«الإعاقة ليست السبب» محمد وصالح.. حكاية صديقين التقيا صدفة على الكورنيش
كتابة وتصوير- عبدالله عويس:
على بعد أمتار من نهر النيل بالقاهرة، وقبل دقائق من أذان فجر إحدى ليالي رمضان، كان شابان يتحدثان سويا، يرتفع صوتهما بالضحك حينا، وبالنقاش الجاد أحيانا. انتهيا من تناول وجبة السحور سويا، وظلا أمام الكورنيش حتى مطلع الفجر، يجلس أحدهما على كرسي متحرك نتيجة ضمور في المخ، ويجلس الآخر على قطعة أسمنتية. وبينما يحسبهما المارون إخوة أو بينهما صلة قرابة، يقول الاثنان إنها علاقة محبة وصداقة خلقتها الصدفة منذ عام واحد.
منذ عام تقريبا، كان محمد صالح في ضيق من أمره، نتيجة مشكلات تعرض لها في عمله، وأخرى لعلاقات شخصية سببت له حزنا كبيرا، فاختار أن يجلس أمام صفحة النيل، وهناك أبصر الشاب أحد رواد الكورنيش، يحمل بين يديه الورد، ويمنحه للمارة، وهو يجلس على كرسي متحرك، ويتحدث بصعوبة كبيرة، فاختار أن يجلس معه لما تبقى من يومه، ويتعرف إليه بشكل أقرب، لتكون تلك اللحظات بداية صداقة امتدت فيما بعد إلى زيارات منزلية: «كنت في ضيق، وكان يبدو عليه الأمر ذاته، فأخبرته أن يجلس إلى جواري، ونحكي سويا وهو ما حدث» يحكي صالح، وهو يمسك بيده زجاجة مياه يسقي صديقه منها، إذ لا تساعده حركته على معاونة نفسه بشكل يسير.
«اكتشفت فيه الكثير من الأمور، هو معاق لكنه ألف كتابا عن الإعاقة، ومن صعيد مصر لكنه يعمل في القاهرة، كل هذه أمور حببتني فيه» قالها صالح، بينما كانت البسمة مرسومة على قسمات محمد عبد الباسط، بن قرية دير درنكة في محافظة أسيوط، وله 23 عاما، حاول فيها إكمال تعلميه غير مرة، لكنه لم ينجح في ذلك، فخرج من الدراسة وهو في الصف الثالث الابتدائي، لعدم قدرة أسرته على تحمل التنقل به، لما يمثله ذلك من تكلفة كبيرة، لكنه استطاع حفظ بعض سور القرآن، ويستطيع القراءة بشكل مقبول.
وعن كتابه الذي ألفه بعنوان «لا تقل عني معاق» والذي ساعده في كتابته بعض المقربين منه، يقول محمد إنه نتيجة للظروف التي مر بها، من فقر ومعاناة كبيرين نتيجة ولادته على هذا النحو، وعدم قدرته على السير أو الحركة بشكل طبيعي، وما مر به من تنمر وسخرية في بعض الأوقات. فيطرح في كتابه تساؤلات وأجوبة حول الإعاقة وطبيعتها، وكيف يتفاعل المعاقون مع المجتمع، ويتفاعل المجتمع معه. والكتاب في 47 صفحة، فيها بعض من حياته ورؤيته للعالم: «أعيش هنا في ميدان التحرير، هناك مصلى قريب أجلس فيه أكثر الوقت، وأبيع الورد والفل على الكورنيش بما يضمن لي لقمة عيشي».
يقول محمد في كتابه، تحت تساؤل «كيف نهتم بحب المعاق؟» إن مشاعره يجب أن تُرى، وأن يعطى ما فقده من حب واهتمام، ونعوضه عن كل ما فاته، ونرسم البسمة على وجهه، ولا نحكم عليه بسوء، فهو إنسان لديه قلب ومحب للخير، وعلينا أن نشعره بالحب والاهتمام لا النقص. وهي أمور يراها الشاب في صديقه.
وفي مصر يبلغ عدد المعاقين نحو 10.6% من إجمالي السكان، بدءا من 5 سنوات فأكثر، بحسب ما توضحه بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، طبقا لبيانات تعداد السكان الذي أجري في 2017، وتصل نسبتهم 17.2% في الفئة العمرية من 15 عاما إلى 29 سنة، مثل محمد. وتسرب أكثر المعاقين من التعليم بواقع 9.7% منهم، بينما تقع النسبة الأكبر لمن لم يتلحقوا بالتعليم أصلا، بواقع 60.8% منهم.
يعود صالح للحديث عن صديقه الجديد، والذي صار الأقرب له، ويعتبر أن ما بينهما محبة خالصة لا تقوم على مصلحة: «الوحيد الذي يحبني دون انتظار مصلحة، حينما نلتقي نتحدث في كل شيء، ونبوح لبعضنا بالأسرار» يحكي الشاب الذي يبيع الملابس بإحدى مناطق محافظة الجيزة، ويتجه لمحمد بشكل أسبوعي لقضاء بعض الأوقات معه، وفي هذا اليوم لم يكن الجلوس مخططا، لكن ما دونه محمد عبر صفحته الشخصية دفعت صديقه لزيارته: «كان قد كتب على صفحته أنه يمر بضيق كبير، وحزن عميق، فأخبرته أنني قادم إليه وتناولنا وجبة السحور معا، وننتظر سويا موعد الفجر لينصرف كل منا إلى مكانه».
تعمقت علاقة الصداقة بين الشابين، وتعددت الزيارات المنزلية، حتى أن والد بائع الملابس، اختار لمحمد مكانا يعيش فيه، ولحاجته إلى مرافق فقد شاركه شاب آخر، لكنه سرعان ما أظهر عدواة كبيرة، نتيجة تعاطيه المخدرات، فغادر محمد المكان. وقبل شهر كان صالح في زيارة لمحافظة أسيوط، ذهب فيها إلى منزل محمد ليشاركه فرحته بخطبة أخته، ولاقى ترحابا كبيرا من الأسرة، مما سمعوا عنه في حكايات ابنهم الذي ترك الصعيد واستقر في القاهرة: «محمد ذهب إلى دار رعاية بالقاهرة، لكنه شعر بالوحدة، فتركها ولم يبتعد عن الشارع منذ ذلك الوقت، ويرفض كذلك العودة إلى أسيوط، لأنه يشعر براحة كبيرة في القاهرة».
لدى محمد، مؤلف الكتاب، أسرة من أخوين وأختين، وأم تعمل ربة منزل، وأب يعمل في الحدادة بأحد مصانع حلوان، وبالكاد يكفيه مرتبه، وليس بإمكان محمد أن يسكن معه في نفس المكان، نظرا لمبيته في سكن عمال، ممتلئ عن آخره: «ظروف أسرتي صعبة، وأن أكره أن أكون عالة على أحد، فجئت للقاهرة، وأعمل في بيع بعض الأشياء على الكورنيش». يحكي الشاب وبعض الكلمات لا تكون واضحة فيفسرها صديقه، الذي صار يفهمه سريعا دون حاجة إلى طلب إعادة الكلام مرة أخرى، كما يفعل الكثيرون معه.
«لم أتقرب منه بدافع الشفقة، هذا عفريت يستطيع أن يفعل كل شيء، ويسافر أسيوط وحده، كل ما في الأمر أني وجدته صافي القلب فأحببته» يحكي صالح، والذي سبق له أن خاض علاقات كثيرة، فشل معظمها نتيجة ظروف مختلفة، لكنه يقول إنه لا يشعر بالصداقة الحقيقية إلا مع محمد الذي صار أقرب الناس له. فيبتسم محمد على وقع كلام صديقه، ثم يخبره أنه يحبه، لأنه لا يشعره بإعاقته، ولا يخجل منه في أي مكان، من تلك التي ذهبا فيها معها: «نتمشى كثيرا، نذهب إلى مطاعم وكافيهات ومقاهي بوسط البلد، وكثيرا ما أزوره في محله».
يصدر صوت من هاتف محمد، يدل على اقتراب أذان الفجر، فيسرع صديقه إلى حمل زجاجة مياه ويسقي صديقه مرة أخرى، ويسأله إن كان يرغب في أي شيء قبل الأذان. ثم يجلسان سويا حتى تطلع الشمس، ويتحركان سويا إلى مكان نوم محمد، والذي لا يبعد سوى أمتار قليلة عن الكورنيش، ثم يتحرك الآخر إلى منزله، وبينهما وعد باللقاء عما قريب.
فيديو قد يعجبك: