120 يوم حصار.. تفاصيل الأيام العجاف للمجند "راشد"
كتب- دعاء الفولي وإشراق أحمد
كانت الشوارع تصدح بالاحتفالات، الزغاريد تُعلن وقف الحرب في الرابع والعشرين من أكتوبر 1973، عادت سيناء للمصريين، السعادة بطل المشهد، غير أنه في زاوية صغيرة من الواقع الجميل ثمة نفوس عالقة بين نصر العبور والحصار، تحت عيون العدو المتربص على بُعد كيلومترات من الكتيبة 266، التابعة للفرقة السادسة مُشاه ميكانيكي، والتي يتبع لها الجندي محمد راشد، كان رذاذ النصر يترامى إلى أسماعهم، حينما أبصر "راشد" الطيران الإسرائيلي محلقا بكثافة فوق الرؤوس طيلة اليوم، يُعلن عن حصارهم المستمر لأربعة أشهر، يعود "راشد" بعدها بطلًا حتى حين، لكنه يظل يتلو حكايته على مسمع الأبناء من الكبير "عمر" وحتى ذي الـ12 عاما، يسرد التفاصيل مرأى العين فقط كي لا تصدأ الذكريات بطي النسيان.
شاب لم يكمل عامه العشرين، التحق بـ"الجهادية" مع من التحقوا عام 1971، لا يعلم ميعاد الحرب، تمضي الأيام حذرة في اتجاه ساعة الحسم "بين تدريبات قتالية على المعركة"، أوقات مرت على "راشد" لم يهوّنها سوى الصحبة، لا ينسى قلقه من فارق التسليح والقوة العسكرية المرجحة للعدو، أراد أن يطمئن، فتحدث إلى الفريق سعد الدين الشاذلي الذي كان يمر بهم تباعًا، فما بخل بوقت وكلمة "كان بيسمع حتى للجنود"، فأباح له عن توجسه، فما كان من القائد إلا قال له "إن ينصركم الله فلا غالب لكم.. النصر من عند الله"، لم يجد المقاتل الصغير حينها موطن حديث، أسر الكلمات في نفسه، وعاد للصفوف منتشي باليقين.
في الواحدة والنصف ظهر السادس من أكتوبر وصل الجنود لمواقعهم على ضفة القناة قبيل العبور، مر الوقت ثقيلًا حتى موجة الطائرات الأولى "كان سرب فيه خمس طيارات وكنا بنعد الطيارات اللي رايحة عشان نعرف الخساير"، قال "راشد" بينما يقطع صفو الحديث صوت طائرات تجوب سماء الإسكندرية احياءً للذكرى الـ42 للحرب، ومعها يستعيد الرجل الستيني أمجاد زالت "الطيارات زي دي وقتها كانت بترمي قنابل يجي 100 طن".
عبر "راشد" القناة مساء الثامن من أكتوبر "أول حاجة عملناها بعد وصول سينا هو السجود وتقبيل ترابها"، ثم التخييم وأخذ الاحتياطات اللازمة، الزهو بالنصر جعلهم يرغبون في التقدم أكثر، لكن الأوامر جاءت بعكس ذلك، ومع غروب شمس يوم عبور لواء 122 مدرع ملحق بالفرقة السابعة حان وقت الخدمة الليلية لحراسة الجيش من هجمات جنود الاحتلال المحتملة، كان المقاتل العشريني بين مَن حموا المحاربين المحاولين أخذ قسطًا من النوم، حينها وفقط اشتم رائحة الموت "مش عارفين العدو هيجي لنا منين وأحنا أول الخط مفيش بينا وبينه حاجة.. كنا متوقعين الموت في أي لحظة".
بينما يسهب بطل الحرب في تفاصيلها، يدخل أصغر أبناءه، يمد يده إليه بظرف مغلق وضع به كلمات عن حرب أكتوبر، ذيلها بإمضائه "عبد الرحمن محمد راشد"، لم يعبأ للأخطاء الإملائية بها، أعطاه إياها بفرحة غير معتادة "لقد حارب الجنود المصريين بشجاعة .. وانتصر الجنود على الأعداء بفضل من الله وعادت سيناء الحبيبة إلى أرض الوطن"، تلك الكلمات البسيطة كانت كفيلة ببعث الابتسام والحنين والرضا في نفس مقاتل سابق لم ينل سوى 14 جنيهًا جزاء أداءه للخدمة الوطنية.
في 14 أكتوبر، بدأ الطيران الإسرائيلي بتكثيف هجماته "واحنا كنا مستائين وقتها.. لأننا معندناش أوامر بالتحرك وبنتضرب ومش عارفين نهاجم"، الخنادق كانت المأوى، ينتظر فيها الرفاق لحين انتهاء القصف، محمد مصطفى كان الضحية الأولى في الكتيبة، وجدوه ميتًا عقب أحد الموجات، دماءه لازالت دافئة تنزف، ولم يكن بيدهم شيء ليفعلوه، سوى بحثهم المحموم داخل الخنادق عن شهداء آخرين "فيه زملاء ماتوا من ضغط الانفجار في الخنادق".
لم تنته الحرب مع 24 من أكتوبر بالعبور كما يظن الكثير، فالفرقة السادسة للجيش الثالث الميداني بعد قرار وقف إطلاق النار ظلت بقلب المعركة"عانينا في الحصار أكتر من الحرب.. أصعب ما فيه أننا مش عارفين مصيرنا".
الإمدادات جميعها مقطوع، لا شيء سوى راديو ترانزيستور رفيق "راشد" منذ العبور إلى سيناء، ومع الحصار لم يكن هناك سوى أذن تنصت لأخبار مفاوضات الكيلو 101 على مؤشر الراديو، وعقول متيقظة لغدر العدو "بدأنا نحضر السونكي –السلاح الابيض- للقتال المتلاحم"، ففشل المفاوضات لم يكن يعني سوى العودة للقتال مرة أخرى، في ظل ذخيرة أقل مما كانت بداية الحرب، صارت المعارك تجري خلف كتيبة "راشد" وأصبحت حيواتهم مرهونة بصحراء نائية وعدو لا يرحم، صاروا منفصلين تمامًا عن البقية.
قبل أن يعرف الجنود بالحصار
كان الميعاد مع انتصار آخر، فقد استطاعوا أسر أحد كتائب جيش العدو، وكان المُعسكر به 39 ضابطًا وجنديًا إسرائيليًا "خرجوا كلهم محنيين الرأس.."، يذكر "راشد" وجوههم المعبأة بالغبار، والخزي في أعينهم، ودباباتهم التي أدارت سلاحها ورفعت الأقمشة البيضاء تعبيرًا عن الاستسلام، يبتسم الرجل الستيني حين تأتيه صورة المُعسكر "كان عندهم رفاهية مفيش زيها.. فرش أسنان وعصاير أشكال وألوان ودواليب للهدوم"، كانوا كمن خرج في نزهة مقارنة بالجنود المصريين "مكنش معانا غير الهدوم اللي علينا".
مع تذكر "راشد" لتلك الأيام يحضره تعامل الضباط وقتها "مكنش فيه فرق بين مجند وغيره"، يربط ذلك بالتفريق الحادث الآن، فالوجوه التي تُكرم كل عام تجعله يتساءل "ليه اللي كانوا في قلب المعركة محدش اهتم بيهم؟".
الخامس والعشرين من أكتوبر، وككل يوم حان الوقت لتوزيع العلب الثلاث لوجبات المجندين "لكن فوجئنا إنهم بيدوا علبة واحدة لكل 5 مجندين لمدة 3 أيام"، علم "راشد" فيما بعد أن مخزون القطاع -يضم حوالي 20 ألف جندي- أوشك على النفاد، وما لديهم يكفي لأسبوع أو عشرة أيام، أما المياه فنالها نصيبًا من القحط "كان لنا زمزمية في اليوم لتر غير جراكن المياه المتوفرة"، فصار للجندي الواحد زمزمية مياه لـ24 ساعة، ولا يوجد "جراكن" احتياطية.
انقسم "راشد" وزملاءه لمجموعات للحصول على أي طعام، مخلفات وجباتهم القديمة كانت مسرحًا للبحث علّهم يجدون ما يؤكل، مدينة السويس التي تبعد عنهم حوالي 3 ساعات كانت كالجنة، إذ يُحتمل أن يحضروا منها أي شيء "كنا بنروح السويس نجيب أي حاجة لدرجة إننا من قلة الطعام بدأنا نقلل الحركة وبدأنا نصوم تاني".
الثلاثون يومًا الأولى في حصار الأربع أشهر كانوا الأسوأ، الخروج والدخول شبه مستحيل، كان الليل هو ميعاد العبور، اثنين من الكتيبة يتحركان آملين العودة لرفقائهم أحياء، وبحوزتهم ما يسد الرمق "دقيق.. عيش.. بصل.. أي حاجة تتاكل وكانت أجمل هدية يديها حد لزميله هو البصل"، ولأن الظرف غير طبيعي؛ فكذلك كانت العُملة "كنا بنبدل السجاير بالأكل"، إلا أن الوصول لبائع داخل السويس في حد ذاته كان عسيرًا، فقد كانت خاوية على عروشها، إلا من بعض السكان الذين أبوا النزوح.
على خوف كان أحد جنود الكتيبة يسير، حين قابله بئر مياه، لا يعلم أحد من أين جاء في تلك المنطقة القاحلة، اقترب رويدًا، شعر بالمياه حقيقية تتدفق، لم تمر لحظات حتى أبلغ الوحدة بمكان البئر، إنقاذ إلهي حفظ أرواح المجندين "لولا البير كنّا موتنا"، لكن الرحلة الوصول لمصدر المياه –عيون موسى- الوحيد كانت مليئة بالمصاعب كذلك، فأي انحراف عن خط السير الواضح قد يُلقي بهم في الأسر، وهو ما كاد يحدث مع راشد "بعدنا عن الطريق ولقينا نقطة وتخيلنا إننا كدة اتأسرنا بس طلعوا من الجيش المصري".
""نحن بخير وإن شاء الله في أقرب وقت سنحصل على إجازة ونراكم" كلمات أول برقية كتبها "راشد" لأهله شهر يناير 1974 قبل نحو شهر من فك الحصار، لكنها لم تصل، كانت مجرد دعوة من القادة لرفع معنويات الجنود، وبالفعل أدت غرضها في نفس الشاب، حتى جاء يوم الرسالة الحقيقية بعد نجاح المفاوضات وانسحاب إسرائيل من غرب القناة.
رُفع الحصار وصارت الفرصة متاحة للعودة للأهل في زيارات مقسمة لأفواج، كان المقاتل العشريني في الفوج الثاني، لكنه لم يطق صبرًا لطمأنه أسرته، فأرسل خطاب مع أحد الرفاق العائدين إلى الإسكندرية في الفوج الأول من الزيارة، كان الطلب الأول فيه باعث على الابتسام، إذ طالب الابن المقاتل من والدته ارسال ما تسطيع من سكريات "هريسة، مربات، حلاوة"، لم يكن "راشد" وزملائه بشوق إلا لتلك الطاقة المُحلاة حتى موعد العودة.
الفرحة لا تسعها القلوب، زغاريد، تهليل وترحاب لا ينقطع، لوهلة ظن مقاتل الجيش الثالث أنه سيقتصر على أسرته، لم يعرف أن مصر خرجت عن بكرة أبيها لاستقبال الأبطال، فاحتضنته كثير من الأيدي حتى بلغ حضن أبيه وأمه، وكان ذلك هو "النيشان" الأول له والأهم.
أيام بجوار الأهل قبل العودة للخدمة، لم تتوقف بها الزيارات على بيت بطل شارع أحمد أبو سليمان بمنطقة الرمل "كان في ناس في الجيش من المنطقة لكن مش كل الجيش حارب ومش كل الجيش عبر"، لذا فالاحتفال لم يتوقف طيلة بقائه، "كنت أتمنى أنال الشهادة" أول كلمات "راشد" عن الحرب، لم يتحملها والداه، فانهمرت دموعهما، احتضنوا الابن حمدا لرؤيته بعد انقطاع شهور، لم يملكوا بها سوى الدعاء لولدهم ورفاقه بأن تحرسهم عين مَن لا ينام.
ظل "راشد" على الجبهة حتى عام 75، خمس سنوات في كنف الجيش المصري، تلاشت بها الذات، ترسخت العقيدة، زاد الإيمان، فلم يعبأ لتكريم لم يحظَ به أي من الجنود والضباط الصغار دون القادة، فقد كان استرداد الأرض ورفع الرأس بعد انكسار 67 هو منتهى تفكير المقاتلين الصغار، لذا كان التقدير البادي في عيون الناس بعد عودتهم لأسرهم، وتلك الشهادة التي أعطاها الجيش لهم بأدائهم الخدمة والواجب في حرب 73 كفيل بإشباع فرحة المقاتل ورفاقه حينها.
من رحم الحرب عرف "راشد" طريقه، ارتاح له، اختار أن يسافر إلى العراق حيث العمل بما يتناسب ومؤهله الذي توقف عنده بسبب الحرب "معهد عالي للتكنولوجيا"، فاستطاع أن ينشأ مشروع صغير لصناعة الماكينات بمنطقة "أربيل" العراقية، التي استقر بها نحو 10 سنوات، إذ كان البلد الشقيق في حاجة لصناعة المعدات التي حرم عليه استيرادها بسبب الحرب مع إيران، كما وجد الشاب العشريني في ذلك فرصة لتأكيد المعاني التي استقاها من الحرب بالدراسة "أخدت بكالوريوس دراسات إسلامية من جامعة صلاح الدين"، ليعود إلى مصر ويصبح خطيبًا وإمامًا لمسجد بمنطقة العجمي.
شريط يمر بـالرجل الستيني، كل عام باليوم ذاته في السادس من أكتوبر، لم تحمل كلماته لوم لعدم التقدير لمن كادوا أن يفقدوا حياتهم، ومَن فعلوا من رفاق عرفهم، فيما يُكرّم من لم ير ذرة تراب الأرض وهي محتلة، وإن كانت النفس بعد مرور السنوات تحمل عتاب المحبين.
تابع باقي موضوعات الملف:
بالصور- حكاية من مهدّوا خط بارليف تحت أقدام الجيش
حكاية "العبادي".. صاحب خدعة الحرب البديلة بـ"الغناء"
المقاتل "عادل".. مصاب حرب73 لم يحصل على ميدالية "بلاستيك"
"جمال شوشة": حرب أكتوبر مش مبارك وفخور بعملي في بوفيه
فيديو قد يعجبك: