من صحفي لسائق قطار في ألمانيا.. معجزة بلاد "الدوتش لاند" وسيمنس
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
كتب- خالد البرماوي:
يا لها من رحلة، تلك التي خاضتها ألمانيا من الانقسام للتوحيد، ومن سيطرة المفهوم الاشتراكي لمفهوم اقتصاد السوق الحر- الاجتماعي، ومن الهزيمة الساحقة بعد حربين عالميتين، لريادة أوربا واحتلال المركز ما بين الثالث والرابع عالميًا في أغلب مؤشرات التنمية والاقتصاد.
هذه الرحلة الطويلة الشاقة الملهمة تحتاج إلى أن نركز عليها كثيرا في مصر، وننظر لها بعين الفاحص الباحث والمتطلع الحالم، هذه الرحلة تماثل في تحدياتها أضعاف ما يواجهنا من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية.
تحديهم الأصعب كان في قدرتهم على ترويض جينات العظمة في شخصية عرق الألمان بعد أحساس الهزيمة والشعور بالذنب لتسببهم في خراب أوربا، هذا كان التحدي الحقيقي الذي كان أمامهم، كيف يفيقوا من الصدمة وينسوا التاريخ بحلوه ومره ويتعاملوا مع الواقع ليس للرضاء به، ولكن للسعي لتغيره، ويبدو أن هذا التحدي هو ما يواجه المصريين الآن.
صحيح هذه المحنة رحلت عن ألمانيا، ولكنها تركت أثرها على الشخصية الألمانية، لتصبح أكثر تواضعا وجدية وبخل، وأقل ميلا للمرح والبذخ، فالدرس كان قاسيًا، ورد فعلهم كان فعلا مبهرا.
قبل أيام قليلة، كنت برفقة مجموعة من الزملاء الإعلاميين في جولة للاطلاع على بعض جوانب التجربة ألمانيا، وفقا لطبعة 2016، التي تحتل فيها المرتبة الرابعة كأكبر اقتصاد في العالم، بناتج قومي إجمالي يبلغ 3355 مليار يورو، كان التركيز في هذه الزيارة على ما يتعلق ببنيتها الأساسية في قطاع النقل وأنظمة النقل الجماعي تحديدا، والذي يمثل شريانا رئيسيا لأي تنمية اقتصادية أو اجتماعية في أي بلد؛ وذلك بتنظيم من شركة سيمنس.
البداية
نقطة البداية كانت في ميونخ، حيث مقر كبرى الشركات، حتى أن البعض يطلق عليها العاصمة الخفية لألمانيا؛ كانت أقامتنا على بعد أمتار قليلة من محطة القطارات التابعة لسكة حديد ألمانيا "دوتشه بان DB"، وبسبب وقوع ميونخ في وسط أوربا فالحركة في هذه المحطة لا تتوقف ليل نهار من وإلى كل المدن الأوربية، نظام عمل المحطة ومداخلها ومخارجها ومناطق التسوق فيها، أبعد ما يكون عن فكرة محطة القطارات المعتادة.
وحسب ما أخبرني به مسؤولو شركة سيمنس، فهذه المحطة تعتبر متواضعة مقارنة بمثيلتها في برلين، التي شيدها المهندس المصري العبقري هاني عازر، ومن حسن الحظ أن في أجندة جولتنا زيارة هذه المحطة.
وجهتنا الأولى كانت لمصنع قطارات سيمنس في مدينة "آلاخ" شمال غرب ألمانيا، الذي تأسس عام 1838ويحتوى على شبكة سكة حديدة داخلية، متصلة بالشبكة الرئيسية. الأجواء بدت هادئة في المصنع، بل هادئة للغاية، الأمر أشبه بدخولنا لمكتبة وليس لمصنع قطارات.
بدأت الجولة بجلسة تمهيدية مع مسؤولي قطاع حلول النقل بسيمنس، ويقول دكتور جيرت كوبيتس، مدير مصنع القطارات في مدينة آلاخ، "ينتج هذا المصنع نوعين رئيسين من القطارات الكهربائية، وديزل-كهربائية، وتختلف سرعة واستهلاك الطاقة لكل نوع".
حسب المعلومات التي حصلنا عليها، فمتوسط إنتاج هذا المصنع ما بين 200-250 قطار كل عام، أغلبهم من نوعية "Vectron" الشهيرة، والتي تحتوى على موديلات مختلفة، حسب طبيعة بيئة التشغيل، وتبدأ سرعاتها من 160 كيلو متر في الساعة، وتصل إلى 300 كيلو متر في الساعة مثل التي تعمل بأمريكا حاليا.
عنصر الابهار في هذا المصنع ليس في حجمه فقط ولا في آلية العمل الصارمة، ولكن أيضا في أن القوى البشرية التي تقوم بتشغيله وتنتج هذا الكم الكبير من القطارات في حدود 800 عامل، ليسجلوا واحدة من أعلى معدلات الإنتاجية في ألمانيا، وربما في العالم.
يقول المهندس طارق علي، نائب رئيس شركة سيمنس مصر لحلول النقل :"العنصر البشري هنا يمثل عامل حاسم، من ناحية الابتكار والتطوير، لكي نخرج بقطارات تناسب بيئات التشغيل المختلفة، وتلتزم بالاشتراطات البيئة، ومعدلات استهلاك الطاقة وجودة التشغيل بما يضمن أفضل عائد على الاستثمار ودورة Life Cycle Costدون عطلة".
رغم أن سيمنس انتجت قبل عامين قطار Vmax وتصل سرعته إلى 357 كيلو متر في الساعة، إلا أنه لم يعمل أبدا على القضبان الألمانية، لان احتياجات التشغيل غير متوفرة في "دويتشه لاند"، ولكن عمل في الصين لاحقا، وضرب طارق علي مثالا لتأثير بيئات التشغيل على مواصفات كل قطار قائلا "ارتفاع دراجات الحرارة في مصر مقارنة بأروبا، وزيادة نسبة الأتربة، سيتطلب توفير وحدات تبريد أقوى، وفلاتر هواء أكثر لقطارات فيكترون إذا عملت في مصر".
المحطة التالية، كانت في ورش العمل إن جاز القول عليها ورشة، فالواقع أننا دخلنا "هناجر" ضخمة مرتبة للغاية لا تكاد تسمع فيها صوت لأقسام تصنيع المكونات، أو اللحام بالليزر، أو معالجة أسطح الجرارات، وهياكل العربات، أكثر ما لفت النظر هذا المزج بين أنظمة التصنيع الآلي والبشري، فكل عامل حوله سيور لنقل المكونات آلياً، وأمامه شاشة كمبيوتر وجانبها لوحتين، أحدهما عليها أدواته، والأخرى عليها القطع التي سيتم العمل على تجميعها أو مراجعتها.
بعد ذلك ذهبنا في جولة في الجزء المخصص للصيانة وإصلاح الأعطال إن وجدت، ثم انتقلنا للمنطقة المخصصة للتشغيل التجريبي، وكانت المفاجأة أننا سنقوم بتجربة قطار والسير به على سكة الحديد الرسمية، وليس هذا فحسب، بل يمكن لمن يريد، أن يجرب قيادة القطار لبضعة دقائق.
وهو ما حدث بالفعل لمدة نصف ساعة تقريبًا، حيث تبادلنا التواجد في كابينة سائق القطار التي تتسع لشخصين، وقمنا بتجربة السير به لمسافات قصيرة، الكابينة تشبه تلك الموجود في الطائرات، أربع شاشات وأَزْرارٌ تشغيل بسيطة وضعت بعناية لترصد كل ما يدور في القطار وما في خارجه، ومربوطة بالقطارات الأخرى، وبالمحطة التحكم الرئيسية، حتى أنه في حالة أصاب السائق أو مرضه، يمكن قيادة القطار اتوماتيكيا من المحطة الرئيسية، كما تقول صابرينا سوسان، الرئيس التنفيذي لقطاع المواصلات.
أول قطار كهربائي في العالم
في عام 19879 طور الألماني فيرنر سيمنز قاطرة بمحرك يعمل بالتيار الكهربائي المستمر ويؤخذ من السكة الحديدية نفسها، وهذا كان أول قطار كهربائي في العالم، ولنجاح الفكرة وغيرها من عشرات البراءات من الاختراعات، وصلنا لشركة سيمنس العملاقة، التي تحقق عائدات سنوية تبلغ 75.6 مليار يورو.
وتؤكد ماركو فويلنر المدير المالي، تحتل قطارتنا الآن المرتبة الأولى في أوربا وأمريكا، وفي أكثر من 50 سوقا مختلف، والعام الماضي احتفلنا بالقطار رقم 22 ألف. وفيما يخص التعاون في السوق المصري، قالت:" هناك مفاوضات تتم حاليا، ونحن متحمسون جدا لها، ونملك ميزة نسبية، لأننا سنقدم قيمة مضافة بنقل المعرفة وعمليات التجميع ثم التصنيع الجزئي بالتعاون مع أحد المصانع الحكومية في مصر".
وتلخص المدير التنفيذي لقطاع مواصلات سيمنس استراتيجية التطوير الحالية بالشركة، السيدة صابرينا قائلة:" الموثوقية، والمورنة، والمعقولية في التكلفة، مع بقاء المستخدمين متصلين أثناء تحركاهم، تمثل الاهداف الرئيسية لمنظومة سيمنس في قطاع النقل الآن".
تمثل المواصلات العامة في ألمانيا عصب حركة النقل، سواء بالنسبة للأشخاص التي تنقل أكثر من 70 في المئة من حركتهم وأيضا البضائع بنسبة 94 في المئة، وجميع خدمات نقل الركاب مدعمة، ولكن الدعم أخذ في التناقص، بسب تقديم خدمات تجارية تحقق عائد لمنظومة النقل الحكومية.
علاوة على أنه فتح الباب للقطاع الخاص لاستخدام البنية الأساسية للدولة مقابل تقديم الخدمة برخص محددة وبرسوم متفق عليها، وهو ما يمكن تطبيقه في مصر، فهناك بنية أساسية تملكها الحكومة ويمكن أن تؤجرها برسوم للقطاع الخاص، فيسد عجز في السوق، ويحقق عائد لخزينة الدلة.
مع هاني عازر
وفي الجزء الأخير من الرحلة، كانت وجهتنا محطة قطارات برلين الرئيسية، المحطة الأكبر في أوربا والأصعب في العالم من حيث تحديات بنائها، والتي شيدها المهندس المصري العبقري هاني عازر، ورغم أن الكثيرين تحدثوا عن هذه المعجزة، ولكن السماع غير الرؤية، وسماعها من صاحبها في موقع الإنجاز له مذاق أخر.
شرح لنا دكتور هاني صعوبة بناء هذه المحطة وكيف أنها كانت تتعارض مع كوبري هام وحيوي ملاصق لها ويعصب هدمه، فاستلزم العمل بتصميم هندسي فريد لا يعاكس مسار هذا الكوبري؛ أسفل المحطة كانت الأرض جوفية، ما استلزم تجميد التربة وحقنها باسمنت من نوعية خاصة بواسطة غواصين؛ وأيضا أرض المحطة كانت مليئة بمتفجرات من بقايا الحرب العالمية الثانية ما جعل عمليات البناء تسير بحذر وحرص شديدين، كل هذا التحديات في إطار زمني صعب، أربع سنوات فقط، لكي تلحق بكأس العالم الذي استضافته ألمانيا في 2006، وفي النهاية أنجز العمل بنجاح، مع بتوفير 250 مليون يورو عن الميزانية المرصودة!
ويكفي أن أحد المهندسين الألمان حكى لنا، كيف أن العمل مع الدكتور هاني كان يتصف بالصرامة والحزم بصورة تفوق ما اختبره من العمل مع أي مدير ألماني أخر.
خلال جولتنا في محطة قطارات برلين، التي تحتوى على 6 أرصفة متعددة الطوابق، وملحق بها محطة مترو داخلية وترام، وكذلك محطة اتوبيس، وجراج ضخم، ومول به 70 محل. دكتور هاني أصر على أن يصحب الوفد الإعلامي المصري بتواضع شديد في رحلة بالقطار من محطة فرعية حتى محطة برلين الرئيسية، وصعدنا معه لكابينة القطار بتصريح خاص.
وحسب ما قيل، فهذه هي المرة الاولى التي يصعد فيها وفد إعلامي لكابينة قيادة القطار، وهو من نوع سيمنس "فيكترون" التي تبلغ أقصى سرعة لها 260، وطول ل430 متر، وعلق دكتور هاني قائلا :"المحطات تدعم مختلف أنواع قطارات سيمنس، سواء التي تعمل بخطوط كهرباء بأعلى، أو تلك تحصل على طاقتها من القضبان".
نظام التذاكر في ألمانيا يشبه لحد كبير نظام شركات المحمول، من حيث العروض والخدمات المتنوعة، ويشبه أيضا نظام تذاكر الطيران كما يقول دكتور عازر، فحجز رحلة قبل شهر قد يحقق توفير 90 في المئة مقارنة بقطع التذكرة قبيل الرحلة مباشرة، وهو نظام لا يحتاج إلا لنظام وتطبيق إليكتروني تستطيع أن تقوم به أي احد شركات تكنولوجيا المعلومات الكثيرة في مصر، لو هناك نية!.
يمثل قطاعي النقل والطاقة واحدة من أكثر القطاعات تطورا في ألمانيا، ويربط دكتور عازر بين تطور ألمانيا وما وصلت إليه من تقدم، واهتمامها بأنظمة النقل والطاقة بها، ويقول:" لا يمكن لدولة أن تنهض دون بنية أساسية قوية في الطرق، ودون ظهير قوى من الطاقة، وهو ما نرى أن مصر وعيت إليه جيدا وتسعى له بقوة".
وأضاف ألمانيا تسعى لأن يكون 50 في المئة من طاقتها معتمدة على الطاقة المتجددة او الخضراء كما يقال، ويقول :"الدولة الاتحادية كلها مسخرة لهذا التوجه، السيارات الحديثة تراعي ذلك من الآن، وكذلك القطارات، وما تقوم به سيمنس في هذا المجال من بحث وتطور يعمل على زيادة الكفاءة، وتقليل الاعتماد على الطاقة".
الحديث مع دكتور عازر استمر يوما كاملًا، وتطرق لمستقبل صناعة النقل في العالم؟، ولماذا لم تتطور مثل تطور صناعة الكمبيوتر أو الاليكترونيات؟، وكيف لدولة مثل مصر بهذه البنية الاساسية المتهالكة أن تحقق طفرة اقتصادية؟، وغيرها الكثير من الأسئلة، وهي موضع الجزء الثاني من هذه الرحلة.
للتواصل مع المحرر KhaledPress@gmail.com
فيديو قد يعجبك: