ليست مجرد لعبة (8)- بيليه.. الابن البارّ (بروفايل)
كتب- محمد زكريا:
كانت لحظة قاسية على كل البرازيليين. تلك التي شهِدها الطفل من أعلى سقف فَتح فيه الفقر نافذة بحجم كرة. البرازيل تخسر كأس العالم نسخة العام 1950، في ريو دي جانيرو. وبحضور 200 ألف متفرج. الجمهور يُقدم على الانتحار، يلقون بأنفسهم من الصفوف العليا من ملعب ماراكانا.
داخل دكان متهالك يتوسطه مذياع ينازع لالتقاط إشارته، في بلدية تريس كاراكوس، ظل الأب "أرانتيس" يبكي بحرقة. جسد الصغير معلق بالسقف، فيما قلبه موجوع على والده. تسيل الدموع من عينيه، بينما يمسحها بأكمام متسخة.
قبل أن يلتقى ذو الـ10 سنوات بأبيه الخارج لتوه من الدكان، نظر "إدسون" إلى أبيه الباكي ونطق في ثقة: "سأفوز بكأس العالم يا أبي. أعدك بذلك".
كان "بيليه" طفلا بارّا لأبيه، لـ"الجينغا" ولبلده البرازيل. فاز بكأس العالم 3 مرات والقصة طويلة.
كان الـ23 من أكتوبر عام 1940 إيذانا بميلاد القصة.
في بلدية تريس كاراكوس بميناس جيرايس البرازيلي، صرخ "إدسون أرانتيس دو ناسيمينتو" صرخته الأولى في هذا العالم، وسط أناس يغوصون عميقا في الفقر والعنصرية، وبين أحضان أسرة يعمل ربها في تنظيف المراحيض، وتساعده الزوجة بالخدمة في البيوت.
منذ الولادة عانى ذو البشرة السمراء من العنصرية، فيما أجبره الفقر على العمل في طفولته كماسح أحذية. تمسك بحلم أن يصبح لاعبا في منتخب البرازيل، بينما أرادت الأم أن تؤمن مستقبله فأبعدته عن الكرة، لماذا؟ خوفا من أن يلحق بمصير والده، "كان حلمي أن أكون مثل أبي.. اعتقدت أنه أفضل لاعب في العالم" قال "بيليه"، قبل أن يُبعد "أفضل لاعب في العالم" عنها بفعل "الجينغا"!
"إن كنت ذكيا يا إدسون استمع إلى والدتك، ركز على المدرسة، وابتعد عن كرة القدم كأنها مرض الطاعون" قال والده ذلك وعيناه تنظر خجلا.
لكن كان على الأم أن تتخذ خطوات أكثر حسما، فشددت في حرمانه من اللعب مع الأطفال في الشارع، ومنعه من متابعة مباريات كرة القدم. اصطحبته إلى ذاك المنزل الذي عملت فيه خادمة لصالح عائلة بيضاء ثرية، ليساعدها في خدمتهم المتكلفة، ولينسى كرة الجلد المستديرة.
لكن بقدر ما تكون الظروف قاسية يكون القدر رحيما يا "بيليه".
داخل مطبخ المنزل الفخم، ظل "إدسون" منهمكا في تنظيف الأرضية، لحظة أن دخل عليه صاحب المنزل مع أصدقائه، وكان مراهقا لم يكمل من العمر 18 عاما، قبل أن يوقف عمله ترديد الأصدقاء لأخبار حضور "مكتشف المواهب" إلى ريو دي جانيرو، للاختيار من بين هواة كرة القدم للاحتراف في صفوف نادي سانتوس البرازيلي، وحيثما انطلق كل شاب ينسب أسلوب لعبه لنجم كرة قدم شهير، تداخل "إدسون" مع أحاديثهم ونطق في براءة طفل حالم: "سأكون مثل بيلي- حارس مرمى سابق لنادي فاسكو دا غاما"، الأمر الذي لفتهم إليه، وكان لا يزال مفترشا الأرض مع الماء والصابون، ودفعهم للاستهزاء وإطلاق الضحكات في وجه نطقه وأمنياته، قبل أن يركل تلك الأمنيات صاحب المنزل بشوط الكرة تجاهها وتجاهه، عسى أن يغرقها جردل الماء بالصابون كما نجح مع ملابسه.
نُعت الطفل بـ"بيليه"، كان الاسم بالنسبة لـ"إدسون" سبة كبيرة، لطالما ذكره بالفقر والعنصرية والدونية، ودعاه إلى شجارات متكررة مع هؤلاء المتنمرين، كان أحدهم مع صاحب مطبخ المنزل الفخم، ألا زلت تتذكره؟ لكن لولا دعم والده لتغير كل شيء، كان "إدسون" محظوظا بأبيه، كما عبر دائما، وكان هو بارا لذلك الأب كما سيبدو لك لاحقا.
نظر "أرانتيس" في عين طفله في يوم من الأيام ونصحه بنبرة هادئة: "الشجارات تنم عن عدم الثقة بالنفس، فإذا أردت أن تكون لاعبا محترفا فلا تخجل مما أنت عليه".
ظل الطفل ممتنا لـ"جدعنة" والده معه على الدوام، وعدم إفصاحه لزوجته في البيت عن شجاراته المتكررة، وخصوصا أنها دارت جميعها في فلك كرة القدم وحلم اللعب للبرازيل، والأخير كان أكثر ما يثير رعب الأم على مستقبل طفلها. انتظر لترَ.
عندما كانت الاختبارات على الأبواب، كان "إدسون" حافي القدمين، لا يملك ثمن شراء حلوى، فما بالك بحذاء رياضي. اقترح على أصدقائه خطة لتوفيره، سرقوا الفول السوداني من الباعة، وباعوه في الأسواق، ليكون على موعد مع الحلم المنتظر.
كان "مكتشف المواهب" فرصة الطفل لبلوغ مراده، لا أتحدث هنا عن تبيان مهاراته الكروية أمام المتفرجين في الحي، كان هذا أمرا ثانويا بالنظر لما هو أبعد وأعمق وأعقد، لكن عن إثبات قدرته كإنسان أمام هؤلاء البيض الأثرياء البغضاء.
لكنك إذا أردت أن تقدم أفضل ما لديك يا "بيليه"، تحرر من تلك القيود التي تكبلك.. ولنعود إلى الحكاية.
يوم الاختبارات كان على "إدسون" أن يظهر أفضل ما لديه. ارتدى وزملاؤه القمصان المهلهلة والأحذية التالفة كبيرة المقاسات، ونزلوا إلى أرض الملعب، ليحييهم معلق اللقاء بـ"حفاة الأقدام" تحت قيادة "بيليه"، ويكونون على موعد مع الالتقاء بفريق من الأثرياء البيض، بقمصان مهندمة وأحذية غالية كانوا المنافسين، والجميع تحت نظر مكتشف المواهب فالديمار دو بريتو.
اللقاء لم يكن عاديا أبدا على أي حال. تقدم الأثرياء بستة أهداف مقابل لا شيء، قبل أن يحضر والد "إدسون" في الوقت المناسب ويتغير بعدها كل شيء.
رمى "حفاة الأقدام" أحذيتهم خارج الملعب، ولعبوا تلك الكرة التي أحبوها واحترفوها في الشوارع، لعبوا "الجينغا"، وهو أسلوب برازيلي، ينتصر للفردية على حساب الجماعية، ويستلزم مهارات استثنائية في التعامل مع الكرة.
أظهر فريق "بيليه" بالفعل مهارات فريدة في اللقاء. أبهروا الجميع، بمن فيهم مكتشف المواهب المخضرم، ورغم خسارتهم المباراة بـ6 أهداف مقابل 5، كانت الهتافات كلها من نصيب "بيليه"، وتذكرة العبور لنادي سانتوس أيضا.
حادثة أليمة كادت أن تُعطل المسير، وهي وفاة واحد من فريق "إدسون" واسمه "تياغو"، والسبب: مطاردة بائعي الفول السوداني المسروقين لهم، "لو لم أقل إننا نحتاج إلى الأحذية الرياضية ما كان تياغو ليفارق الحياة، أنا المذنب في ذلك يا أمي. أنا قتلته" قال الطفل.
بكى "إدسون" صديقه لأيام طويلة، توارى كارت التواصل مع مكتشف المواهب في خلفية المشهد، وتصدره الحزن والصمت والاكتئاب. امتنع عن لعب كرة القدم في الشارع، وهجر كل ما يخصها. قال إن عليه التركيز في الدراسة قبل كل شيء ومساعدة والده في تنظيف مراحيض العيادة، وشرع في التنفيذ.
