إعلان

أيام الصراع في "الشيخ جراح".. لا عيد هنا

12:18 ص الأربعاء 12 مايو 2021

حي الشيخ جراح بالقدس- AFP

مارينا ميلاد: -

لا عيد عند ساكني حي الشيخ جراح بالقدس هذا العام. لا كعك. لا زيارات. لا ملابس جديدة، ولا تنزه. هذا العيد تحوطه الحواجز، ويملؤه الخوف من المواجهات الدائرة، وتهدده مشاهد مأساوية تقفز في ذاكرتهم.

بلغ عقدٌ من الزمن نهايته وأكثر ولم تغب عنهم صورة جيرانهم "عائلتي الغاوي وحنون" الذين تشردوا وعاشوا في خيام على الطريق لأشهر، بعد أن احتل المستوطنون الإسرائيليون مساكنهم بالحي. والآن يقفون مكانهم مهددين بالمصير الذي ظلوا يخشونه طوال 49 عامًا.

أيام من شهر رمضان تشهد فيها ساحات القدس وطرقات الحي نزاعًا جديدًا حول البقاء. قصة تنضم لقصص المدينة تحكي عن أُناس متمسكين بالأرض، عن اشتباكات ومصابين، عن روايات متناقضة يُقدمها كل طرف، وعن تنديدات دولية ومطالبات.. بينما يبقى الوضع كما هو عليه.

7 مايو 2021 - كانت أصالة القاسم تعد وجبة الإفطار مع زوجة أخيها في بيتهما بحي الشيخ جراح. يستعدان لأخذها على طاولة الإفطار الممتدة أمام بيتهما والتي يتشارك طعامها أهالي الحي الصائمون كل يوم.

عادة، لا يمر الإفطار عليهم في هدوء؛ إذ يتعرضون لمضايقات المستوطنين الذين سكنوا أربعة بيوت في الحي منذ عام 2009، بعد إخلائها من سكانها الفلسطنيين- بحسب أصالة التي تتذكر ما حدث لجيرانها رغم أن عمرها آنذاك لم يتجاوز الـ11 عامًا، لكن الخوف من تكرار الأمر معهم عزز بقاءه في ذاكرتها.

1

على مقربة، تجمع مئات الأشخاص في المسجد الأقصى في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان. وبقي الكثير منهم حتى بعد صلاة العشاء للاحتجاج على عمليات الإجلاء المحتملة في حي الشيخ جراح. فقد تصاعد التوتر بين الطرفين منذ أسابيع سابقة بسبب هذه الخطة، وهو ما يرمي إلى التوقع باشتباكات حادة.

كان بيت أصالة المعروف بـ"دار القاسم" (نسبة إلى عائلتها التي سكنته منذ 1956) واحدًا من تلك البيوت الأولى المُهددة بالإخلاء لصالح المستوطنين الإسرائيليين.

فقد حمل يوم 8 أكتوبر العام الماضي خبرًا صادمًا لأهل الدار؛ حيث وصل إليهم خطاب على البيت يبلغهم بضرورة إخلائه قبل مايو الجاري؛ استنادًا إلى حكم قضائي يفيد بعدم ملكيتهم له، ذلك بعد رفع شركة "ناحالوت شمعون" دعاوى ضد عائلات الحي بادعاء أن مالكي الأرض قبل عام 1948 كانوا عائلات يهودية.

ذهب الخطاب نفسه لثلاث عائلات أخرى بالحي: "الكرد، جاعوني، سكافي"؛ ما دفع أربعتهم إلى تقديم التماس إلى المحكمة، لكنه قوبل بالرفض في فبراير الماضي.

كان وقع الخبر على أصالة وأسرتها أسوأ من القنابل النارية التي تُلقى في الاشتباكات: "هاد بيت سيدي وستي وبعدهم أمي وهلا أنا واخواتي التنين وفيه واحد متزوج ومعنا مرته وأولاده الصغار.. وين ممكن نروح بعد ما إجي دورنا"؟!

صورة 2

صح التوقع، واحتدمت الاشتباكات في المسجد الأقصى. ولم يُجدِ حديث مسؤول بالمسجد عبر مكبرات الصوت: "يجب على الشرطة أن توقف إطلاق القنابل الصاعقة على المصلين فورا، وعلى الشباب أن يلتزموا الهدوء". فقد أصيب أكثر من 200 فلسطيني وستة ضباط من الشرطة الإسرائيلية، التي قالت إنها استخدمت القوة "لاستعادة النظام بسبب شغب المصلين".

وأقامت منظمة الهلال الأحمر مستشفى ميدانياً، بعدما امتلأت المستشفيات المحلية، وذكرت أن إصاباتهم بـ"رصاص معدني مغلف بالمطاط".

صورة 3 (1)

لم تخشَ أصالة، الطالبة الجامعية، يومًا من المشاركة في الاحتجاجات، كذلك إخوتها. تواجه خطر الاشتباكات التي امتدت هذه المرة إلى بيتها ولا تحتمي بشيء. فقط تركض على البيت، وتغلقه عندما تهاجمهم القوات الإسرائيلية، ثم يخرجون، ويتكرر المشهد مرة بعد مرة: "بنحاول نثبت تواجدنا صبح ومسا".

