لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

مغامرة «د.مرسيدس» الأخيرة

د. ياسر ثابت

مغامرة «د.مرسيدس» الأخيرة

د. ياسر ثابت
07:05 م الجمعة 02 يونيو 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


في روايته «د.مرسيدس» (بيت الياسمين، 2020) يُقدِّم ياسر نبيل رواية ذات إيقاع لاهث، وأحداث مثيرة تتأرجح بين الخيبة والأمل. وعبر صفحات الرواية (228 صفحة من القطع المتوسط)، تعيش مع بطل الأحداث كل آلامه وذكرياته؛ الحلو منها والعلقم. تخوض كل مغامراته دون أن تعقلها أو تدقق في منطقيتها وذلك لمهارة الكاتب الاستثنائية.

وظّف ياسر نبيل خبراته ومهاراته بوصفه مخرجًا تليفزيونيًا وصانع أفلام وثائقية تسجيلية، كي يعيد ترتيب الأحداث والمواقف بأسلوب القطع والمونتاج، ويتخلص من عيوب الترهل والرتابة في حكي رحلة أقرب إلى المغامرة لبطل الحكاية، ما بين القاهرة ودبي، وما بين إزمير في تركيا وجزيرة ليسبوس في اليونان وأحراش أوروبا، وصولًا إلى ألمانيا.

وفي كل خطوة، وفي كل مكان من هذه الأماكن، يمكنك أن تلمس بسهولة مدى احتشاد الروائي وتحضيره المميز لكل التفاصيل، كي تتطابق مع المسارات الجغرافية، والمفاهيم الثقافية، والعادات السلوكية لكل بلد.

ولأن سرد تفاصيل من المغامرة التي خاضها بطل الرواية قد «يحرق» بعض أحداثها، فإننا نكتفي بالقول إننا أمام عمل روائي يجمع بين أدب الرحلة وأدب الجريمة والتشويق، يزرع في نفس القارئ فضولًا ورغبة حارقة في الكشف عن تفاصيل اللعبة أو «الملعوب» الذي دبّره «عامر أبو كامل» لبطل الرواية المهندس «أيوب شاكر القصبي»، الذي اختفى بجواز سفرٍ مزوّر، بعد أن صدمه الطبيب بأن نتائج التحاليل تثبت أنه غير قادر على الإنجاب!

بعد التحقق من نتائج التحاليل، ينهار عالم البطل، وترتبك علاقته بالطفلين «لؤي» و«رضوى» وزوجته «هالة» التي لطالما أحاطت نفسها بسياج من التذمر والتمنع والغموض، فيضع خطة معقدة تجعله يذوب في هذا العالم الفسيح، تاركًا وراءه ألغازًا لا تنتهي وجثة غامضة في المريوطية!

في افتتاحية الرواية، نقرأ السطور التالية للراوي «عزت الشهاوي»:

«ما يلي من سطور، هو حكاية أخي وصديقي، وشريك رحلة سفري وغربتي؛ المهندس «أيوب شاكر القصبي»، كما وردت في أوراقه الخاصة، مكتوبة بخط يده، لا على الكمبيوتر؛ ذلك الخط المميز الذي يشبه السلاسل الذهبية في انتظامه وبهاءه؛ وقد آثرت أن أترك أوراق القصة على حالها، دون أي تدخل مني، حتى تواريخ الأحداث، تركتها مبعثرة كما هي، ولم أُعد ترتيبها وفقًا لتسلسل وقوعها المنطقي؛ رغم ذلك، اضطررت في بعض الأحيان أن أتدخل لتوضيح أمر ما، أو بغرض إزالة غموض عن واقعة محددة، أو التباس قد يتسبب في إساءة فهم حقيقة بعض الأحداث، وما جرى منها، في «غفلة» من كاتب المذكرات نفسه!؛ ليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل أعترف أني أحيانًا -ودونما اختيار مني- وجدتني متورطًا في بعض مجريات هذه القصة المثيرة، مدفوعًا إلى دفة القيادة، أقود بنفسي الأمور، لأتحول في لحظة، من مجرد شاهد على الأحداث إلى صانع لها بامتياز» (ص 8).

إن الإشكالية في واقعية السرد ولا واقعيته ليست جديدة، ففي القرن الثامن عشر استهوت الفلسفة كتّاب الأدب والنقاد المنظرين له من ناحية اهتمامهم بالواقعية ومناداتهم بأن الأشياء لها وجود حقيقي خارج العقل المدرك. واستمر الواقعيون النقديون يشيرون إلى وجود خارجي مادي مستقل عن العقل، وكأن العالم مفصول عن الوعي، والجسد مفصول عن الروح والشكل عن المضمون. وهو ما رفضه الظاهراتيون مركّزين على فعل اللغة وجدلية العلاقة بين الذات والعالم. وظلت الانتقادات توجه للواقعيين النقديين والطبيعيين والاشتراكيين لما لديهم من إفراط وتفريط في فهم معنى الواقعية؛ أهي الواقع Real أم هي الحقيقة Truth؟

وإذا نظرنا في العملية السردية واعتبرنا أنّ الفعل المنطقي هو المتغلغل فيها وليس الفعل العقلاني، فإن الشخصية ستكون هي العنصر الأكثر خضوعا لهذا الافتراض. وليس المهم فيها حقيقيّتها بل منطقية أدائها لأدوار البطولة، قائمة بما ينبغي عليها أن تقوم به.

لقد حللَّ منظرو السرد غير الطبيعي كيفيات بناء الشخصية غير الواقعية في قصص وروايات مختلفة، باحثين عمّا هو غير طبيعي فيها، وهل تكون أدوارها واقعية حقيقة أم أنها خيالية؟ وهل يصح أن يكون السارد واقعيا والمسرود غير واقعي؟ وأي رغبة هي الحاضرة: رغبة المسرود الذي يتمنى أم رغبة السارد الذي لا يتمنى؟

في رحلة الهروب بجواز سفر مزوّر، يتعرّف «أيوب» إلى أرملة تحاول مع صغيريها الوصول إلى أرضٍ مختلفة والشروع في بداية جديدة. يقول:

«في الصباحات المشمسة بأيامنا الأولى في ألمانيا، حين كنا ننطلق خارج حدود سكننا ونفترش الأرض المخضرة لإحدى الحدائق العامة؛ تلعب الطفلتان من حولنا، في حين تعد لنا «حورية» بضع شطائر للإفطار، كنتُ أشرد ويطول شرودي، ولا أفيق إلا على علبة سجائر فارغة أو عود حطب يابس يقذفني به معاذ، كي أعود من سفري الذي ذهبتُ إليه دون أن أبرح مكاني!

فالحقيقة أني اجتهدتُ في إعداد نفسي -على الأقل من الناحية النفسية- للصعوبات والعقبات التي علمتُ أنها ستواجهني حتمًا خلال رحلتي، حين استقر رأيي على هذا الاختيار الصعب الذي عانيتُ تبعاته كثيرًا، لكني أعترف أن الواقع كان أسوأ بكثير مما تصورت، لدرجةٍ جعلتني أسأل نفسي في الحلم، وفي اليقظة أيضًا؛ في غفواتي السريعة –التي كنتُ أقتنصها في رحلات القطار العديدة التي تنقّلنا بها من اليونان إلى ألمانيا. وفي أحلام اليقظة التي كانت تستغرقني في طوابير الانتظار بقاعات الطعام في المخيمات التي أقمنا بها على طول محطات الرحلة، أو أمام مكاتب منح تصاريح الإقامة، أو حتى أثناء جلوسنا للراحة والتقاط الأنفاس» (ص 106- 107).

