إعلان

بعد الموكب.. قصة "العملية الأخيرة" للمرممين الثلاثة مع المومياوات الملكية

08:53 م الإثنين 05 أبريل 2021

المرممين الثلاثة مع المومياوات الملكية

- مارينا ميلاد:

يرتفع باب حديدي؛ فيظهر وراءه ثلاثة أشخاص: رجل وسيدتان؛ يرتدون معاطف بيضاء وقفازات زرقاء ويلتفون حول مومياء. يصبون كامل تركيزهم عليها، وسط صمت يُطبق على كل شيء.

بينما كان العكس تمامًا في الطابق الذي يعلوهم؛ حيث يزحم الزائرون القاعة الرئيسية لمتحف الحضارة المصرية. جاءوا متلهفين إلى المتحف الجديد الذي نُقلت إليه 22 مومياء ملكية في موكب مهيب. لكنهم لم يجدوها ضمن المقتنيات المعروضة أمامهم، إنما كانت أسفلهم بين يدي هؤلاء الأشخاص.

فقد انتهت رحلة الـ22 ملكًا وملكة في هذا المكان وصار مثواها الأخير، لكن لم تنته رحلة الفريق الملازم لهم بعد. ما زالت هناك مرحلة أخيرة في مهمتهم مع المومياوات التي بدأت منذ 3 سنوات، وهي تجهيزها للعرض أمام هذا الجمهور.

في ردهة طويلة يقع على جوانبها مكاتب مُرممي متحف الحضارة ومديريه، يجر العمال ناقلات تشبه تلك الموجودة في المستشفيات، لكنها هنا تحمل صناديق تخص المومياوات الملكية في طريقها للتخزين بعد أن أدت دورها خلال موكب نقلهم باليوم السابق.

يسأل أحدهم عن فريق تجهيز المومياوات؛ فيدله واحد من مرممي المتحف أنهم في المخزن وينهيه عن الطرق على الباب أو مقاطعتهم: "هم الآن يقومون بعملية تشبه جراحة القلب وربما أصعب".

في هذه اللحظة، كان مصطفى إسماعيل، وولاء صلاح، وإيمان إبراهيم يُخرجون المومياء الأولى من "كبسولة النيتروجين" الموضوعة داخلها منذ خروجها من المتحف المصري؛ لتحفظها من التحلل والرطوبة، وهي فكرة مصطفى التي يقول "إنها الأولى من نوعها في العالم".

يحبس الثلاثة مرممين أنفاسهم وكأنهم يتعاملون مع المومياء لأول مرة، فلا مجال لأي خطأ حتى وإن بلغوا مرحلتهم الأخيرة. كما أنهم اختاروا البدء بواحدة "غير عادية"، وهي مومياء الملك رمسيس الثاني، التي عثر عليها عام ١٨٨١ في خبيئة الدير البحري بالأقصر.

بالنسبة لهم، فخصوصية هذه المومياء ليست في كونها تخص أشهر ملوك الدولة الحديثة الذي حكم لنحو سبعة وستين عامًا وحسب، إنما لأنها "ذات أبعاد مختلفة ومرتفعة اليدين، ما يجعلها الأكثر صعوبة وحاجة للوقت"– وفقًا لمصطفى، الذي ربما ارتبط بهذه المومياء أكثر من غيرها؛ فقد رافقها في تلك العربة المُزينة التي نقلتها من المتحف المصري بالتحرير إلى متحف الحضارة؛ ليتابعها أثناء الطريق حتى تصل بسلام إلى مُستقرها.

وفي الوقت الذي كان مصطفى في حضرة الملك رمسيس الثاني، توزع فريقه المكون من 5 أشخاص على عربات ملوك آخرين، ومنهم ولاء وإيمان المرممتان اللتان اختارهما مصطفى قبل ثلاث سنوات؛ ليبدأوا معًا رحلة شاقة لم يعلموا جميعًا إلى أين ستأخذهم.

صورة 2

تستقر تفاصيل السنوات الثلاث في رأسهم وكأنها حدثت اليوم.

يتذكر مصطفى حين كان يجلس في المكان نفسه وقد أكمل 6 سنوات عملًا في متحف مُفتتح جزئيًا. ولم يكن هناك شيء جديد يشغله سوى استكمال دراسته للمومياوات التي ظلت اهتمامه الأول منذ التحاقه بكلية الآثار، حتى جاءته اللحظة التي ربما تأتي مرة واحدة في العمر، اللحظة التي أثارت حماسه. عندما تم تكليفه بمعاينة 22 مومياء في المتحف المصري، لتُنقل إلى متحفه في افتتاح كبير سيكون بطله هذه المومياوات.

تشبث مصطفى بهذه الفرصة، وظل قرابة العام بمفرده يدرس حالة كل مومياء ويقرأ ويُجرب، ثم استعان بولاء وإيمان ليعاوناه: "لديهما مهارات كبيرة كما أنهما متخصصتان في المواد العضوية، وهو ما أحتاجه". وكلتاهما بدأتا عملهما في المتحف منذ 2013 بعد أن تقدمتا لمسابقة أُعلن عنها في جريدة الأهرام لطلب مرممين واجتازتا اختباراتها.

لكن لم تكن السيدتان بنفس حماس مصطفى. فتقول ولاء: "إنهما يعرفان المومياوات من خلال الكلية، لكنهما لم يلمساها من قبل". سيطر عليهما الخوف حتى كادت إيمان تعتذر عن المهمة لولا تشجيع الآخرين: "أقرأ القرآن قبل فتح المومياء.. الرهبة كبيرة جدًا".

تضحك إيمان حين تتذكر ذلك الآن وهي تقف وجهًا لوجهٍ مع مومياء رمسيس الثاني وقد أصبح أمرًا معتادًا؛ لدرجة أنها تُشبه زملاءها بالمومياوات؛ فتقول لأحدهم أن أنفه ربما تشبه أنف تحتمس الثالث.

فقد تغير الكثير في حياة الثلاثة بمرور الوقت؛ فأصبح زَوجا "ولاء وإيمان" وأبناؤهما أكثر تحملًا وصبرًا لغيابهما عن البيت وساعات عملهما الطويلة. وسار الأمر بنظام حاولوا جميعًا أن يتأقلموا عليه: تترك ولاء ابنيها مع والدتها، وتعتمد إيمان في ذلك على زوجها، الذي كان يأتي لها بابنهما الرضيع كل يوم خارج المتحف المصري؛ لترضعه، ثم تعود لتستكمل عملها: "لم أجد وقتًا للنوم وكنا أحيانًا نبيت في المتحف المصري؛ لأننا نعمل في الليل بعد انتهاء الزيارة.. وزوجي تحمل المسؤولية معي".

صورة 3

تنفس الثلاثة الصعداء بعدما أنهوا العملية الدقيقة التي يصفها مصطفى بـ:"التأهيل البيئي لمومياء رمسيس الثاني"، بينها وبين العالم الجديد المحيط بها.

لحظة الإنجاز التي شعروا بها بعدما مرت مومياء رمسيس من تحت أيديهم في حالة جيدة، لا تقل عن لحظات مماثلة لها مروا بها في "الغرفة 55" المخصصة لترميم المومياوات بالمتحف المصري، والتي لمسوا فيها المومياوات لأول مرة، وقضوا بها أيام عملهم خلال الثلاث سنوات؛ ينجزون أحيانًا ويباغتهم الوقت ويحبطون أحيانا أخرى.

في تلك الأيام، كانوا يعكفون على التحضير، خاصة وأن للمومياوات ترميمها المختلف عن أي آثر آخر -وفقًا لمنال الغنام، مديرة الترميم في متحف الحضارة- فمثلًا كان عليهم استخدام مواد طبيعية وليست كيميائية، قياس أبعاد المومياء والمحتوى الرطوبي، أخذ مسحات منها؛ للتأكد من عدم إصابتها ميكروبيولوجيًا، واكتشاف مناطق ضعفها لتُسند بوسائد قطنية، وتوضع على أسرة غير قابلة للاهتزاز .

كما أن أهم ما حدث بالغرفة 55؛ هو توطيد علاقتهم أكثر بالملوك والملكات الذين عرفوهم من الكتب في الماضي والآن صاروا أصدقاءهم؛ فتقول إيمان: "كنا نربط قصتهم بالملامح.. حتشبسوت ذات الملامح القوية، وتي الجميلة صاحبة الوجه الطفولي والشعر الطويل".

صورة 4 (2)

الخطوة المتبقية أمامهم الآن بعد فض النيتروجين من كبسولة مومياء رمسيس الثاني، هو وضعها في الحَضَّانة (وهي وحدة في المخزن تضخ النيتروجين)، ليبدأوا دراسة مناطق الاتزان وما إذا كانت بحاجة إلى تدعيم جديد؛ لتكون جاهزة للعرض بالمتحف.

فيما يفعلون ذلك، كانت أصداء الموكب الاستثنائي مستمرة في كل مكان، لكنها تصل إليهم خافتة؛ فلا وقت لديهم ليستمتعوا بها كما ينبغي. رغم ذلك؛ كانت سعادتهم كبيرة كلما تذكروا الليلة الماضية.

"وعندما تشرق تدفع الجميع للعمل من أجل الملك".. من صلاة إخناتون

في تلك الليلة التي ستظل محفورة في أذهانهم؛ كانوا جميعًا متأهبين. فلحظة خروج المومياوات من "الغرفة 55" إلى خارج باب المتحف المصري كانت مخيفة لمصطفى: "كنت أخشى اصطدامها أو عدم ترتيبها بشكل صحيح". لكنها تمت بنجاح، وقاد الملك سقنن رع موكب خروج الملوك والملكات من المتحف الذي قضوا فيه 100 عام بعد نقلهم من الأقصر.

صورة 5

"لابد أن يتقدم هذا الملك"؛ ترى ولاء ذلك، فهي تشعر بفخر كبير كلما وقفت أمام مومياء سقنن رع، فكانت تعرفه بأنه أحد ملوك الأسرة السابعة عشر وأول من كافح الهكسوس؛ لكنها تأكدت مما فعله عندما رأت مومياه: "كان عليها آثار الضربات في الصدر والجمجمة والطعنات المتفرقة.. يبدو أنه حارب لآخر نَفس".

رغم ذلك تمنت أن ترافق الملك سيتي الثاني، وهو خامس ملوك الأسرة التاسعة عشر، والذي عُثر على مومياه عام 1898 في مقبرة أمنحتب الثاني بوادي الملوك بالأقصر، وكانت ملامح وجهه ظاهرة جيدًا: "كنت أشعر في ملامحه بالهدوء والسكينة.. تمنيت أكون معه في العربة وتحققت أمنيتي".

وبينما يسير الموكب وسط أجواء احتفالية ومراسم فرعونية بميدان التحرير، كانت إيمان تبكي داخل عربة الملكة "تي" التي ترافقها: "لم أتمالك نفسي من شدة الفرحة.. أخيرًا وصلنا إلى هذه اللحظة".
ولم تنقطع الاتصالات بينها وولاء ومصطفى؛ ليبلغوا بعضهما بوضع كل ملك.

بعد حوالي 40 دقيقة؛ وصل الموكب إلى متحف الحضارة المصرية. نُقلت المومياوات بواسطة رافعة إلى منطقة الفحص، وكانت منال الغنام، مديرة الترميم، في انتظار الملوك: "شعرت أننا أنجزنا مهمة قومية".

كان يمكن أن تذهب المومياوات إلى منطقة الإسعافات أو الحجر والتعقيم بعد الفحص إن وجد بها إصابة أو تلف، لكن لم يحدث ذلك معهم، فتقول الغنام: "جميعهم حفظوا بأمان".

عاد مصطفى وولاء وإيمان إلى بيوتهم عند الثالثة صباحًا تقريبًا، ورغم إرهاقهم، جلسوا ليشاهدوا الموكب في التليفزيون عند إعادته. تقول إيمان: "كنا داخله، لكننا لم نرَ منه شيئًا"، فيما لم تتمكن ولاء من النوم من شدة الفرحة، ولترد على سيل الرسائل والتعليقات التي وصلتها.

صورة 6

بعد أكثر من ساعة ونصف الساعة مع مومياء رمسيس الثاني؛ خرج مصطفى وولاء وإيمان من المخزن، وعلى وجوههم علامات الراحة تجاه ما أنجزوه الآن وفي ليلة الموكب، لكنها تختفي قليلا وراء إرهاقهم الشديد: "لم ننم لثلاثة أيام تقريبًا".

لقد بدأ الثلاثة عملهم في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي للموكب، بعدما هاتفتهم منال الغنام؛ لتطلب منهم أن يأتوا ويبدأوا عملهم في إخراج المومياوات؛ لأنه وفقًا للخطة الموضوعة؛ "عليهم أن ينهوا العمل على مومياوين في اليوم على الأقل"؛ لتكون جاهزة للعرض في المكان المعد لها بالمتحف يوم 18 إبريل المقبل.

ليس في الأمر أي لعنة أو معاناة، فإنهم يحفظون أجساد الملوك كما أرادوا لها ولأرواحهم التي ظنوا أنها ستعود إليها يومًا. يا له من مجد!، في نظر مصطفى وولاء وإيمان. فكلما استنفد الملوك طاقتهم ووقتهم وخبرتهم، كلما أعطوهم أسرارًا جديدة من الماضي: "ما زلنا نكتشف أمورًا عن تحنيطهم المُختلف من مومياء لأخرى.. نأتي بالمواد ونسير بنفس طريقتهم". تقول إيمان، التي شعرت مع هذا الحدث لأول مرة أن عملهم بات معروفا: "دائمًا كنا وراء الكواليس لا يعرفنا أحد.. لكن منذ لحظة الموكب تغير كل شيء.. والآن ننتظر عرض عملنا بالمتحف أمام الجميع".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان