إعلان

الأنماط والمجازات التي تحلو بها الحياة وتمر !

د.هشام عطية عبد المقصود

الأنماط والمجازات التي تحلو بها الحياة وتمر !

د. هشام عطية عبد المقصود
07:31 م الجمعة 05 مايو 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تمثل استخدامات التعبيرات المطلقة الدلالة والحضور مجازية الأثر في الحديث وشئون الحياة واحدة من أهم منتجات محتوى الميديا عبر التاريخ، وهي استمرار لبعض ما يرتكن إليه البشر من توظيف مطلقات وكليشيهات مترسخة في توظيفها المجازي المستقر في إطار السعي للفهم "السريع" ويسر المقاربة للأشياء عبر الأثر المهيمن والحاضر والمتوارث أجيالا لحضور دلالات الكليشيه كمفاهيم وتعبيرات، وذلك ارتباطا بحيز انتشارها الواسع ورسوخ دلالته، وهو ما قد يسهل لكثيرين التعاطي مع مختلف مجريات ومناحي الحياة، هذا المطلق التعبيري الذى ربما كان وقت صدوره معبرا عن حالة فهم طازجة لحركة ومعطيات الواقع، لكنه وبمضي الزمان فقد سرى عليه ما اعتاده الناس والأشياء من أثر التقادم دون التنبه لذلك فاستمر بحركة القصور الفكرى، وحيث بقي – يسرا واستسهالا واختزالا معا - ويمضي ويفعل أثره بحكم الاعتياد حينا، ثم عدم التصدي له تحليلا وقياسا على ميزان تطورات الأحوال بإبطال أثره أو تقييد دلالاته.

والكليشيه ليس المقصود به هنا فقط بعض من جمل ومفاهيم بلاغية الإيقاع اللغوي، فيكون حظها من سهولة النفاذ والقبول مرتبط بجرسها اللغوي وحسن اختيار مفرداتها وهي تنتظم لتشكل إيقاعا لفظيا ونفسيا مؤثرا، يسري سلسا سائغا في آذان السامعين، بل الأكثر أهمية هنا ومقصدا هى تلك الكليشيهات التي تنمط سلوكيات ومدركات وطرق فهم يجدر أن تكون نابضة متجددة ولا تنمذج- سكونا وتكلسا- الوقائع والمشاهدات المتغيرة والمتطورة في قوالب من كلمات ومفاهيم يتم تداولها والعيش بها دهرا وإن بلت أو " أتلفها هوى" تيارات التجديد فكرا ومعايشا وأحوالا.

وفي مجال الإعلام ودوره في المجتمعات المعاصرة يهيمن تعبير قديم متداول، ظهر واستقبله الوعي الجمعي وقتها كأنه نبوءة ونقشا ذهنيا مستقرا صامدا هو " القرية الكونية الصغيرة" والتي كانت ترى زمانها وتوصفه وفق رؤية الباحث الكندي مارشال مكلوهان في بدء ستينات القرن العشرين، مستشرفا حالة مختلفة للكون وللبشر يصنع تأثيرها الإعلام الإليكترونى ممثلا في الراديو والتليفزيون وقتها بعد رسوخ وإبهار حضورهما وبعد فترة تاريخية طويلة هيمنت فيها الميديا المطبوعة.

تأمل وتنبأ بأن ذلك النمط من الإعلام الذي – رآه ناقلا سريعا - سيجمع البشر ويسرع من وتيرة تفاهمهم، فيصنع الكون الجديد المتعارف والمتفاهم والمتآلف، حلم طوباوي عذب، هو بعض من سلسلة الطوباويات التى يحتشد بها كتاب العلوم الإنسانية والفلسفات عبر الزمان، ودون أن يتنبأ أيضا بأن هذا التطور ليس متناهيا في الحد الذى ظنه، وأن وتيرته ستتجاوز بهمة وفاعلية تقنية ومحتوى وتفاعلا وعبر شاشات الكمبيوتر والهواتف نقيض ما ظنه كثيرا وربما كلية.

الغريب أنه لازال هذا المفهوم وذلك التعبير شائعا حاضرا كثيف التداول فى الإستخدام لدى عموم الجمهور والأخطر لدى بعض المشتغلين بالإعلام وأيضا بعض باحثيه، كلما رأى البعض منهم أن يستدل على أثر الميديا والإتصالات فى العالم المعاصر، وذلك بفعل الإرتكان إلى الإعتياد، رغم أننا صرنا فى عصر يشكل مجاله موجات الإنترنت وتطبيقات الهاتف الذكي، ومع ذلك يبقى المفهوم متداولا بدلالته المحنطة الراكدة الساكنة وهي تستعاد وتستعار كثيرا في كلام متداول عن كيف أن الإعلام غير العالم الواسع المتعدد القارات ليجعله كله مضغوطا في قرية واحدة، ومن ثم سيعني ذلك ضمنيا قربا وفهما فهي قرية صغيرة، والقرية تلك وبالضرورة يعرف كل سكانها بعضهم ميلادا ونشأة وتطورا وانتهاءات.

تعبير صار يغيب ويتلاشى الكثير من مدخولاته وتضميناته التي كان يمكن تصورها ذات يوم بعيد، ويؤكد لنا على ضرورة إعادة غربلة المفاهيم على مقتضى الواقع والتطور وتجريدها من قوة حضورها التي تحجب معرفة حديثة، وأظن أن قسما كبيرا من بناء قدرات التطوير هو التركيز في تجريد الأفكار المهيمنة الشائعة المعوقة الراكدة من سطوتها، لتوضع فوق رفوف زمانها سياقا وفهما.

عندما أطلق الرجل وصك تعبير قريته تلك كان متفائلا كثيرا، ولم يدرك إلى أين ستمضي بنا غربة ذلك الواقع المتخيل الذي يتشكل عبر الميديا وتقنيات التواصل الجديدة، لكن نظرة متأنية على حالة صنعتها تكنولوجيا الاتصالات عبر الهواتف الذكية وحالة تفاعل الجمهور مع الميديا، تقول أن الفرد صار منعزلا في جزيرة تقنية ضخمة متشعبة تسيطر عليها التمثيلات للواقع، وأيضا تتجسد فيها غربته متاهة واتساعا، معلومات ومعارف ضخمة ليس يملك وسيلة للتأكد منها فيحار ويحتار ثم مستلما يقبع فى غربته الذاتية خلف شاشة هاتفه المضاءة دوما، حمل معرفي زائد تنوء به قدرة الفرد، وعوالم كثيرة صنعتها الميديا فبدلا من أن تقرب أبعدت وبدلا من أن تصنع الألفة صنعت الغربة ومضت وتمضي على هذا النحو.

كل هاتف ذكي هو عوالم بديلة كثيرة موازية ومتقاطعة بدرجات مع مشاهدات الحياة، يمضي بها كل شخص طوال الوقت، منفردا وعائشا فى فيوضات لا متناهية من عوالم تتباعد في هشاشة علائقها مع العالم وتزداد.

إعلان