إعلان

بالصور- في حضرة ذكريات حرب أكتوبر.. أصدقاء كتيبة "525" على العهد باقون

07:33 م الأحد 26 أكتوبر 2014

كتبت - رنا الجميعي ودعاء الفولي:

إذا نظر إليهم أحد لقال إنهم يلتقون كل يوم، ضحكاتهم وثرثرتهم توحي بذلك، ترتكز أحاديثهم على الحنين الدائم لما مضى، رغم مشاكل الحياة إلا أن ما يشتركون فيه كان أقوى من أن يمحيه مرور الزمن وكبر السن، دائرة كبيرة يجلسون بها تسع الجميع، في بعض الأوقات ينقص منهم فرد، تأخذه عثرات الحياة أو الموت، غير ذلك فأعضاء كتيبة "525" دفاع جوي لازالوا يجتمعون رغم مرور 41 عاما على حرب أكتوبر.

25 عاما استمر خلالها رفاق حرب أكتوبر في التلاقي بدار ضباط المدرعات، يوم واحد في السنة، يتزامن اللقاء مع شهر الحرب، كانوا زملاء كتيبة واحدة، وقائدهم برتبة رائد وقتها "كمال عبد الرحيم"، لم يكن فقط قائدهم ولكن الرجل الذي أدانوا له بالاحترام طيلة الوقت لأنه السبب في تجمعهم، "دورت عليهم عن طريق دليل التليفونات"؛ قال "عبد الرحيم"، لم تغب ألقاب عائلاتهم عن عقله، غير أن أحد الأعضاء كان يحفظ أسمائهم رباعية، ما يسر على "عبد الرحيم" البحث والاتصال بهم.

استطاع اللواء "عبدالرحيم" أن يجد زملاء كتيبة "525" دفاع جوي، اتصل بهم ورحبوا باللقاء السنوي، اقتصر الاجتماع على الضباط وخلا من الجنود، فقوام الكتيبة كان 400 شخص، من الصعب تواجدهم جميعا خاصة أن الجنود أتى معظمهم من قرى ومحافظات بعيدة، لذا لم يحضر سوى 10 أفراد، يقل العدد أو يزيد من عام لآخر، رغم مرور السنوات إلا أن "عبد الرحيم" يشده الحنين دوما إلى الجنود الذين اشتركوا معه أثناء نكسة 1967، يحفظ أسماء بعضهم عن ظهر قلب "أنا ممكن أقابل حد مع تقدم السن، أنسى شكله واسمه، إلا اللي حاربوا معايا".

كل تفاصيل المعركة ظلت بذهن محاربيها؛ كانت مهمتهم في الحرب تقضي بحماية كوبري الشهيد "أحمد حمدي" من قصف الطائرات الإسرائيلية، حتى يعبر عليه الجنود سالمين للضفة الشرقية من القناة، يتذكر اللواء عدم وجود إصابات بكتيبته سوى فردين قبل يوم 22 أكتوبر، ولكن الإصابات بدأت تتزايد تزامنا مع ذلك اليوم لعدم التزام إسرائيل بوقف اطلاق النار الذي أقره "مجلس الأمن، ومع حلول الساعة السابعة مساء المتفق عليها لوقف إطلاق النار بدأت المعركة الحقيقية، انقسمت الكتيبة، البعض عبر قناة السويس عائما والبعض الآخر ظل بموقعه بالضفة الغربية يجمع جنوده، من ضمنهم الملازم أول لطفي السيد.

مع اشتداد الضرب المتبادل وهجوم القوات الإسرائيلية على موقع الكتيبة؛ أصرّ "السيد" على البقاء لإيجاد جنوده الذين اختبأوا تحت وطأة النيران؛ فوقع بالأسر لدى العدو الذي تحفظ عليه بأحد معسكرات سجن "عتليت" بمدينة حيفا لمدة 26 يوما، حتى تم إطلاق سراحه مقابل أسرى في الجهة المقابلة، أما الملازم الأول عبد الرحمن لطفي فكان ممن عبروا للضفة الشرقية بدلا من الأسر - بعد أن استطاع مجموعة من القوات المصرية العبور إليها - "قلت أنا كدة كدة ميت ميت يبقى أعوم وخلاص".

رغم الأحداث القاتمة إلا أن الفكاهة حلت قليلا لتخفف من وقع الأيام، يروي "لطفي" كيف كانت محاصرة العدو لهم في السويس بعد أن دخلها، الأمر الذي جعل صنع الطعام في حد ذاته جهاد "كنا بنجيب المية والملوخية الناشفة والعيش بيبقى قرب يبوظ ونحطهم سوا وتبقى فتة"، قال ضاحكا، قبل أن يتحدث بأسى عن رفيقه الذي مات غرقا في القناة؛ فبعد عبوره نظر ليجد عدد من الجنود يعبرون، وأحدهم لم يكن سباحا، وازن الملازم الأول الأمر بعقله، هل يذهب لإنقاذه أم يظل بمكانه، لم يمر وقت حتى توفى العسكري بعد دقائق لم تكن لتسعف "لطفي" لفعل شيء.

"دي معرفة قروانة"؛ جُملة تُقال عن رفاق الجيش، الذين لا يهتمون بالالتقاء مُجددا عقب انتهاء الخدمة، إلا أن ذلك لم يكن حال "السيد"، يرى أن أصحاب كتيبته هم الأبقى، كان مسؤولا عن التعيينات من طعام وشراب وغيرها وقائد سرية، لم يكن ذو خلفية حربية، فقد تخرج في كلية التربية ودخل لقضاء التجنيد الإجباري 1971 ولم يخرج منه سوى 1976، في دار المدرعات كان "السيد" أنشطهم حركة، يبتسم لتندرهم على حالتهم الصحية، يدعوهم لالتقاط صورة للذكرى، لا ينسى لقب "يا فندم" بديلا عن اسم اللواء "عبد الرحيم" دائما في الكلام.

الحرب جهد كبير على الروح، ولكن في نفوس محاربيها كان الوقع أكبر، مشاهد الموت والانفجارات لا تُنسى، الشهيد الذي لم يتبق منه سوى قدم مشهد لم تمحيه ذاكرة "عبدالرحيم"، كان جندي إشارة اسمه حسني رياض، مكلف بتوصيل الخطوط الخطية للسرية، قُتل بسبب دانة سقطت عليه، يذكر اللواء كيف ذهب الصول للمسئول عن مقابر الشهداء؛ فلم يرد الاعتراف به كشهيد، فقال القائد للصول "لو منفذش الأمر ودفنه اضربه بالنار".

خارج محيط "الصحبة" تقف كل الحكايات التي تسري بأذهانهم قبل أن تُقال، لأن من يستحقوا سماعها هم الرفاق، لذا فمكانها دار المدرعات، كان اللقاء دوما بالمساء، ومع كبر السن، نصح البعض أن يكون التجمع نهاري، فهناك من يأتي من محافظة أخرى.

كانت الدموع تترقرق في نبرة صوته المُهتزة، رغم نظاراته الطبية؛ متكئا على جانب المقعد كان الملازم الأول رمضان أحمد، استرجاع الذكريات في اللقاء السنوي هدفا لديه كما الآخرين، غير أن حكايته تحمل بُعدا جديدا؛ فقد فيها إحدى قدماه "انا فاكر الأحداث زي ما تكون إمبارح.. بس من رحمة ربنا إني مش فاكر ألم الإصابة".

وسط الأصدقاء لم يكن "أحمد" الأكثر حديثا، ما إن يطلب منه أحدهم سرد قصته حتى يبدو كمن لا يستوعب ما حدث له، فجر يوم 25 أكتوبر في موقعه بغرب القناة، كانت دبابة وسيارتان مدرعتان تتبعان العدو تتقدمان ببطء في اتجاه السرية، ما كان من الملازم الأول سوى إعطاء الأمر للعساكر للاحتماء بالسواتر بعد أن فتحت قوات إسرائيل النار عليهم "وفضلت أنا عشان أشتبك معاهم.. لأني لو كنت دخلت كانوا وجهوا النار للمخبأ تحت الأرض اللي فيه العساكر.. ففضلت عشان ألهيهم بنار المدفع بتاعي"، أربع رصاصات كُن الأوائل "مروا ما بين رجلي"، اشتدت الطلقات فما كان منه سوى النوم على الأرض مع استخدام المدفع، إلى أن انتهى مخزونه "كنت لازم أقف عشان أعمره.. والوقوف معناه موت لأنهم كانوا بيضربوا في مستوى المدفع" قال "أحمد".

بأعجوبة استطاع "أحمد" الاختباء بين دشمة الرمل "كنت بحس بالرصاص في ضهري"، ظل هكذا إلى أن قرر مع اثنين من الضباط اللذان خرجا للاطمئنان عليه وأحد العساكر أن يلتفوا خلف الإسرائيليين بأسلحتهم الشخصية، كان قائد السرية يعلم بوجود ألغام صغيرة في نفس المكان حيث قرروا الالتفاف لمنع إحداث ثغرة من قبل العدو "اللغم أد علبة الكبريت وموصول بأسلاك.. يصيب شخص مش دبابة"، حاول "أحمد" تحذير الجمع من اتخاذ خطوات في تلك الألغام "مكملتش الجملة كنت أنا دوست في واحد"، توقف الملازم الأول عن الحديث لبرهة، دمعات على وشك النزول، لملمها سريعا وعاود القول "الحرب صعبة مش سهلة.. إرادة ربنا إنه ينجيني ومموتش".

عبد الحميد عبد المتجلي أحد أفراد الكتيبة الجالسين أمام المائدة، كان ملازم أول أيضا، لا يحسب عمره سوى بسبعة عشر يوما قضاهم في الحرب، ست سنوات تخلف فيها "عبد المتجلي" عن "لمة" الأبطال، حيث حاول اللواء "عبد الرحيم" مرارا الوصول له غير أن دليل الهاتف لم يسعفه بشيء "وصلولي عن طريق زميل معايا في الأكاديمية الحربية"، يتسمع الملازم المتقاعد للأحاديث كأنها المرة الأولى، بينما التقط اللواء "أبو الفتوح" الحكاية قائلا "أكتر ناس ببقى مفتقدهم في القعدة هم العساكر"، كان "أبو الفتوح" هو الضابط المسؤول عن الاتصال خلال الحرب، وظيفته مراقبة حركة المجال الجوي لمعرفة مدى إمكانية إطلاق الصواريخ من عدمها، يأتي من المنصورة كل عام في شهر أكتوبر طبقا للميعاد المُتفق عليه، ويعود في نفس اليوم "فرصة متتعوضش مرة تانية".

لقصة الملازم الأول "أحمد" بقية مع الإصابة؛ نقله الأصدقاء سريعا للخندق مرة أخرى في انتظار المساعدة "وقتها عرفت إن رجلي راحت"، في المخبأ طلب المساعدة أكثر من مرة غير أن ذلك كان صعبا لاستمرار الاشتباكات، خاصة مع إصابة أحد الضابطين بشظايا اللغم ووصول إصابات أخرى "وقتها وصيت الناس إن فيه مصابين في الخندق ولو موصلناش لمستشفى يبقى إحنا شهدا ومليتهم أسامينا"، آخر مشهد يذكره الملازم المتقاعد كان دخوله السويس مع قوات الجيش في السادسة والنصف صباح 25 أكتوبر "وهناك شفت نتاج اللي المقاومة الشعبية عملته".

وسط الجمع يتلو أحدهم ذكرى أخرى؛ كحال الأربع عساكر الذين استشهدوا نتيجة سقوط قذيفة وسطهم "كانوا على شط القنال بيفطروا.. الدانة نزلت وسطهم بالظبط.. بقينا نلم أشلاء"، قال "أبو الفتوح" عن العساكر الذين كانوا تحت قيادته في 9 أكتوبر حيث الأيام الأولى للحرب، عقب هذه الحادثة صار الحذر رفيق الكتيبة بأكملها، ليقاطعه "أحمد" راويا حادثة له قبل الإصابة؛ حيث ذهب ليستحم، وما إن شرع في الأمر حتى سقطت قذيفة على مقربة منه "مبقتش شايف من التراب"، خرج العساكر بحثا عنه ظنا أنه مات، ليجدوه وقد نفض عن نفسه التراب والخوف وأكمل الاستحمام "مكانوش بيضربوا في نفس المكان مرتين وكنت لازم أستحمى"، مرت المخاطرة بسلام وبقيت ضحكات على ثغر الأصدقاء كلما تذكروا عدد المرات التي نجوا فيها من موت محتم.

اللقاء طقس يمتلك قدسية ما، يحضر بعض أعضاءه أفراد من عائلته، يقلق الأصحاب فقط بسبب تقدم سنهم، كما يمر بذهن "عبد الرحيم"، ويصبح سؤال "يا ترى هنتقابل السنة الجاية ولا لأ؟" معلقا حتى العام المقبل، أعمارهم التي تتفاوت بين الثماني وستين والسبعين تفرضه عليهم "فيه واحد زميلنا اتوفى من سنتين، ورمضان مكنش بييجي السنة اللي فاتت" على حد قول اللواء "عبد الرحيم".

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك ...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك: