إعلان

جيلي وأفتخر.. مفكر مع مرتبة الشرف (1)

د طارق عباس

جيلي وأفتخر.. مفكر مع مرتبة الشرف (1)

د. طارق عباس
07:01 م الخميس 22 يوليه 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

فصاحة اللغة وحدها ليست كافية لصناعة مبدع متميز وجدة الأفكار وعمقها يستحيل فهمها واستيعابها والتفاعل معها، ما لم تعبر عنها لغة صحيحة، تفيض بالسلاسة والبساطة والمرونة والعذوبة؛ لأن اللغة في الفكر والفكر في اللغة، وكلاهما وجهان لعملة واحدة، ومن عمق العلاقة بين فصاحة اللغة وقيمة الفكرة تتحدد منزلة ومكانة الكاتب، وتبرز شخصيته بسماتها الفنية والأدبية، ولأن كاتبنا امتلك ناصية اللغة وفهم أسرارها وغاص في لآلئها مثلما امتلك أفكارًا غير نمطية وغير مكررة، فقد جاءت موضوعاته متسمة بالثراء والتنوع متعددة مستوياتها بين: "سياسية وأدبية وتاريخية واجتماعية وأخلاقية".

إن حديثي اليوم عن الكاتب والأديب والناقد والمترجم "مصطفى عبيد"، الذي أدت عمق ثقافته واتساع مداها، لتنوع خبراته وقدرته على المزج بين الأصالة والمعاصرة بين التقليد والتجديد وعدم الانجرار خلف الشائع من المفاهيم الموروثة المغلوطة المتفشية المتجذرة بفعل ما يمكن تسميته "بثقافة القطيع".

وُلِدَ مصطفى عبيد بحدائق القبة في القاهرة شهر أكتوبر عام 1996 لأسرة متوسطة الحال كان أبوه الوحيد من بين أفراد أسرته الذي تمكن من استكمال تعليمه حتى نجح في الحصول على درجة الدكتوراه، وتم تعيينه أستاذًا "لإدارة الأعمال بكلية التجارة جامعة عين شمس" ونتيجة شغف الأب بالعلم وحرصه على أن يكون سلاح أبنائه، فقد سعى لتربيتهم على مصادقة الكتاب وحب القراءة والثقافة بل وتشجيعهم بتقديم المكافآت والحوافز لكل من أبدى منهم رغبة في التزود بالعلم والمعرفة.

كان قصر ثقافة الريحاني القريب من منزل الأسرة هو أول ما تفتحت عين كاتبنا عليه وأهم وأكثر الأماكن التي اعتادها وارتبط بها وأحب التردد عليها، إذ كان هذا القصر بمثابة منارة ثقافية ليست لكاتبنا وحده بل لأهل الحي كله، فيه يقضون أمتع الأوقات مع الموسيقى والرسم والتمثيل وحضور الندوات واللقاءات، وفيه يشاركون في مسابقات كرة القدم والشعر والقصة والغناء وعزف الآلات الموسيقية، وفيه نبت الجمال في وجدان كاتبنا مثلما نما الخيال وازداد ثراءً وتلقى عقله الخبرات التي شكلت مداركه منذ نعومة أظفاره إلى هذا اليوم.

كان نظام التعليم التجريبي الناشئ في تلك الفترة -من وجهة نظر بعض المثقفين ومنهم والد الكاتب- بمثابة النظام التعليمي الأفضل والأمثل، من بين الأنظمة المتعددة الآخذة في الانتشار، لذلك ألحقه أبوه بمدرسة "النقراشي التجريبية للغات"، ورغم بُعد المسافة التي كان يقطعها الطفل مشيًا على الأقدام من البيت إلى المدرسة ومن المدرسة إلى البيت، إلا أنه كان مواظبًا على الحضور منتظمًا في تلقي دروسه، وقد سعى مصطفى عبيد -من خلال هذه المدرسة- لمعرفة نفسه واكتشاف مواهبه، وأولها كان الشعر، الذي راح يكتبه ويلقيه ولم يجاوز العاشرة من عمره، فاتحًا لنفسه نوافذ تعرفه على العالم المحيط به وتعرف العالم به ولم يكن مصطفى عبيد موهوبًا في الشعر فقط، وإنما تفتحت موهبته في كتابة المقال والتمثيل على المسرح ولعب كرة القدم، وأصبح عضوًا نشطًا وفاعلًا في جماعة الإذاعة والشعر والصحافة والشرطة المدرسية، ولدوره القيادي كان ضمن من رشحتهم المدرسة عام 1988 لمقابلة الأديب العالمي "نجيب محفوظ"، من أجل إجراء حوار معه بخصوص حصوله على جائزة "نوبل" في الأدب، وكانت هذه المقابلة كأول ابتسامة حظ يظفر بها الطفل ونقطة تحول مهمة في حياته، إذ لم يكن يتصور أبدًا أن رجلًا بهذه العظمة وهذه القيمة سوف يجلس مع أطفال لم يزد سنهم على اثني عشر عامًا، لم يكن يتصور كل هذا الأدب الجم والتواضع الذي اتسمت به شخصية الأديب، وكان الدرس الذي تعلمه مصطفى أن عبقرية المبدع في بساطته واحترامه للصغير والكبير للغني والفقير، وإحساسه بأنه لم يقدم بعد ما يستحق عليه التكريم من هنا كان الزاد والمدد، كان الإعجاب والتقدير والحب والإيمان بما يكتبه نجيب محفوظ، لذلك راح مصطفى ينهل من نبع أديبنا ويصول ويجول ويسبح ويغوص في رواياته يقرؤها بنهم ومنها: "السراب، اللص والكلاب، الطريق، ميرامار، والسكرية... إلخ".

هكذا انطلق مصطفى عبيد من القراءة لنجيب محفوظ وأدبه إلى قراءة الشعر؛ ليصقل موهبته فقرأ لـ"نزار قباني، صلاح عبدالصبور، بدر شاكر السياب، سميح القاسم، ومحمود درويش". ومن وحي كلماتهم وتراكيبهم ومضامينهم وأفكارهم، صاغ مصطفى عبيد تجاربه الشعرية التي عبرت في مجملها عن أحاسيس مراهقته ومثالية حبه وطهارة حبيبته التي خلع عنها قناع البشر؛ ليلبسها ثوب الملائكة.

أضف إلى ما سبق أن مصطفى عبيد كان مهتمًا بقراءة المجلات والصحف ومتابعة ما تنشره من أخبار وتحقيقات أولًا بأول، وكم كانت تستلفته جريدة الوفد بمعاركها الصحفية ومانشيتاتها القوية الرنانة، وكم تمنى أن يلتحق بكلية الإعلام حتى يتمكن من ممارسة مهنة الصحافة والانضمام إلى صفوف العاملين في جريدة الوفد، لذلك قرر وهو في المرحلة الثانوية الدخول للقسم الأدبي لكن مجموعه بعد إتمامه امتحانات الثانوية العامة لم يسعفه، وكان أقل من المطلوب للالتحاق بكلية الإعلام، فاختار مصطفى كلية الآثار لكونها ستشبع رغبته في حب التاريخ، وفي إجازة السنة الأولى للكلية، علم كاتبنا بأن جريدة الوفد في حاجة لصحفيين يتدربون في القسم الاقتصادي بدون أجر، ومع ذلك لم يتردد أبدًا، وتدرب طيلة الأربع سنوات التي قضاها في الكلية جامعًا بين كونه طالبًا عليه المذاكرة والاجتهاد، وبين العمل الشاق في الجريدة، وإصراره على أن يكون من المتميزين فيها.

رغم انشغالات مصطفى عبيد الكبيرة والكثيرة فقد تطلع لإصدار ديوان شعري يعبر فيه عن ذاته وأفكاره، لكن من أين له بالناشر؟، فإن الأب لم يترك ابنه غارقًا في حيرته، وتشجيعًا له اتخذ قراره وطبع الديوان على نفقته الخاصة، وكان بعنوان: "ثورة العشاق" تبعه مصطفى بديوان آخر عن "فلسطين"، لكن صراحته مع نفسه دفعته دفعًا لمراجعتها، لإحساسه بأن ما ينتجه من شعر لا يرقى مطلقًا لما يكتبه الشعراء الكبار المجددون المعاصرون له، لذلك قرر ألا يصدر دواوين جديدة حتى لا يضيع وقته وجهده فيما لا طائل من ورائه.

وللحديث بقية في الأسبوع القادم.

إعلان

إعلان

إعلان