بالتأكيد ترك ما حدث لأسرتها أثرًا قويًا في نفسها؛ فقد أُخذ خالها "عمر القاسم" أسيرًا حتى وفاته، سُجن أشقاؤها أكثر من مرة، وافترقت عن أبيها الذي منعته السلطات من دخول القدس؛ لأنه غير مولود بها وتقطع أصالة حواجز لمده ٣ ساعات للقائه في رام الله.

منذ الأيام الأولى للاحتجاجات، وتتولى أصالة إسعاف الجرحى في بيتها، وتصور الأحداث لنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي: "بدون ضغط إعلامي و سياسي لن يعترفوا بأي حق لنا بالأرض" وبالفعل أثارت مواجهات الجمعة إدانات دولية، ومطالبة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية إسرائيل بإلغاء أي عمليات إجلاء.

Graphic 1

8 مايو - التوتر يملأ أنحاء المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح. محاولات متكررة من السلطات لمنع مصلين من التوجه إلى المسجد؛ إذ أوقفت حافلات تقلهم على بعد عشرات الكيلومترات خارج القدس في ليلة لها خصوصيتها؛ فهي "ليلة القدر"، لكن على ما يبدو ستكون ليلة جديدة من الاشتباكات.

كان أداء أصالة للصلاة في المسجد أمرًا بالغ الصعوبة ولم يمكنها القيام به خلال شهر رمضان. فباتت الساحة أمام منزلها مسرحًا للمواجهات بين الطرفين: "رمضان قضيناه اعتقالات واعتداءات. صرنا بنصلي بالحي". لسبب آخر يَصعُب على أصالة الخروج، وهو انتشار الحواجز العسكرية في كل الأرجاء والتي تحاول تجنبها قدر الإمكان: "بيطلبوا بطاقة الهوية وبيسألوا وين رايحة، و وين جايه"!

لم يكن "الشيخ جراح" حبيس تلك الأجواء طوال عهده.

تَذكُر أصالة عن طفولتها أنها كانت سعيدة حتى وإن تخللتها أحداث مماثلة "بهاد البيت ذكريات من أيام سيدي و ستي.. كنا نلعب مع ولاد الحي وييجو عنا أهالينا يزورونا و نطلع رحلات مع جيرانا".

ويشير محمد الصباغ- أحد سكان الحي الذي ولد عام النكبة 1948- إلى فترة تسبق طفولة أصالة بكثير؛ عندما جاء إلى الحي مع والديه وجدته مُرحّلين من يافا بعد الاحتلال، ومعهم جدي أصالة: "عشنا أياما سعيدة وأخرى صعبة ومؤلمة... لكن عندما يُطلب مني الآن أن أترك بيتي وذكرياتي وأخرج بهذا الشكل ومعي 32 شخصا من عائلتي معظمهم أطفال... فهي الأيام الأسوأ".

لقد سكن الحي فلسطينيون مثل الصباغ وجدي أصالة، وطردتهم القوات الإسرائيلية من بلداتهم: يافا،وحيفا، وعكا، والقدس الغربية، ثم أعادت الحكومة الأردنية في سنة 1956 بالتعاون مع وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) توطينهم في 28 مسكن بهذا الحي، على أن يتم نقل ملكيتها لهم بعد موافقتهم على التخلي عن صفة لاجئين.

ظلوا يدفعون إيجارات رمزية قدرها 50 فلساً أردنيًّا سنويًّا حتى انقضت مدة 3 سنوات ينص عليها الاتفاق لتتحول الملكية لهم تلقائيًا. وقد حدث لكن دون أوراق موثقة يُعتد بها؛ فقط ورق الاتفاق- بحسب السكان- وهو ما أوقعهم في أزمة بدأت ملامحها عام 1972.

لليلة الثانية على التوالي؛ اندلعت اشتباكات عنيفة بعد أن صلى عشرات الآلاف بالمسجد الأقصى في ليلة القدر. رشق متظاهرون الشرطة بالحجارة، وأشعلوا النيران في منطقة باب العامود في البلدة القديمة، ثم سرعان ما تحركت القوات الإسرائيلية، وأطلقت القنابل الصاعقة، واستخدمت خراطيم المياه.

زادت حصيلة الإصابات، وندد محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، بما وصفه بـ"هجمات إسرائيل الآثمة".

وبنهاية اليوم؛ بلغت التوترات نقطة أكثر تصعيدًا؛ عندما أعلن الجيش الإسرائيلي أن فصائل فلسطينية أطلقت صاروخا من قطاع غزة، الذي تسيطر عليه حركة حماس على مناطق إسرائيلية. ووصل التصعيد إلى حي الشيخ جراح؛ فقامت القوات باقتحام بيت أصالة والاعتداء عليهم حتى أصيبت شقيقتها بـ"كدمَات" في يدها: "وغير هيك كتير اعتداءات من قبل المستوطنين مثل الشتم و رش غاز، و رمي قمامة علينا".

