إعلان

يحلم بشواطيء آمنة.. إيهاب المالحي يُنقذ جثامين الغرقى من التسعينيات

01:14 م الأحد 12 سبتمبر 2021

إيهاب المالحي مؤسس مبادرة غواصين الخير لانتشال جثا

كتبت-إشراق أحمد:

يكاد لا يمر يومًا إلا ويستقبل إيهاب سعد المالحي مكالمة استغاثة: "عندنا غريق". ما إن يغلق الهاتف ويتبدل حاله؛ يخلع رداء الإداري بشركة البترول، ويرتدي بذلة الغوص. لا يهدأ له بالاً ولا يجد مستقرًا حتى يعثر على جثمان الغريق، يلازمه مشهد مضى عليه 25 عامًا حين انتشل جثة صديق له، فيواصل سعيه ولا يغمض له جفن إلى أن يدفن أهالي الغرقى أحبابهم.

قبل 4 أيام، تم العثور على جثمان الطفل يوسف حامد بعد غرقه في شاطيء النخيل بالإسكندرية، وسبقه بأيام انتشال جثمان منة حسين، طالبة ثانوي من بني سويف بعد 9 أيام من غرقها في النيل. لم يغب المالحي عن الواقعتين، ليس بحضوره شخصيًا بالغوص في المياه كما يفعل، لكن بمتابعته لفرق متطوعين تمتد على مستوى الجمهورية، تعمل إلى جانب الإنقاذ النهري والبحري، يتفقدها ابن محافظة الإسكندرية إلى أن يكتب كلمة النهاية بتأكيد العثور على الغريق.

1

صاحب 48 عامًا، يعشق البحر حال أهل الإسكندرية حتى أنه اشتهر بين رفاقه بـ"المالحي"، لكنه لم يكتف بهذه المحبة لنفسه، احترف الغوص بالحصول على شهادات محلية ودولية، وأصبح ينقله للأبناء والأصدقاء والمعارف، لا يترك تجمع للغواصين إلا تواجد فيه، كما يتابع بدأب أخبار الغرق في شواطيء الإسكندرية غير أن مع العام 2017 تغير الحال.

لم يعد المالحي وحيدًا في البحر، بادر بلم شمل مجموعة تضم العشرات من ممارسي الغوص وحاملي شهادات الإنقاذ من كافة أنحاء مصر. أطلق عليهم "غواصين الخير"، ما إن ينشر النداء على مجموعة "الواتس آب" أو فيسبوك حتى يلبي المتاح منهم التطوع للبحث عن الغرقى.

عمل المالحي في صمت حتى 2018. وقع حادث غرق لشاب يدعى محمد حسن صدمته سيارة على كوبري استانلي بالإسكندرية وسقط في البحر، حينها اُستدعى صاحب مبادرة التطوع "جمعت 150 غطاس من جميع أنحاء مصر وبدأت انزل الناس بخطة وفي اللحظة دي عينوني رئيس غواصين اسكندرية". نشأ المالحي في هذه المنطقة ويعرف مياها "صخرة صخرة". بعد نحو أسبوع عثر الغواصون على الجثمان.

ذاع صيت المالحي منذ ذلك الوقت، رغم أن "كابتن إيهاب" كما يُعرف ليس حديث العهد بالإنقاذ. منذ عام 1993 تعرفه شواطيء الإسكندرية. عمل منقذًا في منطقة العجمي بينما هو طالب بكلية التجارة، أحب ما يفعل حتى أنه حصل على دورات في الغوص من الاتحاد الدولي.

طيلة عمله بالشواطيء لنحو ثلاثة أعوام، لم يشهد حالة غرق، كان يتدخل المالحي قبل تفاقم المشهد، يعلم أن احتمالية الغرق تزيد مع أعداد الرحلات للشاطيء، فيبيت ليلة الخميس لاستقبال المصيفين باكر، يوجههم للإرشادات، ولا تغيب عينيه على مَن بالبحر.

2ذاق المالحي معنى الحياة في أعين مَن رأوا الموت. لا ينسى تلك الشابة التي شارفت على الغرق عام 1995، وحينما نجت جاءت إليه في الصيف التالي بصحبة زوجها "قالت له لولا الراجل ده ماكنتش اتجوزتني لأني كنت هكون ميتة".

وكذلك عرف ابن الإسكندرية تيه الأهل أمام الأمواج وهم لا يعرفون سبيلاً لفقيدهم؛ في العام الأخير له بانقاذ الشواطيء، استقبل المالحي اتصال من شقيق صديق له، كان يحترف الغوص لكنه غرق. بحث العديد عنه ولا أثر لياسر سندريلا "كلهم كانوا بيدورا في محيط استانلي اللي غرق فيه فقررت أمشي مع التيار". في اليوم الثالث وجد المالحي صاحبه غريقًا بمنطقة رشدي.

أبدًا لا يغيب المشهد عن المالحي "كان اسمر لكن لما لقيته. جسمه كان أبيض من الماية". حمله في البحر وسار به لنحو كيلو متر ليصل للشاطيء، تلك القوة التي رآها أسرة الغريق والأصدقاء انهارت في لحظة "قعدت أعيط وأنا مش حاسس بحاجة". أصاب التحلل جسد الصديق حتى بات له رائحة فجة لم يدركها المالحي إلا بعد الخروج من الماء "سبحان الله لو كنت شميت الريحة ماكنتش هقدر امشي بيه المسافة دي".

كان ياسر سندريلا أول جثمان لغريق ينتشله المالحي عام 1996. شعر ابن الرابعة والعشرين عامًا وقتها أن واجب يدفعه للمواصلة، لكن كلمة من والدته حالت بينه والطريق بعدما عُرض عليه العمل في شرم الشيخ "قالت لي البحر ده تروحه كل يوم لكن تشتغل فيه لا".

انقطع وصال المالحي مع الإنقاذ طاعة لوالدته إلا أنه استمر في التعلم والحصول على الشهادات في الغوص، وتدريب الأصدقاء والمعارف بلا مقابل في شاطيء البرويفاج. تزوج ابن الإسكندرية ومضت حياته بين العمل وهوايته حتى عام 2016، حينما غرق شاب يدعى عبد الرحمن ضرغام في شاطيء النخيل. استمر البحث عنه لنحو 18 يومًا، تطوع المالحي مع الغواصين حتى طفى الغريق على سطح الماء.

3

يومًا تلو الآخر ويتوالى سماع المالحي لوصف "شاطيء الموت". ضاق صدر الرجل من الكلمة "مكنتش حاببها لأن معناها أن محدش هيروح هناك وبالتالي ناس كتير هتخسر أكل عيشها". رغب المدير الإدراي في إحياء المكان بتحسين عوامل الأمان فيه.

ذهب المالحي لمكتب المحافظ، تقدم له بصور عن الحواجز البالية بالشاطيء، وأوراق له معتمدة من الاتحاد المصري والدولي للغوص المنتمي إليها. بعد نحو ثلاثة أسابيع تفاجأ بغلق شاطيء النخيل "أنا مكنتش عايزه يتقفل كنت عايز يتعمله صيانة".

لم يستسلم المالحي؛ في رمضان عام 2016، وبينما يدعو رفاقه للإفطار على مجموعات الغوص والتي كان يدير صفحاتها على فيسبوك، خطر له أن يجمع من استطاع ويتطوعوا لعمل منطقة سباحة آمنة في شاطيء النخيل، وبالفعل اجتمع نحو 12 غواصًا، وعلى مدار يومين تمكنوا من إقامة 4 حواجز قبل أن يتم سرقتها كما يحكي "كابتن إيهاب" لمصراوي.

خاب الأمل من محاولة إنقاذ الشاطيء، فلجأ عاشق الغوص لنجدة الغرقى، رويدًا ينضم غواصًا جديدًا إلى مجموعة "غواصين الخير"، اقتصر الأمر في البداية على الإسكندرية، ثم توسع لأنحاء مصر وزادت الحالات "بقينا نساعد في أي حتة بحر نيل ترعة وبناخد إذن لشغلنا".

ما إن يصل المالحي اتصال أو رسالة بوجود غريق، يسير على نظام أصبح معروفًا "بطلب اسم الغريق وسنه وصورته والمكان اللي غرق فيه ولو قدر المبلغ يبعت اللوكيشن عشان الغواصين لما تسافر ورقم تليفون حد للتواصل". بمجرد الحصول على البيانات، يتولى ابن الإسكندرية نشرها على مجموعة غواصين الخير في الهاتف والفيسبوك وصفحته الشخصية، مطالبًا باتصال مَن يريد التطوع.

يضم "غواصين الخير" كافة الفئات "في ضباط ومهندسين وعمال وصيادين"، يتكفل المالحي بالتنسيق فيما بينهم بالاعتماد الكلي على إمكانياتهم الذاتية"مبناخدتش حتى ماية من أهل الغريق. بنطلع بعربياتنا واللي معاه معدات يدي اللي مش معاه"، يرفض المالحي أي دعم من خارج المجموعة، يؤكد دائمًا أن عملهم تطوعي "وخالص لوجه الله".

مع اكتمال المتطوعين، ينقسمون لثنائيات. لا ينزل غواص منفردًا في الماء حفاظًا على سلامته كما يقول المالحي الذي يوزع المهام "ناس سكوبا يعني تنزل بتانك وناس غوص حر تأمنهم بحبل ماسك فيهم ولو في ترعة أو نيل بأمنهم بمركب لأن الماية بتجري جامد"، حتى مَن لا يملك معدات وأراد التطوع لا يحرمه المالحي من الانضمام لمهام البحث.

4

زادت أعداد الغرقى عام 2020 كما يقول المالحي ومعها عمل الفريق. في سبتمبر من العام توسعت المبادرة لخارج مصر؛ بينما يلتقي ابن الإسكندرية بمحمد عوض قائد غواصين مطروح، تشاركوا معًا في تجميع رؤساء اتحادات الغوص في 13 دولة عربية، وأصبح المالحي مسؤولاً رسميًا عن المجموعة التي أصبح اسمها "غواصين الخير المتطوعين" مع عوض وماهر أبو مرزوق كبير الغواصين في فلسطين. اتسعت الدائرة دون العلم أن أشهر ويكون لهذا التجمع دور فعّال.

في فبراير 2021 وصل الخبر بغرق لانش يستقله 5 أشخاص في المدخل الشمالي لقناة السويس جهة بورسعيد. تم العثور على أحد الغرقى بالقرب من منطقة الحادث الذي وقع لسوء الأحوال الجوية، فيما اختفى البقية في غياهب المياه.

نشر المالحي البيانات لجميع الغواصين واستقبله "غواصين الخير المتطوعين" في فلسطين باهتمام كبير "كان في احتمال أن التيار يكون أخدهم ناحية غزة"، وبالفعل بعد أيام انُتشل الجثمان الثاني من شاطيء رفح، وزاد التواصل مع المتطوعين الفلسطينيين الذين ساهموا في العثور على الغرقى المصريين الثلاثة.

مع الاجتماع الشهري لغواصين الخير في ذلك الوقت، اختار المشاركون المالحي ليكون رئيس غواصين مصر والوطن العربي. لم يعد ثمة حادث أو أمر يجري متعلق بالتطوع لانتشال الجثامين إلا ويعود لابن الإسكندرية.

لا يتوقف المالحي عن التدريب، ثلاثة أيام يسبح فيها بالإضافة لممارسة الجري والتمارين الرياضية. تغيرت حياة الأب لثلاثة أبناء، أصبح التعب في سبيل إخراج جثمان من الماء موطن راحته. لا يصدق المحيطين له أن مَن يبكي لأقل شيء، يلقي بنفسه في البحر والمياه بظروف صعبة ليخرج جثث ربما تآكلت ملامحها وتحولت لأشلاء. يقول الرجل الأربعيني "بره الماية أنا حساس جدًا لكن في البحر قلبي ميت".

يعلم مؤسس "غواصين الخير المتطوعين" أنه معرض للموت في كل مرة ينزل للمياه، لكن شيئًا وحيدًا يدفعه للمواصلة "الناس تدعيلي وأنا في القبر". على مدار تطوعه استمد المالحي من أهالي الغرقى مِداد قوة لا يفارقه.

5

8 أيام ظل يبحث المالحي عن طفل في السابعة من العمر، غرق في محافظة البحيرة، فيما وقف والده ثابتًا يخبره "يا كابتن الحمد لله ابني كنت هكبره واجوزه ويخلف عشان يدخل الجنة. أهو ابني داخل الجنة معنديش مشكلة بس نفسي ادفنه"، بينما اعتبر والد نور سعد البحر بمثابة المدفن بعد عشرة أيام من البحث عنه "كنت هدفنه في تربة متر في متر لكن هعتبر قبر ابني شاطيء بلطيم أول لما أكون عايز اقرأ الفاتحة هجيب مراتي ونيجي".

لا ينسى المالحي كيف ظل يبكي وهو يمسك جثمان الشاب نور في اليوم الـ11 بعد العثور عليه، انهار الغواص بينما ترن كلمات الأب في أذنيه، وحلم الأم أمام عينيه "قالت لي ابني مش هيطلع غير لما محدش يشوفه. جالي في المنام وقالي أنا عايز اتستر". لنحو نصف الساعة احتضن المالحي جسد نور الذي افقدته المياه ملابسه، وابقى عليه في الماء حتى حضرت سيارة الإسعاف.

انتظار الأهالي أقسى ما يتألم له غواص الإسكندرية، يوجعه فقدانهم للأمل، يوصيهم بالصبر لأقصى مدة في البحث، وأن يصلوا الغائب على فقيدهم بعد 30 يومًا إن لم يخرج جثمانه. ثمة معلومات يعلمها خبراء الغوص بشأن طفو الغرقى، في الصيف يظهر الجثمان بعد ثلاثة أيام، وتطول المدة في الشتاء لستة أيام، وإذا لم تظهر الجثة على سطح البحر، يتأكد غواص الإسكندرية "أن أكيد شبكت في حاجة"، مثلما حدث مع شادي، أحد غرقى شاطيء النخيل، يوليو 2020، إذ عُثر عليه بين الصخور.

يحفظ المالحي أسماء الغرقى كما يفعل مع أبنائه، بالسابق لم يكن يحتاج لورقة لكن مع تزايد الحالات أصبح يدون "المأموريات" كما يطلق على مهام البحث التي ساهمت في إخراج العديد من الضحايا المبلغ عنهم، إلا واحدًا، يذكره مؤسس "غواصين الخير" بأسى "حسين مبيض محارة غرق في ترعة الإسماعلية دورنا عليه 18 يوم مالقيناهوش"، منذ يناير الماضي وإلى الآن يتواصل الأهل مع المالحي، ولا يفقد الأخير الأمل "جالنا بعد شهر حالة روحنا ندور عليه لقينا اتنين تانين أهلهم بيدوروا عليهم".

يؤمن المالحي أن طريقه التطوعي مقدرًا، ومكانه أينما تواجدت دعوات أهالي الغرقى. يضحك بينما تبكي زوجته لحظة مشاهدتها للحرم المكي خاليًا في التلفاز، تذكره بأنه لولا كورونا لما ضاعت فرصتهم في الحج 2020 وأموال تأشيرتهما، فيخبرها بأنهم حُرموا الذهاب لمكة ليلبي نداء آخر، في الميعاد ذاته أخرج غواص الإسكندرية وفريقه 12 غريقًا بشاطيء النخيل وآخر في بلطيم، ومعهم دعوات لم ينقطع وصالها "في شهر 12 سافرنا عمرة بفلوس الحج اللي كانت ضاعت علينا". يرى المالحي أن هذه نفحة مما يلقاه منذ تطوعه لإنقاذ جثامين الغرقى.

6

988 حالة غرق في البحر منذ 2004 وحتى 2020. رقم تابعه المالحي ويحفظه عن التصريحات الرسمية. مع كل مكالمة تصله، يتمنى غواص الإسكندرية ألا يتلقى اتصال آخر، يرغب أن تضم جميع الشواطيء العامة مناطق آمنة للسباحة خاصة أنها لا تتطلب أكثر من حبال و"شمندورة"، وكذلك منقذين يجيدون الإسعافات الأولية ودراجات بخارية للتدخل سريعًا حينما تبعد مسافة الغريق، فيما يأمل لو يستجيب الناس لتعليمات السلامة وقت رفع الرايات ومنع السباحة، وقتها يعلم المالحي أنه لن يتلقى بلاغًا "مش هيبقى في غرقانين أصلاً عشان حد يتصل بيا".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان