علاء الغطريفي يكتب: هل يقودنا "كورونا" إلى الجنون؟

من دون أي مقدمات عن لحظتنا الحالية القاسية.. هل سألت نفسك لماذا تشعر في لحظات أنك على حافة الجنون، أو رأيت اندفاعك إلى نافذة أو بلكونة؛ لتملأ رئتيك بهواء لظنك أنك تختنق أو ستختنق؟!

هل وجدت نفسك غاضبًا من دون سبب، وترى ما حولك ظلالاً سوداء، أو تتحدث كببغاء بالكلمات نفسها، والشكوى نفسها مراتٍ ومراتٍ، أو يلوح لك شعور بأن النهاية قريبة، وأن الغد مجرد كلمة من الماضي، طواه كفن الأمس؟!.

كلنا شعرنا بذلك بصورة أو بأخرى، وأزيدكم من الشعر بيتًا، جميعنا يفقد كثيرًا من توازنه أحيانًا، وتعبر صفحات مواقع التواصل عن حالاتنا المزاجية من دون تراجم أو تفاسير، نظرة إلى تطبيق "تيك توك"، سترانا هناك بوضوح!

هل يمكن أن نفقد عقلنا للحظة؟ ربما، فالضغوط التي نتعرض لها في ظل وباء "كورونا" غير مسبوقة، نحن الأجيال التي تعيش في الألفية الثانية، وعند العلم والتاريخ المرجع لما نمر به، لعلنا ندرك بعضًا مما نحن فيه أو نشكل تصورًا عنه نلتمسه في مستقبل الأيام، إذا كنا من أهل الدنيا.

فزع بدائي

تخبو في زمن الأزمات العقلانية، ويدفع الخوف والقلق والارتياب الفرد نحو سلوكيات متناقضة غير منطقية تشبه في بعض الأحيان مطاردة الساحرات، ويستعيد الفرد نمطًا أشبه بالحياة البدائية غير المتحضرة التي تحركها المشاعر والاحتياجات البدائية حتى تسيطر على الفرد -تمامًا-.

تقول الباحثة هالة الحفناوي -في تحليلها الراقي بمركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة في الإمارات-: "العقلانية الهشة" تحكم ملامح حياتنا اليومية، وهو ما نسميه الروتين، غير أن هناك بعض الأحداث التي تخرج -تمامًا- عن هذا الروتين، وتتحدى معطياته وحلوله الجاهزة، وفي هذه الحالة تكون الاستجابة لهذا التهديد عبارة عن موجات من الفزع تُغيّر ممارسات الحياة اليومية، وقد يزداد الأمر سوءًا.

ولا يوجد مثال كشمس نهار قائظ، غير هلع الشراء الذي انتاب بعضنا وشهدناه على مدار الأزمة، والذي سبب -في حد ذاته- أزمة، فهنا كان الناس مدفوعين بانفعالاتهم ومشاعرهم من دون عقل أو حكمة.

المجهول الذي نخشاه

يعيش الإنسان في ظل مخاوفه في حالة كاملة من المجهول، إلى جانب مخاطر انعدام اليقين، هذه الحالة يتصاعد بسببها خوفه وقلقه، بشكل أكبر من خوفه من الأمراض التي قد تكون أكثر خطرًا من الوباء نفسه. ولا ترتبط هذه الحالة بالمصابين فقط، بل إنها تشمل المجتمع كله بدرجة أو بأخرى، الذي لا يدرك متى وكيف ينتهي الوباء؟

يُضاف إلى ما سبق الخوف من وقوع الشخص في دوامة الوباء ذاته، إما بنفسه أو بفقدان أحد من المحيطين به، وهي حالة متكررة تلاحقنا في كل لحظة، وتزيد الضغوط على الفرد يومًا بعد يوم.

تتعزز المخاوف في المجتمعات بسبب الوباء نظرًا لسهولة انتشاره والمعلومات المتداولة بشأنه، وكذلك معيار الثقة من الشعوب في حكوماتها. حتى أكثر الدول المتقدمة تعرضت حكوماتها لانتقادات، كما حدث في أوروبا وأمريكا.

الشك.. الكل ضد الكل

يتصاعد لدى الناس الشعور بالشك في كل شيء، الشك في الآخر، الشك في الآخر القريب من أن يكون مصدرًا للوباء، أو الشك المرتبط بظهور الشائعات، وهو ما يمثل عائقًا أمام ممارسة التفاعلات الاجتماعية، بل وقد يصل نظريًّا إلى حد ما وصفه "هوبز" بحرب الكل ضد الكل.

وفي ظل الأزمة الحالية كان من المفاجئ خطاب رئيس الوزراء البريطاني "جونسون"، الذي أصبح محل انتقاد من الجميع باعتباره يغذي مشاعر القلق والخوف لدى الأفراد، على عكس الخطاب المطلوب في مثل هذه الحالات، حيث طالب الشعب البريطاني بالاستعداد لفراق بعض الأصدقاء والأقارب.

الدين.. يلجأون إليه ويهجرونه أيضًا!

يلجأ الناس إلى الدين ومنظومة القيم لتفسير ما يحدث وإرشادهم نحو سلوكيات معينة من شأنها تخفيف معاناتهم، غير أنه مع طول المدة وارتفاع مستوى الخطورة وتفشي الوباء وزيادة الضغط النفسي يرتبكون، ويتشككون في معتقداتهم وقيمهم. وتحكي الخبرات التاريخية في أوروبا -بحسب التحليل- الكثير في هذا الشأن.

بل وقد يذهب إلى ممارسات ذات صلة بعقائد أخرى لعله يكون خاطئًا فيما يعتقد. ويتساءل البعض: "لماذا يبعث لنا الإله ما يؤلمنا، ونحن نؤمن به؟ مَن الملام فيما يحدث؟ وتشير دراسة ميدانية -عن سيكولوجيا الأوبئة-، إلى تسجيل حالات تحول ديني بين المصابين بمرض الإيدز في التسعينيات.

على النقيض من ذلك، تحفز الأزمات الكبرى والأوبئة -في سياقات أخرى- تصاعدَ التدين والتردد على دور العبادة، وزيادة في ممارسة الشعائر الدينية، أو على الأقل إعادة التفكير في دور الدين، فبعد حادث انهيار البرجين، وصلت نسبة الأمريكيين الذين يرون أنهم بحاجة إلى الدين 71%..

التراث الشعبي.. بول البقر وأشياء أخرى

ينبش الناس في التراث؛ ليجدوا شيئًا، يكون ملاذًا في الأزمة، هنا تسود وصفات الطب التقليدي أو الطب الشعبي، ومعطيات التراث التي تبعث على الطمأنينة، أو رواج حكم ومقولات، يبدأ الأفراد في تداولها للتكيف والتعايش مع الأزمة، وكل مجتمع يتحصن وراء تراثه المرتبط بجملة خبراته والإنسانية وهويته ومقدساته وتقاليده وتاريخه.

ففي الصين مثلا، أشارت تقارير إعلامية إلى أن 80% من مرضى "كورونا" في الصين تلقوا علاجًا تقليديًّا، -وبغض النظر عن فاعلية العلاج التقليدي من عدمه على مواجهة الوباء، إلا أنه يؤثر على حالة الفرد، وقد يعطيه بعض التوازن الداخلي المرتبط باعتقاده في فاعلية الوصفة الشعبية-.

ووصل الأمر في الهند إلى شرب بول البقر، كما فعل كثيرون من الهندوس، بوصفها وصفة شعبية ترتبط بحيوان يقدسونه، ويؤمنون بأن بولها يمنح العلاج، -بغض النظر عن صحة هذه المعتقدات-.

نظريات المؤامرة.. الحل السهل

أشار "فرانك سنودين" في كتابه: "الأوبئة والمجتمع"، إلى أنه حينما انتشر وباء "الكوليرا"، ظهرت في فرنسا نظرية مؤامرة بأن الوباء معدٌّ من صنع الانسان. وقد انتشرت خصوصًا شائعة تفيد بأن حكومة الملك "لويس فيليب" تضع مادة الزرنيخ في آبار المياه، ومع انتشار الوباء وموت حوالي 19 ألف فرنسي اندلعت موجة عنف ضد الحكومة من قبل الشعب.

-فعادةً- يصاحب الأوبئة وقلة المعلومات عنها، موجة من الشائعات التي يطلقها البعض وينجرف خلفها ملايين على استعداد؛ لتلقي أي شائعة لتفسير ما يحدث حولهم. وتعد هذه الفترات البيئة الخصبة لصعود نظرية المؤامرة، ليس فقط بين الشعوب وبعضها، بل -أيضًا- بين الدول. ولعل الاتهامات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية دليل على ذلك.

وصم الآخر.. وتكاتف أيضًا!

ترتبط بعض الأوبئة ببعض الإثنيات أو الأعراق التي تظهر فيها لأول مرة ثم تنتشر بعد ذلك، وأحيانًا يتعرض هؤلاء إلى استبعاد أو تمييز أو وصم تجاههم، وظهر مصطلح "كورونا فوبيا"، الذي ابتدعه البعض؛ لتجسيد حالة الخوف من كل ذوي الملامح الآسيوية، وليس الصينيين فقط، وذلك رغم فساد الربط بين العرق وانتشار الأوبئة، وعدم منطقيته.

ولدينا حالات في المنطقة العربية، جسدت هذا الموقف من ذوي الملامح الآسيوية، ولنا في قصة التنمر على سائح آسيوي، القصة والمثال، وتكرر الأمر في دول عربية أخرى مثل لبنان.

وفيما يخص المجتمع، تقل الفجوة الفرد والمجتمع، وقت الأزمات، حيث يرتبط مصير الفرد بمصير المجتمع ككل، ويَظهر نوعٌ من الشعور الجمعي والتضامن بين أعضاء المجتمع الذي يعاني من تهديد واحد في نفس الوقت، وقد ظهرت مشاهد في دول انتشار فيروس "كورونا" يتواصل فيها الناس بالغناء أو التصفيق أو الدعاء في اللحظة ذاتها.

ختامًا.. كلنا أدهم إلى حين!

الإنسان هو الإنسان، رغم سطوة التكنولوجيا ونفاذية مواقع التواصل الاجتماعي، غير أن كثيرًا مما كتبه التاريخ عن نفسية البشرية في زمن الأوبئة، رأيناه في عزلتنا التاريخية في ظل الوباء، لا فارق بين من يعيش على الأطلنطي ومن يعيش على حافة جبل، الخوف هو الخوف، والارتياب هو الارتياب.

ابتلع "كورونا" صخب حياتنا، وطوانا في صمته اللعين، وصرنا كأدهم في رواية "أولاد حارتنا"، ينتظر أن تهجره لعنة أبيه الجبلاوي، ويجده على باب كوخه؛ ليعود إلى بيته الحقيقي ونعيمه المقيم وحديقته ونايه.