إعلان

مع المكتبة.. ضد المكتبة

مع المكتبة.. ضد المكتبة

محمد شعير
09:01 م الخميس 28 سبتمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كان الروائي الكبير جمال الغيطاني ضعيفا أمام الكتب، بيته أقرب إلى دار كتب صغيرة، من الصعوبة أن تضع مقعدا في غرفة المكتب الذي احتلت الكتب جدرانه وأرضيته وزحفت أيضا إلى صالة البيت وأركانه المختلفة. كان الغيطانى يعير كتبه بصعوبة بالغة، وكنا نداعبه أحيانا بأنه لا ينام إذا اكتشف أن كتابا من مكتبته يبيت خارج البيت. وعندما أطلب منه أو أي من زملائي استعارة كتاب معين فإنه يطلب منا توقيع طلب استعارة يحتفظ به، وبعد 24 ساعة تقريبا يسأل: أين الكتاب؟.

لم يعكر صفو المحبة بينه وبين الروائي محمد البساطي شيئا تقريبا طوال تاريخهما المشترك، كانت محبة صافية إلا بعض المناكفات التي تتعلق باستعارة الكتب، إذ استعار البساطي، في الستينيات إحدى الروايات النادرة من الغيطاني، كان البساطي يقسم أنه استعار الكتاب وأعاده مرة أخرى، والغيطانى يقسم أن الكتاب ليس موجودا في المكتبة.. وفي مكالماتنا الهاتفية كان البساطي يضحك، لأنه بالفعل لا يزال يمتلك الكتاب، ولن يعيده!.

منذ ثلاث سنوات تقريبا، ذهبت مع الغيطاني إلى معرض الكتاب، قال لي قبل أن ندخل إلى صالات العرض، إنه أصبح زاهدا في الكتب، وإنه لن يشتري سوى الضروري الذي سيقرأه بالفعل، وإن العمر ليس فيه بقية لكي يقرأ، خاصة أن لديه مشروعات كتابة كثيرة مؤجلة.. اشترى الغيطاني يومها، وفي ساعة واحدة، عشرات الكتب.. وتوقف أمام ترجمة حديثة لكتاب "الغصن الذهبي" لجيمس فرايزر.. كان مترددا هل يشتريه أم لا؟ هو قرأ الترجمة القديمة.. ولا يظن أنه سيقرأ الترجمة الحديثة. حسم أمره لن يشتري الكتاب. ولكن عندما عاد إلى البيت.. اتصل بي يسألني إن كنت لا أزال في المعرض؟ لأنه فكر أنه قد يحتاج الترجمة الحديثة لكتاب فرايزر. ومن العيب ألا يقرأها.

إذا كان الغيطاني يؤمن بمقولة بورخيس أن الجنة لا بد أن تكون على شكل مكتبة، فإن الروائي خليل صويلح يقف على النقيض منه. منذ عشر سنوات، دعاني صويلح إلى منزله الأنيق في دمشق، مكتبته صغيرة، تحتل جزءا من صالة المنزل، كنت متعجبا أن تكون هذه المكتبة هي كل مكتبته..ولكن كان الأكثر إثارة للدهشة دعوة خليل الكريمة لي بأن أحصل على ما أريد من الكتب، فهو يقرأ الكتاب ولا يحب الاحتفاظ به. بالطبع لم يكن هناك بد من تلبية الدعوة فاخترت بعض الترجمات وكتب الفن التشكيلي.

ولأنني أنتمي إلى مدرسة الغيطاني بأن الجنة مكتبة، وأتعجب ممن يعيرون كتبهم بسهولة، ظللت مندهشا من موقف صويلح، لم أفهمه إلا بعد أن قرأت مؤخرا مخطوط كتابه البديع "ضد المكتبة". يسأل في الكتاب عن جدوى هذه الرفوف من المجلدات الضخمة التي تخص تراث الأسلاف، وهل يحتاج إليها المرء فعلا في عمله اليوم، بعد أن باتت متوفرة في مواقع إلكترونية متخصصة أو ما يسميه "دكان جوجل المفتوح ليلا ونهارا"؟ وهل كل ما اقتنيناه من كتب، ينبغي الحفاظ عليه، أليس هناك شيخوخة للمكتبة؟ الشيخوخة لا تعني الحكمة على الدوام بالطبع.

يجازف صويلح بالدعوة إلى فكرة "اللامكتبة"، ومديح فضيلة التجوال، والاكتفاء بعناوين مؤسسة ومؤثرة وخلاقة، وبإسراف نقدي أكبر، تعزيز فكرة "ضد المكتبة"، كنوع من تهجين الفوضى، بقصد الإحساس بالخفة، وخفق الأجنحة، والطيران من علو شاهق.

يرى صاحب "وراق الحب" أن المكتبة ليست بحجمها، وإنما في نوعية محتوياتها، فنحن نحتاج إلى الكتب التي تقوم بتغيير مصائرنا، الكتب التي تعض وتوخز، "إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا فلماذا نقرأ إذن؟ على الكتاب أن يكون كالفأس التي تهشم البحر المتجمد فينا" كما قال كافكا ذات مرة.

هذه النوعية من الكتب التي تعض وتوخز هي ما تكره السلطة، والطغاة في كل زمان ومكان.. وربما لهذا فإن "أول ما تقوم به دورية أمنيّة، أثناء اقتحام بيت أحد المطلوبين، إحداث الفوضى في المكتبة، بوصفها أساس البلاء"...كما يقول صويلح في كتابه!!.

إعلان

إعلان

إعلان