الاعتداء على دار القاسم.mp4 from Marina on Vimeo.

9 مايو - حل هدوء نسبي في باحة المسجد الأقصى، لكن الخوف من المساء. وقررت المحكمة الإسرائيلية العليا تأجيل جلسة الاستماع بشأن قضية إخلاء العائلات، على أن تُحدد موعدًا جديدًا خلال 30 يوما. ذلك التجميد جاء بعد أن كان من المفترض أن تعقد يوم 10 مايو.

تلك الأزمة فوجئ بها سكان الشيخ جراح لأول مرة في سنة 1972، عندما حصلت منظمات استيطانية يهودية على ملكية أرض في الحي، وطالبت بإخلاء أربع عائلات فلسطينية تقطن فيها معتمدين على قوانين إسرائيلية. ثم صدر في 2008، حكم قضائى بأن جزءاً من الحي كان مملوكاً لليهود الشرقيين، وتم إخلاء العائلات الأربعة تباعًا.

تقول أصالة: "لما هُجّرو إجيارنا، و استولوا على بيتهم صار الوضع مختلفا. صار عنا ذكريات اقتحامات وأسلحة وعنف وجنود ومستوطنين يزعجونا كل يوم و تغير شكل الحي تمامًا".

جراف

تجددت المواجهات ليلا في هذا اليوم. ورفض رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الضغط الدولي لوقف الاستيطان: "القدس هي عاصمتنا.. سنبني في عاصمتنا وننهض بها.. هذا ما فعلناه، وهذا ما سنواصل فعله".

هذا التمسك بحي الشيخ جراح ضمن الخطة الإسرائيلية يفسره زكريا عودة، مسؤول بالائتلاف الأهلي لحقوق الإنسان في القدس، بأن "الحي موقعه استراتيجي؛ فهو قلب القدس وجزءٌ مما يسمى الحوض المقدس الذي يشمل البلدة القديمة وما حولها وجبل الزيتون".

يدرك الجميع في الحي أهميته، فيزيدهم إصرارًا على الدفاع عنه حتى العائلات التي لم يصدر بحقها قرار الإخلاء بعد؛ لكنها تعلم أن دورها قادم لا محالة، ومنهم عائلة مراد عطية، أستاذ اللغة العربية "إذا طلع الأربعة بيطلع الحي كله".

Graphic 3

10 مايو- ربما هو اليوم الأصعب حتى الآن. فيه تحتفل إسرائيل بذكرى "يوم توحيد القدس"، وهو ما تخرج لأجله مسيراتهم. وعلى الناحية الأخرى، جرت الاشتباكات المعتادة، لكن ارتفعت الإصابات بدرجة كبيرة، حيث قالت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني إن "أكثر من 275 فلسطينيا أصيبوا"، بينما قدرت الشرطة الإسرائيلية إصاباتها بـ12 شرطيًا.

كل ذلك جعل الاحتفال بعيد الفطر المقبل شبه مستحيل بالنسبة لأهالي الشيخ جراح.

يقول يعقوب أبو عرفة (59 سنة): "كنا ننتظر صلاة العيد والزيارات وصنع الكعك، خاصة أننا لم نحتفل العام الماضي بسبب كورونا، لكنهم لم يسمحوا بدخول أحد إلينا، وبالكاد نتمنى القيام بشعائرنا الدينية".

فيما لم تتخيل أصالة أن ترى الحي في العيد بهذه الصورة حزينًا معزولا عن الجميع – حسب وصفها - "خطفوا الفرحة من أطفال الحي وكباره. همنا الأول نرتب فعالية للأطفال على الأقل".

زاد الأمر سوءًا؛ فقد شنت الطائرات الإسرائيلية الغارات العنيفة على قطاع غزة بعد انطلاق صواريخ من غزة باتجاه القدس. واستمر الأمر حتى اليوم مُخلفًا "25 شخصًا بينهم تسعة أطفال قتلوا في الغارات"- بحسب مسؤولي صحة فلسطينيين في غزة.

ينتظر ساكنو "الشيخ جراح" قرار المحكمة الذي تم تأجيله؛ لكن هل سيحدد ذلك مصيرهم حقًا؟ يبدو- من خلال أحاديثهم- أن الإجابة لا. تقول أصالة إنهم لن يفرطوا في بيوتهم؛ ليس لأنها مأواهم وذكرياتهم فحسب؛ بل إن المسألة أكبر من ذلك: "الحي هو بوابة البلدة القديمة، وإذا تم تهجيرنا وعمل مستوطنات راح يعملوا حلقة لكل القدس". أصبح حي الشيخ جراح رمزا لمقاومة جديدة، يتجلى فيها ما قاله محمود درويش يومًا: "ولنا الماضى هنا... ولنا صوت الحياة الأول... ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل ولنا الدنيا هنا والآخرة".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان