي ظروف مماثلة حيث العدوان الأخير، كان ذلك بمثابة العوض الإلهي، غير أن الأب علم فقط منذ عام أشد ما يمكن أن يلقاه حين كان يلعب مع ابنته.

جلوس على الأرض بالمنزل كان "السوافيري" و"جنة" ذات الأربعة أعوام، تحفهما السعادة حتى دق الباب، حاول الأب بكل ما أوتي من قوة أن يصل ليفتح للطارق، لكنه لم يستطع، يحتاج الصعود للكرسي المتحرك إلى مساعدة، لم ينتبه الوالد أن ابنته تتابعه، حتى التفت إلى حركتها، أخذت الصغيرة تشد رجليها بقوة، كأنما تريد اقتلاعها، سألها عن سبب فعلها، فقالت بحنو "بدي أعطيك رجلي عشان تقوم تفتح الباب"، اهتز كيان "السوافيري"، أدرك أنه ليس هناك أصعب من هذا ليواجه، حتى أنه هان عليه مشقة النزول من درج منزلهم المتواجد بالطابق الأول.  

يذهب "السوافيري" إلى كل مكان، يهمس العارفون له في أذنه "أنت بتفعل ما يقوم به الأشخاص العاديين"، فتشد الكلمات من عزيمته، يسير إلى طلابه حاملا أمل أن يرى "جيل التحرير"، يواصل مسيرة تعليمه، منتظرا يناير القادم ليشهد تخرجه، عاقدا العزم مواصلة التعليم، مع خوض مضمار جديد تمناه قبل الإصابة، من دراسة العلوم السياسية، أو الإعلام، يشدوا مع كل خطوة درسا يلقنه للاحتلال الاسرائيلي "استطاع أن يبتر 90% من حركة جسدي لكنه لم يبتر سنتيمتر واحد من إرادتي".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان