إعلان

جرائم "الببلوماني الأخير"!

د. ياسر ثابت

جرائم "الببلوماني الأخير"!

د. ياسر ثابت
10:02 م الأربعاء 20 أبريل 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تحتاج القراءة النقدية الشاملة لتجربة القاص شريف عبدالمجيد تتبُّع المسار السردي الحكائي لهذه التجربة عبر أعماله المختلفة، والتي صدرت في مراحل زمنية مختلفة، وهي مجموعات "مقطع جديد لأسطورة قديمة"، (فكرة، 2002)، "خدمات ما بعد البيع"، (ميريت، 2007)، "فرق توقيت"، (نهضة مصر، 2010)، "جريمة كاملة"، (نهضة مصر، 2010)، "تاكسي أبيض" (المصرية اللبنانية، 2015)، "صولو الخليفة" (بدائل، 2017)، "حجم عائلي" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2019)، "الببلوماني الأخير" (دار الرُبى، 2022).

التكثيف والإيجاز هما من مفاتيح قراءة أعمال شريف عبدالمجيد، وخصوصًا في مجموعته القصصية الأحدث "الببلوماني الأخير"؛ إذ يقدم تجربة مغايرة لكل تجاربه القصصية السابقة، ويقودنا عبر 124 صفحة من القطع المتوسط، إلى عوالم مختلفة، وتجارب تستدعي إلى الذاكرة أحداثًا وقضايا شغلت الرأي العام هنا وهناك، لكنه يستثمر الحدث لينسج منه تفاصيل وأخيلة وشخوصًا، ليخرج بعمل قصصي متفرد ومختلف.

وإذا كانت بضع قصص في هذه المجموعة مصبوغة بالدم والعنف، فإنه يغوص في أغوار النفس الإنسانية ليكشف للقارئ بأسلوب بوليسي سينمائي، الجانب الخفيّ من كل جريمة، لتدرك في نهاية الأمر أن الصورة تكون منقوصة إن لم تستمع للضحية والجاني معًا.

إن ما يميّز تجربة الكاتب هو مثابرتها على الإصغاء إلى صوت التجربة من داخلها وهو ما يظهر جليًا في شواغل التجربة وهواجسها وخياراتها السردية إضافة إلى فضاءاتها الشعرية والمنظور السردي الذي تقدم من خلاله أحداث المجموعة القصصية وشخوصها. لذلك يلحظ القارئ لهذه التجربة أن مجموعة من العلامات والثيمات المعبرة عن شواغل التجربة فكريًا ووجوديًا وإنسانيًا هي التي تهيمن على عالم هذه التجربة، وتؤكد على وحدتها وطبيعة المنظور السردي الذي ينطلق منه الكاتب في رؤيته السردية لبناء عالمه التي ينسحق فيها وجود الإنسان وحياته تحت عنف اللحظة المأساوية التي نعيشها حتى لتبدو مصائر شخصياته وحيواتها تكثيفًا مروعًا وحزينًا لصورة هذا الواقع المحكوم بالضغوط اليومية والعنف المنفلت والضياع.

في "الببلوماني الأخير"، التي تضم 11 قصة، تدور قصص هذه المجموعة في أجواء شائقة ولافتة، وتتسم المجموعة بلغة سلسة، تنعكس على مرآتها صور عجيبة لأبطال وشخصيات يرسم المؤلف ملامحها بإيجاز شديد، وفي إيقاع سردي مفعم بالحيوية والتشويق. مثل: «الذوّاق» الذي يقتحم كواليس عالم الطبخ في البرامج الفضائية، ثم يقرر أن يتحول إلى حوت يبتلع الجميع بدلًا من أن يظل سمكة صغيرة خائفة، ونتابع في قصة «صاحب رسالة» شخصية الخبير الاقتصادي الثري الوسيم الذي يستعين بمجرم محترف حتى ينفذ هواياته السرية الصادمة، وهناك القصة النفسية البديعة التي تستوقفك ويصعب اختزالها في «رجل يشبهني».

أما القصة التي تحمل المجموعة اسمها، فهي تركز على الهوس باقتناء الكتب، والحفاظ على تقاليد القراءة وإرثها التقليدي، في مواجهة طغيان التكنولوجيا التي أصبحت تهدد هذه التقاليد. وتتساءل المجموعة عن مصير البشرية، لو اختفت الكتب الورقية.

وعلى ذلك يرسم المؤلف صورة هذا البطل «الببلوماني»، فهو لا يتحمل رؤية كتاب ليس ملكًا له، أو حتى مجلات أو جرائد، كما أنه غالبًا ما يرتدي نظارة طبية ويصاب بصداع مزمن لعدم قدرته على ترك الكتاب الجيد في الوقت المناسب.

تنبع أهمية العنوان من وظائفه التي يقوم بها، وهي التعيين والإغراء والإيحاء والوصف وفق ما يحدده جيرار جينيت، لكن هذه الوظائف تتجلى أكثر من خلال علاقة الإحالة المتبادلة بين العنوان والمتن السردي، والتي تجعل بنية العنوان ودلالته لا تنفصلان عن بنية العمل، الأمر الذي يجعل هذه العنونة تلعب دورًا مهمًا في خلق أفق التوقع والتعريف بالعمل ومقاصده أو تأويله. وتظهر أهميته أكثر من حيث كونه صلة الوصل الأولى والمباشرة مع القارئ. تتميز عناوين أعمال شريف عبدالمجيد على مستوى بنيتها اللغوية باقتصادها اللغوي الشديد، الذي يجعلها تتألف أحيانًا من كلمة واحدة (الذوّاق)، أو من جملة اسمية (رائحة الجوافة، صاحب الرسالة، الببلوماني الأخير، المزرعة السعيدة، في وقوع السيستم، خمسة عشر يومًا). إن هذه السمات اللافتة للعنوان على مستويي البنية اللغوية والنحوية تلتقي مع بنيتها الدلالية فهي تحمل في الغالب دلالات مكانية أو أسماء أو صفات، لكنها جميعًا تنطوي في بنيتها النحوية على حذف مبتدئها بقصد إضفاء نوع من الغموض عليها.

إن أهمية جملة الاستهلال في السرد القصصي تنبع من كونها العتبة التي يمكن للقارئ من خلالها أن يطل على عالم القصص السردي إضافة إلى ارتباطها ارتباطًا مباشرًا بضمير المتكلم أو بطل القصة، ما يجعل وجهة النظر التي ستقدم من خلالها الأحداث والشخصيات ترتبط ارتباطًا مباشرًا بهذا الموقع الذي يحتله/ البطل السارد في أحداث القصة. لذلك يتسم السرد في قصص المجموعة بأنه سرد ذاتي يحاول من خلاله البطل/ السارد تقديم رؤية موضوعية للواقع تتداخل في كثير من الأحيان مع الرؤية الذاتية التحليلية، والتي تتجلى في ما يعيشه البطل من مشاعر وأحداث وتداعيات وأخيلة.

في قصة "الذوّاق" نقرأ:

"الطفل البدين الذي يجلس بجوار الحقائب عندما يلعب الأولاد كرة القدم، وهو الفتى الذي تضحك معه الفتيات على كل ما يُلقيه عليهم من نكات بعضها من تأليفه وبعضها على مواقف حدثت معه في الحياة، ولكنه ليس الفتى الذي يخرجن معه في الحدائق أو يدخلن معه قاعات السينما.

صديقه الوفي الوحيد هو بطنه الممتلئة. بعدما أنهي دراسته الجامعية رفضوا أن يدخلوه في الجيش؛ لأن وزنه زائد، وكان يخشى مصادقة أشخاص يسكنون في أدوار عُليا وليس في عمارتهم مصاعد، حيث تعرض مرة وحيدة لأن يصعد ثمانية أدوار في بناية قديمة سلالمها عالية، شعر ساعتها بأنه قد يموت قبل أن يصل للأرض.

وفكَّر بعدما قدم في أكثر من وظيفة ولم يُقبل أن يستفيد من حُبِّه للطعام" (ص 9).

إن محورية هذه الشخصية في القصة ستجعل تطور أحداثها يرتبط ارتباطًا مباشرًا بتطور هذه الشخصية وحركتها في المكان، ولذلك فإن أهمية هذه العتبة السردية تتمثل في كونها تشكل البؤرة السردية الأولى التي سوف تتفرع منها بؤر السرد الأخرى في القصة، ما يجعلها ترتبط ارتباطًا مباشرًا بشخصية السارد/ البطل، الأمر الذي يجعل القارئ يكتسب معرفة خاصة بها وبالخلفية التي تستند إليها في علاقتها مع العالم، وهو ما سنجده ماثلًا في الفضاء الذي تتحرك فيه هذه الشخصية وفي العلاقة التي ستنسجها مع العالم الذي يحيط بها من مطاعم وقنوات تليفزيونية ومستشفى ومنتجع سياحي.

"زاره رئيس القناة الفضائية في المنتجع السياحي وأخبره بضرورة إنهاء التعاقد كإجراء روتيني قبل إجرائه للعمليات مع صرف شيك بقيمة العمليات التي أجراها ومكافأة خاصة له. وقَّع الأوراق كلها بدون مناقشة.

شعر بأنهم سيتخلصون منه.

بعدما أجرى العملية بنجاح كان يُقلِّب قنوات التلفاز وهو على سرير المستشفى، فوجد برنامجًا جديدًا شبيهًا ببرنامجه تُقدِّمه خطيبته لمياء، فتأكدت له شكوكه" (ص 18).

شريف عبدالمجيد هو أحد أبرز الأصوات التي تخلِّص للقصة القصيرة في مصر، وهذا أحد أهم الأسباب التي تجعله جديرًا بالقراءة.

إعلان

إعلان

إعلان