لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

مكاوي سعيد.. مع السلامة!

مكاوي سعيد.. مع السلامة!

خيري حسن
09:01 م السبت 09 ديسمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية عشرة ظهر يوم السبت الماضي، عندما رن جرس الهاتف، استقبلت المكالمة من الصديق الشاعر عماد أبوصالح. وجدته يصرخ مثل الأطفال، وهو يقول «يا خيرى.. مكاوي سعيد مات. ثم عاد وكرر كلامه قائلاً: «مات.. مكاوي» ثم أغلق الخط. كنا في ذلك الصباح في الصحيفة التي نعمل بها، غير أنني في الدور الثاني وهو في الدور الثالث. وضعت الموبايل أمامي، وأنا في ذهول: كيف حدث هذا؟ ومتى مات؟ ونحن كنا ـ عماد وأنا ـ على موعد معه اليوم، لنلتقيه على مقهى «زهرة البستان».

بعد دقائق، صعدت مسرعًا إلى أبوصالح، حيث كان يجلس، وجدته في حالة ذهول هو الآخر، ويهاتف صديقاً لنا- من محبي مكاوي- وهو الشاعر والكاتب «يحيى وجدى».. انتظرت حتى انتهى من المحادثة، ثم وضع الهاتف أمامنا، وقال: «يحيى منهار من الصدمة»! قلت: وأنا مازلت غير مصدق الخبر: هل مات فعلاً؟ رد وهو ينزع الكاب الذى يضعه فوق رأسه، ومد يده تحت نضارته، ليواجه دمعة حائرة مصرة على السقوط حزنًا على أستاذنا وصديقنا وأديبنا مكاوي سعيد (1956 ـ 2017)، ثم قال: «مع السلامة يا مكاوي».

تماسكت قليلاً، وقلت له: يجب أن نتحرك الآن، لنعرف ترتيبات الجنازة، فالرجل لم يتزوج، وليس له إلا ابن أخ ثلاثيني وشقيقة واحدة على قيد الحياة. كانت مواقع التواصل والبوابات الإلكترونية قد تبارت في نشر الخبر، مع أجزاء من أعماله وإبداعه، وفنه، وعالمه الذى كان يحرسه وهو يكتب عنه، ولا يتركه إلا عند النوم وهو «وسط البلد»، اليوم ترك الحارس الأمين والجميل ما يحرسه، ورحل إلى العالم الآخر. رحل مثلما ترحل عنا كل الأشياء الجميلة.

قلت: إذن نطلب رقمه.. ربما يرد أحد، فنعرف منه الموقف. وبالفعل جاء صوت حزين يقول: نعم.. مات.. وأصدقاؤه يتجمعون على مقهى زهرة البستان الآن.. وستخرج جنازته من مسجد السيدة نفيسة وسط القاهرة.

وضع "أبوصالح" الكاب على رأسه وأمسك بنظارته، ثم ترجلنا بسرعة حتى استقللنا تاكسي، جلس أبوصالح صامتًا لا يتكلم.. وأنا يدور في ذهني هذا اللقاء الأسبوعي الذي كنا نذهب فيه لـ«مكاوي» لنجلس معه، فنجده في انتظارنا مبتسمًا، قانعًا، راضيًا، وأمامه علبة سجائره وفنجان قهوته وجهاز اللاب توب، وأحياناً كتاب يبحث فيه عن معلومة، لتكمل له مشروعه الأدبي المتميز والمتفرد عن عالم وسط البلد، بغرض الحفاظ عليه، كتاريخ من تواريخ هذا البلد الذي أوشك على السقوط. عماد مازال صامتًا، وأنا مازلت أتذكر تلك اللقاءات.

الآن نحن في طريقنا إليه، لكننا سنجد مكانه خاليًا إلا من حوائط ومبان وأرصفة، لن تجد بعد اليوم من يؤرخ لها. سائق التاكسي غاضب من زحمة الطريق من شارع التحرير حتى ميدان التحرير، ويتحدث معنا عن وضع البلد والتدهور الاقتصادي، وزوجته التي قرر طلاقها، نتيجة لهذا التدهور، نحن نستمع ولا نرد. وصلنا إلى شارع طلعت حرب.. ومنه إلى الممر المؤدى لـ«زهرة البستان». رائحة الموت في المكان، العاملون في المقهى «ياسر.. وأحمد.. ومحمد» وغيرهم اعتلت وجوههم حالة ذهول، فهم كانوا يحجزون له «ترابيزة» يجلس عليها كل صباح من الساعة الثامنة حتى الساعة الواحدة، ثم يعود إلى بيته في عابدين لينام قليلاً، ثم يعود مرة أخرى من السابعة حتى التاسعة.

اليوم لا في الصباح ولا في المساء، سيعود «مكاوى» على المقهى. ألقيت نظرة على المكان الذي كان يجلس فيه في الممر، وابتعدنا عنه قليلاً، وجلسنا أمام المقهى. رأيت صاحب المقهى يعلق لافتة كبيرة مكتوباً عليها «إنا لله وإنا إليه راجعون.. توفى اليوم إلى رحمة الله تعالى الأستاذ مكاوي سعيد.. رحمه الله» وعماد أبوصالح ينظر إلى مقعده الفارغ وينظر إلى السماء، وكأنه يشكو إلى الله ويسأل «لماذا.. يا الله يموت أجمل من فينا؟.

«بالقرب منا كان يتجمع تلاميذه وأصدقاؤه على ترابيزة مجاورة يجلس عليها صديقه الحميم الفنان التشكيلي عادل السيوي، سألته: متى سنتحرك للجنازة؟ رد وهو حزين: بعد نصف ساعة، هززت رأسي وأنا ساكت، المقهى كله في حالة حزن. الجالسون.. الثلاث شجرات في الممر، الحوائط.. المقاعد.. ماسح الأحذية، الذى كان يجلس كل صباح أمام «مكاوى» فيداعبه قائلاً: «تعالى يا واد يا صعيدي.. لمع الجزمة.. ثم يقول وهو يضحك.. طبعًا أنت هارب من ثأر في الصعيد.. وأنا سأفتن عليك.. يضحك ماسح الأحذية وهو يقول «يا ريت الخلق كلها مثلك يا أستاذ».

الصمت يخيّم على المكان.. صاحب المقهى ضبط التليفزيون على صوت الشيخ محمد رفعت وهو يقرأ القرآن الكريم.. وبجواري تجلس فتاة عشرينية تبكى بشدة، جاء لها القهوجي بكوب من الليمون.. وضعه أمامها، فلم تنظر له، وواصلت البكاء. عماد أبوصالح مازال ينظر للسماء والفتاة مازالت تبكي. وكوب الليمون مازال وحيداً.

قالت: متى الجنازة؟ قلت: بعد صلاة العصر.. تمتمت بصوت هامس وهى تبكى: "يا حبيبي يا أستاذ مكاوي" بعد دقائق تحركنا جميعًا إلى مسجد السيدة نفيسة.

في المسجد، التقيت بصديقي الكاتب شريف عبدالمجيد، قال وهو غير مصدق ما حدث: «كنت معه ليلة أمس في أتيليه القاهرة.. كان يشعر ببعض الألم في بطنه. قلت له: هل تحب أن نذهب للطبيب يا أستاذ مكاوي؟ رفض وقال: سأكون بخير بعد قليل، لم أكن أعرف أن تلك الكلمات ستكون آخر ما أسمعه منه".

كنت قبل دخولي للمسجد ومعي «أبوصالح» التقينا بالأديبة الشابة نهلة كرم إحدى تلامذته، كانت منهارة وغارقة في دموعها، قالت: كان بالأمس يشعر بالتعب.. واليوم الساعة التاسعة والنصف صباحًا، اتصلت به ليرد بصوت ضعيف، قلت: سآتي لك بطبيب. رد: أنا بخير.. ثم أغلق الخط، عاودت الاتصال به في الساعة الحادية عشرة.. لم يرد.. بعد 40 دقيقة اتصل بي صديق وقال: مكاوي مات!

نهلة تبكي وتحكى ومنهارة، وبالقرب منها "فتاة الليمون" التي كانت معنا على المقهى تبكي بعنف بجوارنا هي الأخرى، بعد دقائق جاء الجثمان. دخلنا للصلاة عليه، خرجنا بعدها وجثمانه محمولاً على الأعناق، شقيقته تبكى وتقول «كدة.. يا مكاوي.. تمشى بدري وتسيبنا». شارك الأصدقاء والزملاء ومحبوه في حمله. الكل يتسابق لحمله على كتفه. سيارة نقل الموتى بعيدة بعض الشيء. قال أحد المشيعين، فلنضع الجثمان على الأرض حتى تأتى السيارة.. صرخ عماد أبوصالح «مكاوي.. لا يوضع على الأرض أبداً» من يتعب من حمل النعش يترك مكانه لآخر، بعد قليل جاءت السيارة.. واتجهت بنا إلى مقابر باب النصر في قلب القاهرة.

وصلنا قبل أذان المغرب، حوله يقف الأساتذة إبراهيم عبد المجيد وزوجته، وسيد محمود، وإبراهيم منصور، وعادل السيوى، ومحمد ناجى الشناوي، ومصطفى عبيد، ونهلة كرم، ومدحت منير، ومحمد الصباغ، وكان بجوارنا صديقه الطبيب محمد كليب، لكنه اختفى بعد دقائق. حُمل مكاوي من نعشه ووُضع في قبره. وبدأ «التربي» يغلق عليه بـ 4 كتل من الحجر وأهال عليه التراب.

وقف الجميع يدعو له، بعد دقائق ظهر د. محمد كليب وفى يده شجرة صبار جاء بها من قبر مجاور ووضعها على قبره، ومن خلفي يأتي صوت لا أعرفه يقول له: مع السلامة يا مكاوي. وفتاة الليمون مازالت تبكي وهى تضع خدها على قبره، ثم غادرنا جميعًا.. وتركناه وحيدًا يواجه ربه.. وتركنا هو أيضاً نواجه مصائرنا.. مكاوي سعيد.. مات.

إعلان

إعلان

إعلان