"جمال شوشة": حرب أكتوبر مش مبارك وفخور بعملي في بوفيه
كتبت – يسرا سلامة:
بخفة روح ومرح كان "جمال شوشة" يحضر أحد الطلبيات للعاملين بالشركة التي يعمل بها، يمازحه صديقه بالعمل "أنت اللي رعبت جولدا مائير"، ترتسم بسمة على وجه الرجل الستيني، قبل أن يتذكر ويحكي عن أيام حرب لا ينساها، كان فيها واحدا ممن ألقوا بحياتهم على الجبهة، انفلت من الموت مرات، من أجل لحظة نصر وطن يعشقه رغم ضيق الحال، أحداث تزاحم ذاكرته التي تقاوم النسيان، رغم انتهاء الحرب وأيامها، ولا يزال يملؤه بالفخر، يحكيه لأولاده وأحفاده.
"جمال سليمان محمد شوشة" ابن كتيبة صواريخ 21 بالقوات المسلحة، يتذكر وقت أن شعر بتحفُز مختلف وسط صفوف زملائه، الكتيبة تستعد لاستلام ذخيرة وأسلحة، عدد من الضباط يعودون من إجازاتهم، استدعاء الجنود بحزم في الرابع من أكتوبر، إطلالة للقائد "أبو غزالة"، "حسيت إن روح أكتوبر بدأت"، يقولها جمال واصفا ساعات ما قبل الحرب.
الأسلحة تتأهب، للحظات فُقد فيها الأمل من قيام الحرب، أيام وشهور كان يطغي حديث المعركة المرتقبة من الرئيس السادات، لكن دون فعل "الحرب كانت مفاجأة لينا ولإسرائيل"، أربعة بيانات صدرت من القوات المسلحة قبل البيان الخامس الذي أعلن قيام حرب أكتوبر، يتوقف جمال عند تلك اللحظة بالدموع، وقت أن همً قائد الكتيبة رافعا كلتا يديه "الحرب قامت يا رجالة"، شعور بالخوف والاستعداد معا اختلط في الشاب الذي لم يكمل عامه العشريني، ودخل إلى لحظة الحرب مصادفة.
فشل في الثانوية وانتصر على الجبهة.
وسط طلبات لا تنتهي من موظفي الشركة يتذكر عم "جمال" أيام مضت، سقوط في مرحلة الثانوية بالدراسة، بعد رسوب آخر لأخيه الأكبر في كلية الهندسة، جعله يدفع الثمن، حين قرر والده معاقبته بدفعه إلى الجيش "وقتها كنا بنخاف من أهلينا، ومينفعش نكسر لهم كلمة، وأنا كنت الصغير"، يتذكر "جيمي" الاسم الذي يناديه به المقربون منه- لحظة أن وطأ إلى منطقة الحلمية للتقدم بأوراقه للجيش، نصحه أحد الجيران بألا يذهب، فيخشى والده ويتقدم في أواخر العام 1972 إلى القوات المسلحة، وتبدلت رؤيته للجيش.
لا تُمحى لحظات الحرب من ذاكرة ابن كفر الشيخ إبراهيم بقرية قويسنا بالمنوفية، والذي ظل في الجيش لفترة 17 عاما، حتى خرج من الخدمة، خطوات ثقيلة ممزوجة بالفخر يعبر بها وسط زملائه للضفة الشرقية لقناة السويس، تكبيرات وسجود، وأعمال للانتهاء من حُفر برميلية لإخفاء الجنود عن الاستهداف، يتذكر جمال رفيقه "علي مخيمر" ضابط الاستطلاع المجاور له في حفرة أخرى "وقت ما وقعت قذيفة عليه كفناه ودفناه في مكانه"، كان الجنود يتوضؤون قبل أن الدخول إلى ساحة المعركة، يقول "عشان لو متنا نكون طاهرين".
منذ السادس من أكتوبر وحتى 13 أكتوبر، كان جمال جنديا على الجبهة، وسط صراع تواتر إليه من جهاز الإذاعة عن النية في وقف إطلاق النار، شعر فيهم جمال بالخوف والموت وفرحة الانتصار، وقت أن اقترب فيها الطيران الإسرائيلي من أماكن الجنود، ووقت أن دُفع بالكتيبة لأطلاق الصواريخ بعد أن نفدت الذخيرة في كتيبة أكثر قربا من العدو، رأى جمال الدبابات الإسرائيلية تقترب من الجانب المصري، "وقتها خدنا أوامر اتجاه ومسافة ونضرب صواريخ".
صفعة لا ينساها
في ذلك اليوم موقف لا ينساه الجندي على الجبهة، وقت أن شعر بالهزيمة فقال بمرارة "اتهزمنا اتهزمنا"، فصفعه رئيس الكتيبة الخاص به، "لسة فاكر المشهد ده، اسمه عبد الرحيم، ضربني وقالي اوعى تقول مصر اتهزمت، دي مناورة"، وقت أن كان موقع الكتيبة في وسط الكتائب على الجبهة، "طائرات إسرائيل كانت بتشيل الدبابات على الجبهة أدام عينينا، وكانت الطائرات بعيدة زي النجوم وبتضرب فينا بعشوائية"، دفعت الكتيبة من تلك الضربات شهداء منهم قائد الكتيبة ورئيس عملياتها.
لم تهدا الكتيبة إلا عندما وضعت الحرب أوزارها بقرار 338 من مجلس الأمن، ووقف إطلاق النار في 24 أكتوبر، ترتبط ذكراها في ذاكرة الجندي بيوم وفاة الكاتب المصري طه حسين، أنفاس استرجعها ابن كتيبة الصواريخ بعد وقف إطلاق النار، لقاء بأحد الأشخاص وهو من جيرانه وقت أن كان مقيما في منطقة الأزهر، يكون هذا الشخص مرسالا فيما بعد ليطمئن أهله، والذي غاب عنهم ما يقارب من أربعين يوما طوال فترة الحرب، أموال جمعتها الكتيبة مما تبقى معهم لشراء طعام وسجائر، "مكنش فيه فرق بين جندي ولا قائد، كله كان واحد"، قرية صغيرة في الإسماعيلية قدمت المساعدة للكتائب، كان فيهم فتاة أصبحت زوجة لجمال بعد الحرب بسبع سنوات، ليتم زواجه في 1980.
لا يزال جمال يذكر لحظات أول يوم بعد الحرب في عودته للقاهرة، الدموع انهمرت من عينيه عند ذكر اللحظة التي مر عليها 24 عاما، لباس الأفرول العسكري المتسخ، وأموال قليلة لا تكلفي لإيصاله للمنزل، في السابعة صباح الثالث من نوفمبر، يستقل تاكسي ويذهب به إلى الأزهر، في الطريق يستأذن من السائق أن يحصل على باقي الأموال من بيت أهله، لكن فخر ومحبة تخرج من السائق إلى الجندي الصغير، "ده انتوا شرفتونا وجبتولنا النصر"، ليكون أول المهنئين لجمال، لحظات استرجع فيها راحته من الحرب وقال "نسيان القرب من الموت نعمة، لكن فيه حاجات لا يمكن أنساها".
"هو أنت لسة مامتش؟".. سؤال من الأب فور رؤية ابنه المحارب، أحضان من الاهل والأشقاء بعد أمل مفقود في العودة كلما مرت الساعات بعد الحرب، "كان مفيش فيه أي وسيلة تواصل بينا وبين أهلنا، كنا بنسمع أنهم بيبعتولنا جوابات، لكن مفيش حاجة وصلت لينا، وإحنا مش عندنا وقت نكتب جوابات".
"نقطة في بحر الجيش"
توقف الحرب لم تكن رغبة الجندي جمال، ورغم طاعة الجنود لأمر القيادة كان يرى أن كامل الأرض ربما كان يعود بالسلاح، "إحنا خدنا 15 كيلو بالحرب وباقي الأرض بالتفاوض، لكن مينفعش نقدر نقف أكتر من كدة أمام أمريكا اللي مولت أسلحة إسرائيل"، لا يزال يحمل الفخر لقائد الحرب أنور السادات، إحساس بمرارة الغدر حين شاهد مقتله على الهواء في حفل الكلية العسكرية 6 أكتوبر 1981، "وقتها حسيت أنه هيحصله حاجة"، يستهجن المحارب القديم اختزال حرب أكتوبر لمدة 30 عام في شخصية مبارك بطل الحرب والسلام، يرى جمال أنه دور الإعلام.
من فرد استطلاع إلى حكمدار طقم في السرية، ثم عامل في الماليات لمدة عشرة سنوات في الجيش، كانت طريق جمال في سلك الجيش، إحساس النصر والفخر يغلب على جمال رغم عدم التكريم، الذي لا يزال يروي لأحفاده الثمانية، بعد روايته لأبنائه الأربعة "مروة ومي ومحمد ومريم" حكايات الحرب، لا يرى الجد أن جيل الشباب يعرف ما يكفي عن الحرب وأيامها، يشعر بفخر تلك الأيام حين يقول أقاربه لأحد جديد "ده بطل حارب في أكتوبر"، يقول المجند القديم عن نفسه "أنا نقطة في بحر الجيش اللي عمل النصر".
"التكريم الحقيقي من الناس".
ذكرى أكتوبر العطرة لا تزال تعرف طريقها إلى نفس جمال، "كل ما يجي يوم 6 أكتوبر بحس إن ده عيدي"، عمل "شوشة" لفترة طويلة في حزب مصر الفتاة ثم حاليا عامل في بوفيه إحدى الشركات الخاصة، لا يشعر بإهانة لكونه عامل بسيط الآن "أنا بحب الحيطان والأرض في شغلي، وطالما بحب مش بتأذي حتى لما أروح كل يوم من المنوفية إلى القاهرة".
منذ أيام وجد جمال علما لمصر ملقى على أحد الطرقات، العلم الصغير أفرد له العامل مكانا على نتيجة منزله، بعد أن صنع له دبارة صغيرا معلقا له، رأته الزوجة ثم دلفت بسؤاله "هى مصر اديتك إيه؟"، ليرد عليها "مصر ادتني كتير، مش لازم نياشين أو تكريم، كفاية حبي للبلد"، لا يشعر الرجل الستيني بمرارة عدم وجودة في اثنين وأربعين احتفالا لنصر أكتوبر، "كل سنة بيتم تكريم القادة، وكان فين نية لتكريمنا بنجمة سيناء من السادات، لكن صعب يكرم كل الجيش، إحنا كنا بنحارب على الجبهة وكتير مننا يستحق التكريم".
علاقات منقطعة بين زملاء الحرب، يقول "إحنا بقينا طبقات، اللى ربنا فتح عليه واللي على أده"، لا يزال يذكر مشاهدته لزميل له يُدعى "أحمد" عرفه في منتصف التسعينات في محطة مصر، أثناء ذهابه إلي بلده بالمنوفية "كنت بشبه عليه لكن تأكدت إن هو من إصابة رجله اللى خدها من لغم في صحراء سيناء، وقتها خدته بالحضن".
تابع باقي موضوعات الملف:
بالصور- حكاية من مهدّوا خط بارليف تحت أقدام الجيش
حكاية "العبادي".. صاحب خدعة الحرب البديلة بـ"الغناء"
المقاتل "عادل".. مصاب حرب73 لم يحصل على ميدالية "بلاستيك"
120 يوم حصار.. تفاصيل الأيام العجاف للمجند "راشد"
فيديو قد يعجبك: