لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

ملامسة الموج.. "قصة قصيرة"

ملامسة الموج.. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 20 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أيام كثيرة وأعوام صار لا يدري عددها قد مرت، وكانت كافية لتؤكد ما عرفه وتأكد بعد ذلك، لكنها التقاليد التي سار عليها الناس، ثم تسلل التفكير الحذر إلى النفس وأخيراً الارتكان إلى ما نظنه يسيراً وغواية اللحظة.

كان صوت الموج يأتي كعزف منفرد رائق، مفصولا تماما عن مزيج أصوات المارة وبعض الأغاني التي تنطلق من مقهى قريب صغير، وكأن البحر في هذا المساء المتأخر يفرد مساحة أحباله الصوتية عن آخرها، أو هذا ما ظنه وهو يعبر الطريق في اتجاه الرصيف القصير الذي تبللت واجهته بالماء.

أضواء بدت بعيدة كدوائر صغيرة ثابتة تكمن هناك دون حركة في عمق البحر، يمشى بمحاذاة الرصيف بحثاً عن موضع ملائم ليجلس، ينظر نحو الجهة المقابلة حيث محل البقالة المواجه للبحر مضيئا من خلف بابه الخارجي الزجاجي المغلق، يسير مرة أخرى نحوه، ويدخل ليشتري بسكوتاً وعلبة ثقاب، كان يستشعر جوعاً آخذاً في ازدياد، لكنه لم يفضل تناول الطعم الآن، يعود إلى رصيف البحر ليمشي مستمتعا ببرودة أحسّها ودودة .

في هذه المدينة الصغيرة المطلة على البحر، يحس بأنه تواجد هنا منذ زمن بعيد لا يدركه، يظهر ذلك من إحساسه بألفة الشوارع الصغيرة وبتعرجاتها المفضية إلى البحر، وحتى ذلك الصوت الهادئ لبائعي السمك القلائل وهم يهلون في الصباح بينما يقودون فرادى عربات خشبية صغيرة، ثم يتجمعون لعدة ساعات نهارية ويرحلون.

يسير نحوهم متتبعاً لوناً فضياً لامعاً لأسماك تحملها عرباتهم الملونة، يراها كل صباح من دون أن يفكر في الشراء، تبدو هكذا أجمل يحدث نفسه.
المدينة الساحلية الصغيرة صامتة وقورة في الليل، يذهب بعض قاطنيها إلى مقاهٍ قليلة، وحيث تصير أكثر جمالاً في تلك الناحية الأخرى من المدينة أو عند انتهاء رصيف البحر، هنا يظهر مقهيان متباعدان قليلاً، حيث يمكن أن تجلس ملامساً بقدميك ماء البحر إن أردت.

خمسة أيام له هنا تمر سريعا في عمل يأخذ كل وقت النهار، ثم قراءة في كتابين اصطحبهما معه يقتطعان ساعات الليل وحتى يدخل في نوم عميق.

يتذكر هنا كيف كان حلمه الأول، ويتعجب لماذا لم يتحقق قط، أو بالأحرى لم يعمل فيه بكل الجدية اللازمة؟، تخيل نفسه دائما معلماً في مدرسة في قرية نائية تماما، تمنى أن تكون بدائية وبعيدة عن المدن لكنه أصر دوماً أن يراها ساحلية، هو لا يحب الريف كثيراً ويصبو دوماً إلى مدن البحر، تمنى أن يعيش هناك وحيث يمكنه أن يمنح شيئاً رآه وقدره كبيرا دوما.

عزم حينها أن يأخذ معه كل ما تجمع في مكتبته الصغيرة التي صارت تكبر كل يوم، ويذهب بكل ذلك إلى المدرسة التي سيعمل بها معلماً، يقرأ مع التلاميذ الصغار ويصنع دهشتهم بالعالم.
كثيراً ما فكر كيف سكنه ذلك الحلم، وذات مرة وبينما يتفحص بعض الصور العائلية، أدرك من أين بدأ؟، كانت من تلك السعادة العظيمة التي تملأ وجه والده وهو يحكى عن أول زمن تعيينه كمعلم في إحدى قرى الصعيد البعيدة منتصف خمسينيات القرن الماضي، كان طفلا يجلس في مساءات كثيرة يستنطق أبيه ليحكي ما قد يكون سمعه منه قبلاً وأحبه، ويطلب منه تكرار تلك الحكايات عن القرية النائمة في حضن الجبل، التي لا يصلها القطار ولا الكهرباء والمياه، عن يوميات المدرسة وعن الطعام المختلف بل والغريب أحيانا وعن عادات الحياة والناس ورحلات السفر الطويلة، وعن المنشدين في ليالي الموالد الممتدة بطول المساءات.

ترسب ذلك راسخا في أعماقه وهو يشهد زيارات تلاميذ أبيه القدامى له بعد عقود طويلة، ويتذكر تلك الصور بالأبيض والأسود التي كانوا يقفون فيها إلى جواره بينما تسجل اللحظة كاميرا فوتوغرافية ضخمة.

لم ينظر لهذا الأمر أبدا باستخفاف مع مرور كل تلك السنوات، لم يتعامل معه قط كشيء يستوجب النسيان.
تشتد برودة الجو وتتصاعد أصوات الموج وتتبدى السماء أكثر وضوحاً، يجذب كرسياً ويخلع حذاءه ويقترب لتلامس قدماه مدّ الموج، يغني بصوت يتصاعد بينما العامل يضع كوب الشاي الزجاجي الساخن على منضدة صغيرة عالية في متناول يده.

إعلان

إعلان

إعلان