إعلان

"طز" في كمال عبد الجواد

"طز" في كمال عبد الجواد

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 04 مارس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بين "طز" محجوب عبد الدايم بطل رواية "القاهرة الجديدة" لـ نجيب محفوظ، والذي جسده سينمائيًّا الفنان الراحل حمدي أحمد، و"طز" كمال عبد الجواد في رواية "السكرية"، وهي الجزء الثالث من ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، والذي جسده سينمائيًّا الفنان الراحل نور الشريف، تسير حياة أغلب "الأفندية" من أبناء الجماعة الثقافية والمهتمين بالشأن العام في بلادنا.

غير أن "طز" محجوب عبد الدايم اللاأخلاقية، تأتي في بداية مشوار الحياة والعمل العام، فتصبح دستورًا يتبعه صاحبها، وبوابة لنجاحه، و"طز" كمال عبد الجواد العبثية، تأتي في نهاية مشور الحياة، بوصفها جَلدًا لذاته، ونقدًا لمنجزها في رحلة الحياة، وعنوانًا على فشلها.

ونحن نعلم أن "طز" الأولى اللاأخلاقية، تعني "طز" في القيم والمبادئ والمُثل العليا، و"طز" في كل من يؤمن بها من رجال الدين والفلسفة والعلم؛ فعلى الإنسان أن يبحث عن مصلحته الخاصة، وأن تكون معايير تفضيله وحكمه وسلوكه مُؤسسة على أرضية ما يجلب له القوة والثروة والسعادة واللذة، دون اعتبار لأي قيم أخلاقية أو دينية. وقد عبر عن تلك القناعة "فيلسوف المهانة" محجوب عبد الدايم على النحو التالي: "الدين + العلم + الفلسفة + الأخلاق = طز".

أما "طز" الثانية العبثية، فقد قالها بطل رواية "السكرية" كمال عبد الجواد، وهو ينظر بأسى وغضب لسيرة حياته، ومقدار خسارته وعدم تحققه فيها، بعد أن عاش في محراب الفلسفة يبحث عن القيم والمبادئ والمثل العليا، ملتزمًا بها، ونتيجة لذلك أصبح ثابتًا في مكانه لا يتغير، في حين تغير وتقدم العالم من حوله.

ولهذا نجده يخاطب ذاته قائلًا: "كل الناس بتكبر وبتتغير؛ رضوان سكرتير وزير، حتى جليلة بتوب! وأنا زي ما أنا، خوجة في مدرسة السلحدار الابتدائية، وباكتب مقالات في مجلة الفكر لا يقرأها أحد".

لينتهي من حوار مع ذاته بنتيجة مؤداها: "طز في كمال عبد الجواد"، بعد أن صارت الخيبة عنوانًا لحياته، وتحطمت أوثانه، وكفر بنفسه ومبادئه وكل ما كان يؤمن به، ودخل في حالة من الحزن والألم والذهول والدهشة، لخلو العالم من مباهج الأحلام، ومن ضياع الماضي الساحر إلى الأبد.

وبالطبع فتلك مفارقة مثيرة للتأمل والحزن؛ فكيف تصبح "طز" بدلالاتها اللاأخلاقية والعبثية قاسمًا مشتركًا بين شخصيتين متناقضتين تمامًا من أبطال نجيب محفوظ؟ فالأول "محجوب عبد الدايم" عديم الأخلاق والمبادئ، وفهلوي وانتهازي عديم الجذور، لكنه متصالح مع ذاته وخياراته في الباطن، وناجح ومتحقق في الظاهر. والثاني "كمال عبد الجواد" مثالي حالم، صاحب فكر ووعي وخلق، ولكنه متردد ومهزوم في الداخل، وفاشل في الخارج.

ويزداد تعجبنا عندما نعلم أن أزمة ومعاناة كمال عبد الجواد، كانت هي أزمة ومعاناة نجيب محفوظ شخصيًّا، وأن محجوب عبد الدايم شخصية حقيقية، عرفها أثناء بداية حياته المهنية، كما صرح بذلك للراحل الأستاذ جمال الغيطاني، الذي أورده بدوره في كتابه "المجالس المحفوظية"، وأن الصراع بين نموذج "محجوب عبد الدايم" ونموذج "كمال عبد الجواد" لا يزال قائمًا في مجتمعنا وحياتنا العامة إلى اليوم، وهو صراع لا تزال الغلبة فيه بكل أسف لمحجوب عبد الدايم.

وأظن أن صلاح حالنا وشأننا العام لن يتحقق، إلا عندما ينكشف زيف محجوب عبد الدايم، ولا منفعته لمجتمعه ووطنه، ويقتنع بلا جدوى الفهلوة واللعب بالبيضة والحجر، والرقص على كل الحبال، وبعد أن يقوم كمال عبد الجواد بالتوقف عن جلد ذاته بقسوة، وينقد بعقلانية وواقعية مشواره ورحلته، وعلاقته بسياقه المهني ومجتمعه، ليعرف أسباب لا فاعليته وثباته، وعندئذ ربما يصوّب الأخطاء، ويستدرك ما فات وضاع، فيرضى عن خياراته وحياته.

إعلان

إعلان

إعلان