يرى جان ألبر أن الحلم تقنية تسمح للسارد أن يقص ما يشاء من أقوال وأفعال، فلا ضرورة تقيّده كما لا افتراضات معرفية سابقة تتحدد بها شخصياته، ومثاله التحليلي قصة كافكا «الرغبة في أن تصبح هنديًا أحمر» Wish to Become a Red Indian، وفيها السارد يتحدث عن شخصية تحلم أن تكون شخصًا آخر.. ولكننا نرى أن اتخاذ الحلم وسيلة لجعل المسرود غير واقعي ليس جديدًا ولا هو الوحيد فهناك الكثير من الوسائل التي تتيحها تقنيات السرد تعطي للسارد إمكانيات تسمح له أن يتحدى القارئ؛ منها ترك فراغات وثغرات في أفعال مسروداته، مفترضًا في القارئ قدرة على ملئها. وملؤها يعني أن عملية القراءة تجري بانسيابية وبلا مطبات تخلخل بناءها وتعيق تقدمها.

وكلما كانت الفراغات موضوعة بطريقة منطقية في بناء السرد غير الواقعي، كانت أكثر استفزازًا لوعي القارئ دافعة إياه إلى أن يكون مفسرًا ومؤولًا. أما إذا لم يملك القدرة على التأويل فإن السرد بالنسبة إليه سيكون معتادًا وسيتلقاه كأيّ سرد واقعي.

وقد تكون هذه المفارقة غريبة بين القدم في توظيف الشخصية غير الواقعية في السرد وحداثة توظيفها باستعمال الفراغات، ولكن المهم هو تطوير دور القارئ سواء بالارتكان إلى العقل في فهم السرد وإدراك عقلانية مسروداته أو بالارتكان إلى التخييل في جعل غير الواقعي واقعيًا.

مؤدى القول إن السرد غير الواقعي أو المستحيل ليس مقصورًا على النصوص السردية الخيالية إنما يمكن أن يكون في النصوص السيرية والمذكراتية أيضًا التي فيها تكون العلاقة المنطقية بين السارد والمؤلف والنص والقارئ علاقة غير معتادة أو غير تشاركية، تجعل صدقيتها هشة وغير موضوعية، مما يتطلب من القراء جهدًا في التفسير يمكّنهم من إدراك ما في هذه النصوص من مواقف ممكنة ومحتملة مع أنها تبدو غير معقولة أو غير حقيقية.

يتساءل الزوج المخدوع في مهجره عن السبب في خيانة زوجته له قائلًا:

«لماذا وسعت من نطاق عبثها حتى بلغت بتناقضاتها ذلك الحد الجنوني؟ هل كنا جميعًا ضحاياها؟ أنا وابن الخالة اللئيم وذلك الفاسد الأخير، هل كنا جميعًا عبيد رغباتها التي لا تشبع، فرسمت لكل منا دوره في حياتها بدقةٍ متناهية ومنعته من تجاوزه، فسخّرتني أنا لأداء دور الزوج ووالد الأبناء كي أمنحها ذلك الإطار الاجتماعي الذي تحلم به كل امرأة، في حين جندت غيري للعب دور العاشق هناك في وكر الملذات، ثم تفرغت لاستنزاف الثالث كي يتكفل بتأمين كافة الاحتياجات المالية لمستقبلها وطموحها الذي لا حدود له؟» (ص 192).

ينتهي الأمر بالزوجة الخائنة جثة مقيدة في وضعية الجنين، داخل «ديب فريزر» كبير الحجم، ضم أيضًا صندوق مجوهراتها بالكامل، في رسالة «مفادها أنه لم يقتلها إرضاءً لأي دافع مادي، وإنما كان الأمر أعقد من ذلك بكثير» (ص 198).

«د.مرسيدس» عمل أدبي مميز يستحق القراءة والعبور به يومًا ما إلى عالم الدراما.

إعلان

إعلان

إعلان