إعلان

لماذا قتلهم أو أنكرهم إبراهيم العريس بمؤتمر النقد بالرياض

د. أمــل الجمل

لماذا قتلهم أو أنكرهم إبراهيم العريس بمؤتمر النقد بالرياض

د. أمل الجمل
04:05 م السبت 09 نوفمبر 2024

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

د. أمــل الجمل

فــي بــعض أفــلام الــعنف - غــير المــحتملة - أضــع يــدي فــوق الأذن، حــتى أُحــجب الــصوت تــمامــاً. لمــاذا أفــعل ذلـك؟ لأنـه لـو اسـتمر الـعنف الـصوتـي بـالـفيلم، هـنا، لا يـكفي إشـاحـة الـناظـريـن، لأن الـصوت سـيواصـل الـعمل على المُخيلة.

اسـتعدت تـلك المـلاحـظة عـلى نـفسي وآخـريـن، بـينما كـنت أُعـيد تـأمـل تـفاصـيل مشهـد مـقتل والـدة الـبطل بـفيلم »المـليونـير المتشـرد« أو »مـليونـير الـعشوائـيات« slumdog millionaire، فـفي المُـشاهـدة الأولـى لـم أنـتبه لــوجــود المــؤثــرات الــصوتــية والمــوســيقي، لأنــهما كــانــتا ملتحــمتان مــع الــصور كــالــكائــن الــحي المــتماســك. كــانــتا مــمتزجــتين بــتلاحــم مــتين كــما تــفعل شجــرة »أم الــفواكــه« - الــبا ُشــن فــروت - فــي أســلوب هــارمــونــي بــديــع مــع الأداء الـــتمثيلي، لـــدرجـــة كـــان يصعب مـــعها الـــتمييز بـــين المـــوســـيقى وبـــين المـــؤثـــرات مـــن نـــاحـــية، مـــثلما كـــان يـصعب الـفصل بـينهما وبـين الـلقطات المـتوالـية المـُكونـة لسـرديـة بـصريـة مشهـديـة سـيتحول مـعها مـصير الـبطل للأبد، إذ سيفقد أمه ويصير مشرداً هو وأخيه.

التأثير الأسطوري للصوت بالسينما

كــنت غــارقــة فــي مــضمون المشهــد ومــحتواه مــن آثــار الــعنف الــطائــفي المفاجئ الــذي انفجــر كــالشــلال عــلى مـحيط شـعبي فـي مـومـباي حـيث كـانـت الـنساء تغسلن ثـيابـهن، والأبـناء يـلعبون ويـلهون فـي المـياه. حـالـة مـن الـــلهو والمـــرح والاحـــتفال بـــالـــحياة تـــنقلب فـــي لحـــظة، وأقـــل مـــن طـــرفـــة عـــين، إلـــى ســـاحـــة مـــعركـــة يـــختلط فـــيها الحابل بالنابل.

أدركـــت أنـــني بـــفضل المـــؤثـــرات الـــصوتـــية كـــنت أشـــعر، فـــي لحـــظة مـــا، كـــأنـــني فـــي وضـــعية الأم وهـــى تـــنظر لـطفليها بـين الآخـريـن فـي المسـبح، وتـارة أخرى أشـعر بـنفسي وكـأنـني أحـد الـطفلين عـندمـا يهـبط إلـى المـاء قـــبل أن يـــصعد مجـــددا. ثم بفعل وضعية زاوية الكاميرا والصوت مجددا ُعدت لتقمص شخصية الأم تـمامـاً بـينما كـانـت تـتلقى الـضربـات بـآلـة حـادة عـلى وجـهها، لـدرجـة أنـني تـألمـت، وأغـمضت عـيونـي مـن قـسوة وعنفوان الاعتداء.

الخداع الجميل

إن الــــصوت ُيــــحفز الــــخيال ويــــجعلنا عــــلى تــــواصــــل قــــوي مــــع مــــالا نــــراه، مــــن خــــلال المــــؤثــــرات الــــصوتــــية يــــقوم المخـــرج بـــوصـــف كـــثير مـــن المـــشاعـــر، بـــل، ربـــما يـــلعب دوراً أخـــطر مـــن ذلـــك، أو بـــالأحـــري، وفـــق مـــا يـــطرحـــه مــهندس الــصوت المــبدع الــحائــز عــلى أوســكار رســول بــوكــاتــي - ،Resul Pookutty - فــي مــحاضــرة عــن المـؤثـرات الـصوتـية والمـوسـيقى قـائـلاً: »إنـنا نسـتخدم الـصوت لـتغيير وجـهة نـظر المـشاهـديـن، وتـبديـل آراءهـم. يـحاول المخـرج والمـونـتير إبـراز الأصـوات وإظـهارهـا بـشكل قـوى مـؤثـر مـن أجـل الـسيطرة عـلي الجـمهور، إنـه أســلوب يــنطوي عــلى غــش، لــكنه أمــر ضــروري مــن أجــل الــصدق الــفني. ونــحن نــفعل ذلــك مــن خــلال خــمسة

أشياء موجودة بالمحيط: الحوار، والأداء التمثيلي، المؤثرات الصوتية، الموسيقى والأغاني.«

أخطاء إبراهيم العريس وقتله أجيالاً من النقاد

انتشال التميمي حــــين كان المدير الفني لمهرجان الجونة نجح في إقناع بــــوكــــاتــــي أن يحكي ويشرح بالتجربة العملية لجـمهوره مـن عـشاق الـفن الـسابـع فـي مـصر، فـكان المـقتطف الـسابـق بـمقالـي عـن رسـول بـــوكـــاتـــي ضـــمن مـــحاضـــرة اســـتمرت أكـــثر مـــن ســـاعـــة بمهـــرجـــان الـــجونـــة الـــسينمائـــي المـــمتد بـــين ١٩ - ٢٧ ســبتمبر ٢٠١٩. وهــى المــحاضــرة الــتي حــضرتــها بــنفسي آنــذاك ودونــت مــلاحــظاتــها الــتي أثــرت فــي بــشكل شــخصي وكــان عــنوانــها »الإبــداع فــي مــجال المــؤثــرات الــصوتــية بــالــسينما« والــتي جــعلتها جــزءاً مهما من الفصل الثالث لمشروع كتاب سينمائى جديد أرسلته لإحدى دور النشر قبل فترة.

أقـــول: كـــان لمهـــرجـــان الـــجونـــة الســـبق فـــي الـــوطـــن الـــعربـــي فـــي الـــتركـــيز عـــلى أهـــمية شـــريـــط الـــصوت بـــالـــفيلم الــسينمائــى وذلــك بــفضل رجــل المهــرجــانــات الــناجــحة الــقديــر انــتشال الــتميمي الــذي أدعــو لــه بــالــشفاء، وإن كان هناك محاضرات للعظيم نور الشريف عن أهمية الصوت.

ما الذي أعادني لتلك المحاضرة المنعقدة بالجونة في ٢٠١٩؟ إنـها الأخـطاء الـتي ذكـرهـا بـيقين - يـكاد يـقترب مـن الـقسم - الـناقـد الـسينمائـي الـلبنانـي ابـراهـيم الـعريـس إذا قــال إنــها المــرة الأولــي عــربــيا ودولــيا الــتي ُيــنظم فــيها مــؤتــمر للحــديــث عــن الــصوت الــسينمائــى، فــي نــدوة عـــقدت لـــه بـــمؤتـــمر الـــنقد الـــسينمائـــى فـــي مـــديـــنة الـــريـــاض ٦- ١٠ نـــوفـــمبر الـــجاري، وأدارهـــا بـــمهارة وحـــنكة تـشي بـثقافـة سـينمائـية جـيدة الـناقـد الـسعودي فـراس المـاضـي، وذلـك ضـمن قـسم »فـي صـحبة الـنقاد« فـي إطــار بــرنــامــج الــيوم الــثانــي مــن فــعالــيات الــنسخة الــثانــية مــن مــؤتــمر الــنقد الــسينمائــي فــي مــديــنة الــريــاض، والمنعقدة خلال الفترة ٦- ١٠ من شهر نوفمبر الجاري.

جـــاء المـــؤتـــمر تـــحت عـــنوان "الـــصوت فـــي الـــسينما"، حيث يركز على إثراء مجال النقد السينمائي وطـــنيّا ويتيح الفرصة لشبابه - بـالانـغماس - والـتفاعـل الإيجابي مـع تـجارب وخـبرات عـربـية ودولـيّة عـبر استعراض نطاق واسـع مـن مـفاهـيمه وتـطبيقاتـه، وهـو جهـد محـمود لـلمنظمين، رغـم أنـه لـيس كـل المتحـدثـين الأجانب عـلى نفس المستوى، هناك تفاوت.

لــكن، المــهم أن مــؤتــمر الــنقد الــسينمائــى بــالــريــاض والــذي تــنظمه هــئية الأفــلام الــسعوديــة لا يــحتاج إلــي أن ننسـب إلـيه ريـادة فـي غـير محـلها، والـدلـيل عـلى ذلـك ثـقافـة كـل المـواهـب الـسعوديـة فـي شـتى المـجالات الـتي الــتقيتها، وتــواضــعهم فــي الــتعامــل، فــالــحقيقة الــتي لمســتها أن المــنظمين يــسعون مــن وراء هــذه الــفعالــية إلــى الـتعمق، وإلـي خـلق تـفاعـل بـين الـعالمـين: صـناع الأفـلام ونـقادهـا، إلـي تـبادل الـخبرات، ولـم يـطلب أحـدهـم مـن إبـراهـيم الـعريـس أن ينسـب إلـيهم سـبق وريـادة فـي تـنظيم نـدوة ثـقافـية سـينمائـية، لـكن خـطأ الـعريـس نـاجـم مــن كــونــه أنــه لــم يــعد ُيــطالــع أشــيا ًء كــثيرة، فــهو يــقرأ ويــشاهــد فــي بــيته بــاعــترافــه هــو نــفسه، إنــه لا يــحضر نـدوات أو مـؤتـمرات إلا نـادراً. لـم يـعد يـطيق مـشاهـدة الأفـلام بـدور الـعرض، وهـذا بـاعـترافـه أيـضاً عـلى المـلأ، وهـذا سـر دهـشة الـكثيريـن لأنـه يـظل جـالـساً فـي بـهو أي فـندق يـتسامـر مـع ٌصـناع الأفـلام ويتحـدث لـوسـائـل

الإعلام عن سينما لم يعد يتابع أغلبها.

للحق، وحتى نكون موضوعيين، إبراهيم العريس ناقد سينمائي وقـــامـــة ثقافية كبيرة في مجاله، وأنا شـخصياً كـتبت عـن عـدد مـن كـتبه ونـاقشـتها.. لأنـني أُكـن لـه الـتقديـر لـزخـمه فـي الـكتابـة، وثـقافـته المـوسـوعـية بـجوانـب الـفنون، ولـدوره فـي تحـليل الـجوانـب المـجتمعية لـلأفـلام.

قتل أجيال من النقاد على الملأ

الجــزء الأهــم فــي كــتب إبــراهــيم الــعريــس يــتمحور حــول الأســئلة الــتي يــطرحــها، والــتي لا يــجيب عــليها فــي كـــثير مـــن الأحـــيان، لـــيس فـــقط لأن الإجـــابـــة عـــليها تـــحتاج بـــاحـــث دؤوب مجتهـــد، لـــكن الأهـــم بســـبب مـــراوغـــة العريس نفسه في ألا يقدم أجوبة حقيقية، كتابه عن شاهين نموذجاً.

صـحيح أيـضاً أن لـلعريـس أيـاد بـيضاء عـلى الـنقد وعـلى جـيل مـن صـناع الأفـلام، وأنـا شـخصياً وقـف إلـي جــانــبي أكــثر مــن مــرة، ودافــع عــن مــوقــفي عــندمــا اختلفت مــع إدارة مهرجان القاهرة السينمائي خــصوصــاً وقت أزمة »آخر أيام المدينة«. كان موقفه شجعاً.

لـكنه يـرتـكب أخـطاء أحـيانـاً تُـغضبني كـباحـثة، أولا هـو ذاتـه - أثـناء تـلك الـندوة - يـعترف أنـه لـم يـعد يـقرأ مـا ٌيــكتب مــن نــقد عــلى الــساحــة الــنقديــة، وأنــا أتــساءل: كــيف لا تــقرأ ثــم تُــصدر حــكما بــأنــه لــم يــعد هــناك نــقاد ســـينما بـــعد رحـــيل الـــنقاد فـــي جـــيلك، وكـــأن الـــنقد الـــسينمائـــي تـــوقـــف عـــندهـــم، وهـــذه مـــصيبة كـــبرى لـــو كـــان

حكمه صحيحاً، لأن الحياة لا تتوقف أبداً عند أحد.

المــثير لــلدهــشة أمــريــن: أنــه فــي الــكوالــيس يــحكي الــعريــس بحــماس عــن شــخصيات وأفــراد يــعتبرهــم نــقادا جـيديـن وبـاحـثين جـيديـن، لـكنه عـلى المـلأ وفـي الـعلن يـقتلنا جـميعاً - نـحن جـيل الألـفية الـثانـية - وربـما جـيلين آخرين، وذلك رغم أنه يستعين بكتابات بعضنا عند تأليف كتبه.

أتذكر واقعة حـــكى لـي عنها صديق لبناني أنه شاهد أحد كتبي بمكتبة إبراهيم العريس فطلب منه استعارة الكتاب لكن العريس رفــــض.لمــــاذا رفـض؟ لأنه يخشى من ضــــياع الكتاب الذي ُيعد مرجعا أساسياً ومهماً في أحد فصول تاريخ السينما المصرية في علاقتها مع الوطن العربي وفرنسا.

إضافة إلى ما سبق، من يراجع كتابه الأحدث عن »الــسينما والمــجتمع« سيجد أنه استعان بكتابات - أنـا ومجـموعـة مـن الـزمـلاء والـزمـيلات الـنقاد - ضـمن مـتن الـكتاب أكـثر مـن مـرة، وذلـك دون تـوثـيق أي مـرجـع بـشكل عـلمي، فـقط يـكتفي بمجـرد إشـارة فـي مـقدمـة الـكتاب، وهـو أمـر خـطير لأنـه ٌيـهيل الـثرى عـلى جـهودنـا كـباحـثين ونـقاد سـينما مـن أجـيال لاحـقة عـليه، وشـخصياً أعـتبر ذلـك أسـلوب غـير مسـتقيم ولـيس فـقط مـفتقد

للمنهج العلمي.

مــا ســبق يجعلني أتساءل مجددا: لماذا يفعل ذلك؟ هل لأنه لا يرى ناقدا غيره؟ هل لأنه يخشى أن يؤشر على ناقد/ ناقدة ويـــعترف بـــأهـــميتهما عـــلناً فـــيأخـــذان مـــكانـــته؟ لا أحـــد يســـتطيع أن يأخذ مكانة العريس بسبب شمولية ثقافته الاستثنائية أســـاســـاً. وفـــي تـــقديـــري أن الـــحكم المـــنصف بـــوجـــود تـــيار نـــقدي ُيضيف للإنسان ولا يأخذ منه.

الــبعض ُيــبرر مــا فــعله الــعريــس »بــالمــناكــفة«، لأن الساحة النقدية أصبحت ُمــباحــة لــعديــمي المواهب، وفــي رأيـي أن هـذا لـيس مـبرراً، هـذا عـذر أقـبح مـن ذنـب، لأنـه لـو صـح هـذا الأمـر فـمن واجـب إبراهيم الـعريـس أن ُيــنصف أصــحاب المواهب فــي مواجهة دخــلاء المــهنة الــذيــن صــاروا يــعتمدون عــلى فــكرة أن تُــرضــي الشــلة وتُسـبح بحـمد قـادتـها. لـكنها مـرة آخـرى الـعلاقـة المـلتبسة/ لـيس فـقط بـين الـناقـد وصـانـع الـفيلم، لـكنها الـعلاقـة الملتبسة بين أجيال من النقاد وبعضهم البعض، وكان الله بالسر عليم.

إعلان

إعلان

إعلان