لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

وداعًا "مكاوي سعيد"

وداعًا "مكاوي سعيد"

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 06 ديسمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لن ألقاه بعد اليوم جالسًا على مقهى "البستان" كواحد من أشهر علامات وسط القاهرة، وأكثر زبائن هذا المقهى، الذي يرتاده المثقفون إخلاصًا للمكان والناس، فالموت غيَّب الأديب المصري مكاوي سعيد بغتة، ولم يمهله كي ينهي روايته الجديدة، التي قطع فيها شوطًا لا بأس به، أو ينجز الفيلم التسجيلي الطويل الذي كان يحلم بأن يكون قادرًا على المنافسة القوية في مهرجانات دولية، أو يتم قصص الأطفال التي كان يجهزها للنشر، أو يكمل ما بدأه من حكايات للجالسين، أو نظرات شاردة نحو العابرين، أو ابتسامات طيبة لكل الذين يقدمون عليه يحيونه ويصافحونه ويجالسونه، مستمتعين بحضوره الهادئ، وحدبه الإنساني الذي لا ينقطع، وبساطته الآسرة.

مات مكاوي سعيد عن واحد وستين عامًا، وثلاث روايات لافتة، هي "فئران السفينة"، و"تغريدة البجعة"، و"أن تحبك جيهان"، وست مجموعات قصصية، أهمها "الركض وراء الضوء"، و"سري الصغير"، و"البهجة تحزم أمتعتها"، وأربعة كتب سردية، هي "مقتينات وسط البلد"، و"عن الميدان وتجلياته"، و"كراسة التحرير"، و"أحوال العباد"، وعدد من قصص الأطفال، وقصائد شعر كان ينشرها في صباه، لكنه لم يجمعها في ديوان، حيث كان قد بدأ يكتب القصائد الفصحى والعامية وهو طالب الجامعة، متأثرًا في ذلك الوقت بصلاح عبدالصبور، وبدر شاكر السياب، وأحمد عبدالمعطي حجازي، ومحمد الفيتوري.

وقد انهمك مكاوي في كتابة مقالات ثقافية واجتماعية منتظمة لصحيفة "المصري اليوم" في السنوات الأخيرة، وحقق في فن المقال نجاحًا كبيرًا.

ورغم أن مكاوي، الذي كان يحلو لكثيرين أن ينادوه بـ"ميكي"، قد حصل على لقب شاعر جامعة القاهرة عام 1979، فإنه سرعان ما انجذب إلى القصة القصيرة مدفوعًا بنداء خفي تملكه حين قرأ قصص يوسف إدريس وتشيكوف ومسكيم جوركي، إلى جانب روايات نجيب محفوظ، وإرنست هيمنجواي وديستوفسكي.

وكما برع في الشعر، برع في السرد، فلفتت أعماله المتوالية انتباه النقاد والقراء، وحصدت الجائزة تلو الأخرى، إذ نال جوائز: نادي القصة بالقاهرة، وسعاد الصباح، وجائزة الدولة التشجيعية، وجائزة ساويرس.

ووصلت روايته "تغريدة البجعة" إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، وترجمت بعض رواياته وقصصه إلى الإنجليزية والفرنسية، فيما تم رصد جوانب من سيرة حياته وأعماله في فيلم تسجيلي باسم "ذات مكان" للمخرج أحمد شوقي.

ولولا انسحاب مكاوي سعيد من الحياة الثقافية، متأثرًا بالرحيل المبكر للكاتب الموهوب يحيى الطاهر عبدالله، لكان بوسعه أن يكتب المزيد من الروايات والمجموعات القصصية، وهي مسألة انتبه إليها في السنوات الأخيرة، حين ترك وظيفته كمحاسب بإحدى شركات المقاولات، وتفرَّغ للكتابة، عائدًا إلى ما كان يتوقعه له الطاهر عبدالله، الذي راقت له موهبة مكاوي، فأثنى على قصصه، وزكَّى بعضها للنشر في مجلات ودوريات ثقافية مصرية وعربية، وهي قصص نشر مكاوي بعضها في كتاب، مع عدد من أبناء جيله مثل يوسف أبو رية وسحر توفيق وعبده المصري.

وتقطر قصص مكاوي دومًا بالأوجاع والأحزان، وتتهادى على مهل، صانعة جوًا مقبضًا، لا يمنعك من أن تتعاطف مع شخصياتها الموزعة على أعمار شتى، أطفال ومراهقون وكهول، وتروق لك بساطة اللغة ووصولها إلى المعاني المقصودة من أقصر طريق، وتعجبك بعض الصور الموصوفة أو المرسومة بعناية، والنهايات المفارقة التي تمنحك قدرًا معقولاً من الدهشة والافتتان، فيما يلفت انتباهك مضمونها الذي يتماشى مع حالة الأسى والحيرة التي تسيطر على الطبقتين الوسطى والدنيا في المجتمع المصري، لاسيما في السنوات الأخيرة، جراء محاولة إجهاض ثورة يناير وحرفها عن مسارها ثم سرقتها.

فشخصيات مكاوي مستمَدة من مثل هذا الواقع القاسي الذي كان يستلهم منه قصصه، وترسم جزءًا من الجدارية التي ظل صنعها على مهل لحياة وسط القاهرة في ربع قرن على الأقل، بشخوصها وأماكنها وتفاعلاتها البشرية، لاسيما ما حوته روايته البديعة "تغريدة البجعة"، التي فضحت الأوضاع الطبقية البائسة، ووصفت لنا حالة القنوط التي تسيطر على أبناء الطبقة الوسطى، وما يكابده أطفال الشوارع والمشردون من جوع وعري وافتقاد إلى دفء الأسرة ورعاية المجتمع.

كما يغلب على روايات مكاوي وقصصه الحس الإنساني للراوي، الذي يبدو في أغلب القصص "بطلاً إشكاليًا" يحكي بضمير الغائب، كراوٍ عليم، وأحيانًا بضمير "الأنا"، دون أن يفقد في كل الأحوال هذه السمة، ويدخلنا دومًا في قصص فرعية، لتتوالد الحكايات دون أن يفقد السرد التكثيف المطلوب أو البؤرة المركزية التي تدور حولها الحكاية، وهو طالما أظهر في هذه الناحية براعة جعلت رواياته تتمتع بجاذبية.

ويبدو مكاوي في بعض قصصه القصيرة نازعًا إلى الرواية، حيث تسيطر مقتضيات هذا الفن بعضها على بعض، ومنها بالفعل قصص كان من الممكن أن تمتد إلى روايات كاملة، وأخرى كان من الممكن أن تكون بورتريهات لشخصيات من الحياة، مثلما رأينا في كتابيه "مقتنيات وسط البلد" و"أحوال العباد"، فالحياة كانت هي المنبع والمنهل الذي طالما ألهم مكاوي بالحكايات، لاسيما أن وعيه تفتح على فترة صاخبة من حياة مصر، انعكست على بعض رواياته وقصصه، مثل انتفاضة الخبز 1977 التي شارك فيها، ومقتل السادات عام 1981، ثم انتفاضة الأمن المركزي 1986، والاحتجاجات العارمة التي شهدها في السنوات الأخيرة من حكم مبارك وانتهت بإطاحته في ثورة يناير.

كان مكاوي يتابع هذا الأحداث عن كثب، يتأملها في صبر، ويهضمها على مهل، ثم يخرجها لنا سردًا مفعم بأشواق الناس إلى الحب والحرية والعدل، دون أن يترك صوتها السياسي الصاخب يؤثر عليه سلبًا، فيحول سرده إلى ما يشبه الخطب والبيانات والمنشورات والوعظ، بل ينساب ناعمًا هادئًا خاضعًا لقانون الفن ومقتضياته، والذي تجلى في أدب مكاوي، من خلال لغة فياضة عذبة، وصور مدهشة، وسرد عرم ممتع، ومعمار روائي قائم على أعمدة راسخة.

إعلان

إعلان

إعلان