إعلان

«بلادي الضائعة».. الذاكرة لا تموت أبداً، ولا تنطفئ

د. أمــل الجمل

«بلادي الضائعة».. الذاكرة لا تموت أبداً، ولا تنطفئ

د. أمل الجمل
09:10 م الخميس 13 أبريل 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

من العراق تبدأ وتنتهي. من قسم الفنون المسرحية في بغداد تبدأ، ثم تعود إلى نهر الفرات في الختام. من الحاضر تنطلق، إذ تفتح نافذة مُشرعة على الماضي. تمزج الحاضر القوي بالماضي المتعدد الأصوات والطبقات، في نسيج ساحر متناغم، فتقدم لنا فيلماً سينمائياً ينتمي للسيرة الذاتية بروح وقالب متفرد. لذلك لم يكن مفاجئاً أن تحصد جائزتين من مهرجان الإسماعيلية في دورته الرابعة والعشرين الممتدة بين ١٤- ٢٠ مارس ٢٠٢٣، حيث نالت جائزة لجنة التحكيم الخاصة من اللجنة الدولية. إضافة إلى جائزة الفيبريسي التي شاركت كاتبة هذه السطور في لجنة تحكيمها مع الناقد وصانع الأفلام الألماني فريدريك ييجر، والصحفي السعودي أحمد العياد.

مخرجة الفيلم، امرأة مبدعة تمتزج في شرايينها دماء عراقية تشيلية كوستاريكية. إنها عشتار ياسين جوتيريز التي تبحث عن بلدها المفقود. تأخذنا في رحلة عن حياة والدها محسن سعدون ياسين، المخرج المسرحي والفنان العراقي، الذي قضى معظم حياته في المنفى. تزوج محسن من الراقصة التشيلية ايلينا جوتيريز، وعاشا لبعض الوقت في بغداد، وذلك بعد أن التقاها في موسكو أثناء دراسته.

كان محسن طالبًا وأستاذًا في قسم المسرح بمعهد الفنون الجميلة في بغداد أثناء حكم صدام الديكتاتوري، حينها سُجن شقيقه. اختفى خمسة من أبناء عمه، ولم يجرؤ الأب حتى على السؤال عنهم. كان الخوف يسكن في قلوب الجميع، هكذا عاشوا هناك. تفرق معظم أفراد عائلة محسن حول العالم، ليُشكلوا نموذجاً حياً لمعنى الشتات.

كانت أعمال محسن المسرحية سياسية فعرضت حياته للخطر. هرب من العراق، لكن، حتى بعد سقوط صدام، رفض العودة للعراق بسبب الاحتلال الأمريكي، إذ يلخص حقيقة الغزو بجملة كاشفة ساخرة: «آه.. فقط لو كان نفط العراق عراقي».

بعد وفاته، بدأت ابنته - مخرجة الفيلم - رحلة البحث عن تاريخها وحضارتها العريقة التي تنبض بجذورها العراقية. كانت عشتار منذ سنوات قد بدأت التصوير مع والدها، ربما منذ العام ٢٠٠٨ وحتى وفاته، مثلما كانت تمتلك أرشيفاً عائلياً؛ بعض شرائط الفيديو من العراق وتشيلي ولحظات لحيواتهم أثناء الشتات. بدأت الابنة صانعة الأفلام عبور الحدود. من تشيلي إلي العراق ظلت عشتار تعبر الحدود المادية والمعنوية، وتراوح بينهما، ذهاباً وإياباً، ظلت تعبر من وطن عاشت به سنوات إلى وطن آخر كان يتملكها الشغف به والحنين إليه.

"آه ، فقط لو كان النحاس التشيلي هو لتشيلي". يالها من مصادفة. أليس كذلك؟ هل نتذكر الانقلاب العسكري في تشيلي؟ «مَنْ أسقط سلفادور الليندي، وقاد الانقلاب ضده؟ مَنْ الذي أيد بينوشيه - ذلك الدكتاتور الذي حكم تشيلي من 1973 إلى 1990؟ ألم تكن الولايات المتحدة الأمريكية؟» هكذا يسأل والد عشتار في تهكم واستنكار، قبل أن يضيف: «مَنْ قتل آلاف الناس في العراق؟ إنهم الأمريكان، فقد دمروا البلد، فدخل الإرهاب إلى العراق، وعشش فيه فقط لأن الأمريكيين كانوا هناك.»

نعم، الذاكرة لا تموت.. وأجل.. إنها قضية سياسية في المقام الأول. مع ذلك، فهذا فيلم يجمع بطريقة ساحرة بين الإرث الشخصي والجمعي، بين ما هو سياسي وعنيف وبين كل ما هو فني وجميل، وآثار ذلك كله على روح الإنسان وحياته وعلاقته بأسرته. إنه فيلم يكشف كيف يُمكن أن تُغتال إنسانيتك بالسياسة وكيف يمكن أن تحتمي - كإنسان رقيق المشاعر - بالفن والثقافة القادمتين من أعرق الحضارات. هكذا كانت حياة محسن سعدون.

هل مكتسبات الإنسان في الحياة قد تُعوض يوماً ما خسائره؟ سؤال ظل يخالجني بينما كانت المخرجة تصطحبنا في رحلة شاعرية عن الفن والوطن، رحلة مصنوعة بخيال سينمائي مشحون بالأسطورة، بالأسئلة والحيرة غير المعلنة، بل الهامسة. رحلة مشحونة بالحنين الجارف لهذا العراق رغم القرار بعدم العودة إليه، وأثناء ذلك نفكر في الحياة الضائعة، والحيوات المكتسبة، مما قد يعيدنا لنتساءل: هل تلك المكاسب تُعوض الخسائر؟ هل يُعوضها هذا الثراء والعمق والغني الثقافي الذي نجم عن امتزاج الحضارات في دماء شرايينها، فالمخرجة ذاتها نموذج حي إيجابي لامتزاج الثقافات. هذا التعدد الذي يمنح الإنسانية غنى وعمقاً، وصلابة لا تخلو من الرقة والرومانسية.

الأغاني العراقية الفلكلورية القديمة كان مُحسن - والد عشتار - يرددها مرات ومرات طوال اليوم دون أي شعور بالملل، بل إنه كان يرددها بحب وشغف كبيرين. هكذا يُخبر الأب ابنته عن هذا الهوس، أو لنقل هذا العشق المتنكر، حتى أنه سأل جميع أطبائه عن السر وراء ذلك، ولم يفلح أحد في الإجابة عليه.

إذن، ذهبت عشتار إلي العراق بحثاً عن وطنها الضائع، لكنها في الحقيقة كانت تبحث أيضاً عن أبيها الذي رحل. كانت المخرجة والابنة تبحث عن سر هذا الهوس والعشق؟ تبحث عن الثقافة والفن الذي تنبض به جذورها، تبحث عن لم شمل الجسد والعقل والروح، في محاولة لترميم الذاكرة وتوثيقها، وتخليدها للأبد عبر شريط سينمائي نُسجت خيوطه في رهافة لا تنقصها متانة العلاقة السردية.

أثناء رحلة البحث وصناعة الفيلم، وعبر جسد الفيلم ذاته، تمزج المخرجة الواقع بالحلم مع الأسطورة، تشتغل على مشاهد بصرية أيقونية تعبيراً عن الأسطورة ودلالتها فيما يخص علاقاتها القوية بأبيها، فقد كانت بمثابة الروح التي تسكن جسده. هكذا يخبرها، كان يصدقها دوما، يصدق حتى اختراعاتها، كأنها الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، هكذا يخبرها بأحد مشاهد الفيلم. مثلما تمزج المخرجة الجغرافيا بالتاريخ بالفن، لذلك لم يكن غريباً أبداً أن تعود للاحتلال العثماني للعراق الذي استمر نحو مائة عام، وتنتقل لآثار العراق التي يزخر بها متحف لندن، لنكون شهوداً على عراقة هذا البلد بحضارته وتراثه المنهوب.

تربط جوتيريز الماضي بالحاضر، فتعود لدراستها السينمائية في موسكو، وكيف كانت ترى السينما التي تُحب، إنها السينما التي تصنعها ونراها الآن، مقدمة نماذج لأفلام مثلت فيها، نماذج بدت وكأنها حلم يراود تفكير المخرجة أو لحظة غضب استحوذ عليها ذات يوم. أثناء ذلك تفتح الأفق على المستقبل بجرأة ملحة، بحثاً عن العدالة.

بداخل الصور المتشظية تأخذنا عشتار في رحلة موعودة ممتعة. هناك، نعيش حيوات الآخرين، مختلف أفراد الأسرة وعلاقتهم، في العراق وتشيلي. نرى لمحات واضحة لعشرات المختطفين في تشيلي والعراق، سواء بالصور أو بالألفاظ المنطوقة المُجَسِّدة لصور مؤلمة. فضلا عن حياة والدها في المنافي المتعددة، ولقطات مؤثرة كاشفة للعلاقة المتينة بين الأب وابنته، بين محسن وعشتار، منذ طفولتها وحياتهما سوياً، مروراً بالفراق، ومرارة الاشتياق إليه. نرى ذلك كله، ونعايشه عبر الرسائل المتبادلة بينهما، وكذلك الرسائل المفقودة، ولمحات عن حياة أمها شبه الغائبة عن الفيلم، باستثناء بعض الصور التي تحكي لنا عن قصة الحب بينها وبين محسن.

بداخل الصور، وعبر مجموعها الكلي، نعايش فيلمًا له هويته الخاصة جداَ. فيلماً يعتمد في بنائه السردي على أسلوب غير تقليدي، أقرب إلى روح سينما أندريه تاركوفسكي، السينما التي لا تحكي، لكنها تهمس. السينما التي تُلهم بالعديد من الأشياء والمشاعر وتتحدث من خلال الاستعارات. إن عشتار ياسين جوتيريز تبحث عن الجمال الاستثنائي في السرد، إذ انحاز بوضوح وشفافية للغة السينمائية الخالصة، فتُؤكد أنها امرأة مبدعة، وأن السينما العربية والعالمية تحتاج للكثير من أمثالها.

إعلان