إعلان

مجدي الجلاد يكتب: يا عمرو.. كلنا فاسدون..!

مجدي الجلاد

مجدي الجلاد يكتب: يا عمرو.. كلنا فاسدون..!

مجدي الجلاد
06:27 م الأربعاء 29 ديسمبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بيني وبين عمرو أديب علاقة قديمة وعميقة.. زملاء دفعة واحدة في إعلام القاهرة.. يقولون إنها الدفعة الذهبية.. غير أن حبي للمهنة وغيرتي عليها أعمق وأغلى من زمالة وصداقة جميلة مع عمرو؛ لذا سأختلف معه كثيراً، رغم أنني أراه أشطر مذيع تليفزيوني في الوطن العربي..!!

هذا الاختلاف لا يمكن إخضاعه لأي تفسير خبيث؛ فـ«التختة» المشتركة بيننا في كلية الإعلام كانت عادلة بما يكفي، حين منحته تميّزاً أكثر في التليفزيون، وأعطتني تفوقاً أكبر في الصحافة.. وبالتالي لا منافسة ولا «نفسنة» بيننا تسمح بالاصطياد في الماء العكر..!

ولما كان «أديب» قد تحدث في برنامجه «الحكاية» منذ عدة أيام عن قضية خطيرة تتعلق بالإعلام، وجدت نفسي مؤمناً بأن النقاش حولها بات فرض عين، في مشهد إعلامي شديد الارتباك والتخبّط، وربما الانحدار .. فقد استعرض «عمرو» على مدى نصف ساعة تقريباً المؤشر السنوي لمحرك البحث جوجل ومنصات مثل يوتيوب وتيك توك، والذي أظهر الكلمات والأخبار والوقائع والفيديوهات الأكثر بحثاً خلال عام 2021 عالمياً وعربياً ومصرياً.. وخلُص زميلي المُحترم إلى أن «الناس عايزة كده.. عايزة تبحث عن أغاني المهرجانات، وتنقّب في كواليس وأسرار حياة المشاهير، وتشاهد فيديو سي أحمد خدني الكوافير.. إلخ»...!!

وأكد عمرو أنها ظاهرة عالمية لا تقتصر علينا، وأنها عنوان المرحلة، ثم طالب تليفزيون الدولة- وليس القطاع الخاص !!! - بالتصدي لإنتاج البرامج الجادة.. وربما يتفق معه البعض باعتباره تحدث في واقع فعلي على جوجل، لأن الأرقام لا تكذب.. غير أنني لا أختلف معه في ذلك.. وإنما في ما يحمله كلامه من دفاع مُبطّن عن الإعلام، صناعة ومهنة، في لحظة تفرض علينا الاعتراف بتراجعه وتدهوره، إلى الحد الذي جعله «شكوى» مشتركة بين المواطن والخبراء ورئيس الدولة نفسه في أكثر من مناسبة.. وقفز إلى ذهني سؤال خطير: كيف ننجح في الإصلاح ونحن نستند إلى تبرير سهل «الجمهور عايز كده.. والدليل جوجل»..!

يعرف عمرو أديب جيداً أن ثمة فارقاً كبيراً بين «ما يريده المواطن وما يحتاجه».. وهي قاعدة علمية معروفة في علوم ودراسات الإعلام.. تماماً مثل رغبات الشخص من حكومته في أي دولة.. فإن سألته: ماذا تريد؟!.. سيجيب كثيرون: لا نريد دفع ضرائب، أو إقرار زيادات خيالية في المرتبات، أو إلغاء الجمارك على السلع لخفض أسعارها.. بينما يؤدي ذلك حتماً إلى إفلاس الدولة، وانهيار حياة من قالوا ذلك أنفسهم.. وقد يختار آخرون إلغاء القوانين التي يرون أنها تكبّل تحقيق رغباتهم، فتنهار الدولة ذاتها لأنها استجابت لرغبات فردية، أو خضعت لشهوات العقل الجمعي.. ولأن الدولة تلعب دوراً أبوياً لامتلاكها سلطة ومسؤولية إدارة وتنظيم العلاقات في المجتمع، فليس من واجبها تحقيق رغبات المواطنين التي تنعكس سلباً على سلامتهم الصحية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية، تماماً - مع الفارق طبعاً- مثل الأب الذي لو استجاب لكل رغبات الابن، لضاع الابن، وخضع الأب للمساءلة..!

وعليه.. فإننا كصحفيين ومقدمي برامج، نخضع للمساءلة والحساب، إن نحن اعتمدنا على مؤشرات البحث في جوجل وغيره، لتحديد ما نقدمه للناس.. لأن هناك فارقاً كبيراً وكبيراً جداً- أنت تعرفه يا صديقي- بين حجم انتشار المحتوى وقيمته المعرفية وتأثيره.. والإعلام الحقيقي يُقاس بالتأثير الإيجابي وليس بالانتشار، وإلا كانت الأفلام الإباحية وقصص الفضائح الأخلاقية هي الأكثر استحواذاً على شاشات التليفزيون في العالم، لأنها- في الواقع وبالأرقام- الأكثر مشاهدة وبحثاً على الإنترنت.. وربما يذكرني ذلك بأحد الزملاء الإعلاميين حين سألته يوماً: لماذا يتحدث على الشاشة بلغة سوقية فقال «أنا بنزل لمستوى عقل ولغة الناس في الحواري والمقاهي».. فقلت له: هل رسالتنا هي الهبوط إليهم، أم الارتقاء بهم، وبلغة الحوار والنقاش بينهم، لنُشكل شخصية وطنية واعية ومتحضرة..؟!

صديقي وصديقك يا عمرو لم يرد يومها.. ولكنني قرأت في عينيه نظرة عجز.. هذا العجز الإعلامي هو ما يؤرقني كثيراً؛ لأنه يُنتج استسهالاً في تقديم المحتوى، والاستسهال يلد استخفافاً.. والاستخفاف يقضي على أجيال، كان من المفترض أن تبني وطناً متقدماً وقوياً، في مشهد عالمي يشبه الغابة المتوحشة..!

لن تتقدم مصر يا عمرو إلا بالإنسان.. والإنسان القوي بحاجة إلى مؤسسات واعية على رأسها الإعلام، تُسهم في تشكيل شخصيته ووعيه وثقافته، ليصبح إضافة للمجتمع، وليس خصماً منه.. هذا الإنسان ينشأ على رغبة فطرية في تحقيق رغباته وشهواته، ولكن المجتمع يخطئ إن هو استجاب لها.. هذه الرغبات هي «ما يريده».. أما نحن فعلينا أن نُعطيه «ما يحتاجه»، حتى لو كان في قالب ممتع ومُسلٍ.. والدولة- ونحن جزء منها- مسؤولة ألا تتركه عقلاً مسطحاً ولا وعياً مُغيباً ولا ذوقاً هابطاً، حتى لو اختار أو أراد هو ذلك..!

أنت تقول إن أجيالنا تربّت على إعلام جاد وواعٍ.. وأنا أسألك وأسأل نفسي: تخيّل أنهم استطلعوا رغباتنا آنذاك.. من المؤكد أننا كنا سنختار موضوعات تشبه ما كانت تقدمه مجلات «الشبكة والموعد وPlayboy، وكتب الأرصفة وقصة حياة الغانية إيفا»، لأننا- بصراحة شديدة- كنا نبحث عنها في مرحلة المراهقة.. إذاً فليس منطقياً أن نركن فشلنا على «جوجل»، لأنه مجرد «فاترينة»، يبحث بعض الناس فيها عن الغث، لأنهم لم يعتادوا غيره، والإسفاف لأننا لم نقدم لهم الجاد، والقبيح لأن أعينهم لم تألف الجمال.. أما فيديو «أبو أحمد» فقد اكتسب «قيمة» ما لدى الشباب، ليس لأنه نكتة رخيصة على «السوشيال ميديا»، وإنما لأننا قدمنا صاحبته في برامجنا، وجلست على «مقعد الإبداع» تتحدث عن إنجازها التاريخي في تحقيق مشاهدات قياسية بغمزات العين، والكلمات الساقطة….!!!!

صدقني يا صديقي.. نحن الذين نفرض التسطيح على الناس، لأنه يخدم مصالحنا، ولأنه سهل ولا يحتاج لجهد ودأب، وربما يحقق «التريند».. وفي «التريند» شيطان مارق يغوي كل من يظهر على الشاشة، أو يكتب كلمة، إلا من رحم ربي..!

ولكننا ننسى أن فساد الكلمة أخطر من فساد المال.. فالأول يدمّر المجتمع، ويُغيّب العقول، والثاني يسرق حفنة أموال.. وما أسهل ان نعوض المال، لكن ما أقسى وأخطر أن نُفسد شعباً تحت شعار «هو عايز كده».. تحياتي..!

إعلان

إعلان

إعلان