لم يكن سهلا تخطي وفاة الصديق. كان الذنب غصّة في أحشاء الطفل كل لحظة. وكان والده كالعادة المنقذ في الوقت المناسب: "حين كنت صغيرا، كان لدي شجرة مانجو كهذه، علمت نفسي كيف أتمرن مع الثمرة، الخضراء للرمي واليانعة للبراعة".
لقد فهم "إدسون". تمرن بالمانجو في الأحراش، وكان والده مدربه. المانجو الكرة وصندوق القمامة هو المرمى. قال له الأب: "افعل ما تشعر به تلقائيا، لا تبذل مجهودا كبيرا، تمتع بوقتك فحسب"، قبل أن تتواصل والدته مع مكتشف اللاعبين وتبدي موافقة الأسرة على تجربة أداء لـ"سانتوس".
كان هذا داعيا إلى توتر "بيليه". احتضن والدته وشكرها، بينما عبّر عن ضعف قدرته على التحدي هذا، لكن والديه صمموا على أنه الأقدر من بين الجميع للمهمة. استلفوا الأموال من جيرانهم لنصرته. اشترى الأب له الملابس وصنعت الأم له الكيك، وقالا له: "اجعلنا فخورين بك"، وقبل أن ينطلق من منزله باتجاه النادي، قال "إدسون" لأخته الصغيرة، وكان لا يزال بعمر 15 عاما، ولم يبت خارج المنزل قط: "يجب أن نكون أقوياء لأجلهما".
أي موهبة تطاردها الصعوبات. العادي يقيم غير العادي بادئ ذي بدء، في البرازيل كما في مصر كما في كل مكان، فليس سهلا الخروج عن الإطار أو المألوف في هذا العالم. "لا تمتلك الكرة كثيرا يا بيليه"، "لا تكن أنانيا هكذا"، "إياك والجينغا"، "التزم بكلمات المدرب"، "الفردية تعني العشوائية" و"التلقائية تعني الخسارة"، "لابد من مواكبة كرة الأوروبيين"، "لا نريد أن نكرر كارثة العام 1950"، كان كلام مدربيه يعاكس ما سمعه من والده قبل بدء الرحلة، لكنه أعاده إلى مخاوف والدته عليه من مشقتها.
كانت بدايته داخل نادي سانتوس بالعام 1956 غير مشجعة. ظل "بيليه" محبطا لأيام، يقول زملاؤه إنه لا يستحق اللعب ضمن صفوفهم، بينما هو في الليل يبكي وحيدا. لم يتحمل كل هذا الضغط طويلا.
حمل شنطته وغادر النادي في ليلة حلكاء، ليتبعه مكتشف المواهب فالديمار دو بريتو إلى محطة السكة الحديد، ويدور بينهما حوار أنقله عن فيلم السيرة الذاتية: "بيليه.. ولادة الأسطورة"، من تأليف وإخراج الأخوين البرازيليين جيف ومايكل زيمباليست.
- فالديمار دو بريتو:
ماذا تفعل هنا يا "بيليه"؟
- إدسون:
أنا فاشل، لا أجيد اللعب مثل الآخرين، وإن لم أعد إلى المدرسة الآن، سأنتهي بتنظيف المراحيض.
- فالديمار دو بريتو:
بدأ كل شيء في بداية القرن الـ16، عندما وصل البرتغاليون إلى البرازيل مع عبيد أفريقيين، لكن الأفريقيين كانوا يتحلون بإرادة صلبة رغما عن العبودية، هرب الكثير منهم إلى الأدغال، ولحماية أنفسهم أجادوا "الجينغا"، وهي أساس "الكابويرا"- فن من الفنون القتالية البرازيلية، لكن حين تم إلغاء العبودية بشكل نهائي وخرج "الكابويريون" من الأدغال، اكتشفوا أن "الكابويرا" منعت في جميع أنحاء البلاد، فوجدوا في كرة القدم الطريقة المثالية لممارسة "الجينغا" المتأصلة فيهم دون التعرض للتوقيف، وبعد فترة وجيزة تطورت "الجينغا" وتكيفت، حتى أصبحت غير محصورة بنا ذوي الأصول الأفريقية، بل إنه إيقاع داخل جميع البرازيليين، لكن في كأس العالم 1950 ظن كثيرون أن فشلنا كان ناتجا عن "الجينغا"، وانقلبوا على كل شيء له علاقة بإرثنا الأفريقي، وكما حاول مدربك إلغاء "الجينغا" من لعبك، نحن حاولنا إلغاءها من أنفسنا كشعب من تلك الحقبة، لكن "الجينغا" قوية جدا لديك يا "إدسون"، لذا عليك إظهار من أنت فعليا، أو تغادر هذا المكان بهذا القطار.
بدأ "إدسون" مسيرته الاحترافية مع نادي سانتوس. تألق كما لو كان غير عاديٍّ أبدا. غيّر نظرة المدرب عن أسلوب لعب الكرة وعن لاعبيها. تخيل أن يطلب منك المدير الفني أن تكون أنانيا، أن تراوغ لاعبا بشكل ممتع فيطلب منك أن تفعلها مجددا مع آخر. كان الأمر جنونيا حقا للاعب لم يكمل من العمر 15 عاما.
ذاع صيت "بيليه" بين فرق البرازيل وشعبها المجنون بالكرة، وتوقع الرياضيون أن يكون اللاعب الأفضل في العالم بهذه السن الصغيرة.
اشترى "إدسون" راديو صغيرا لوالده، واستمعا سويا إلى إعلان قائمة لاعبي منتخب البرازيل لكأس العالم 1958، لم يتوقع "أرانتيس" أن يُختار ابنه في تشكيلة المنتخب القومي وقتها، ولم يخطر ببال ابن الـ16 عاما أن الأمر نفسه جائز في الوقت الحالي، لكن هذا ما حدث بالفعل، وأذاعه الراديو على مسامع الشعب البرازيلي، لتسير رعشة في جسد "إدسون" معها اعتقدت والدته أن ابنها أصابه المرض، لكن ابنها كانت تُثيره النشوة. لحظة لم ينسها رغم فوات العقود كما صرح في أكثر مناسبة، وهي نفسها التي تملكت أباه لحظتها وعلى مدار سنوات طويلة.
أحضر له الأب وقتها قميصا مكتوبا على ظهره اسم "بيليه"، وطلب منه أن يرتديه مع منتخب البرازيل في كأس العالم، وهو ما أثار استغراب الصغير ودفعه للتساؤل والاستنكار: "كيف لي يا أبي أن أحمل اسما يستخدمه الآخرون للحط من شأني؟"، ليرد الأب: "هذا هو الاسم الذي أطلقه عليك الناس حين أدركوا أنك تمتلك شيئا لا يمتلكونه، حين رأوك تلعب الجينغا ولا تشعر بالشك والخجل مثلما شعرت بهما سابقا وانتهت مسيرتي مع الكرة، تستطيع الآن فعل ما لم أقو على فعله يا بيليه، تستطيع الآن تغيير كل شيء".
لكن ليس بهذه البساطة يا "أرانتيس"!
داخل معسكر منتخب البرازيل، استدعى المدير الفني لاعبه الأصغر بين صفوف الفريق. قال المدرب لـ"بيليه" وعلى وجهه علامات الحسم والغضب: "البرازيل في مفترق طرق، إما ندخل في التاريخ كأشخاص همجيين، أو نجد أنفسنا في صفوف الأشخاص المتحضرين.. هذه هي الكلمات التي وجهها لي الرئيس ذلك الصباح، ووعدته بأن هذا الفريق خلافا للفرق السابقة، لن يلحق العار بنا ولا بالبرازيل"، قبل أن يستكمل المدرب بصوت أعلى، أرهب من كان عمره وقتها 16 عاما: "الآن أنت تمثل البرازيل، ولابد أن تعرف أن أسلوب الجينغا الذي نجح في سانتوس لن ينجح على الصعيد العالمي". كما نقل الأخوان جيف ومايكل زيمباليست عن الأسطورة البرازيلية في فيلم: "بيليه: مولد أسطورة".
لكن إن كان الأمر كذلك ربما تسأل أنت، لماذا اُختير "بيليه" لتمثيل المنتخب البرازيلي؟ بعد كارثة العام 1950 كان لابد من إجراء تغييرات عميقة في بنية المنتخب البرازيلي، فكان التوجه نحو إدخال لاعبيين غير تقليديين، ولم يكن أنسب من "بيليه" لتلك المهمة أمام الرأي العام، لكن ظهر البرازيل سيئا جدا في التدريبات السابقة على كأس العالم 1958، وكان في رأي "بيليه": "إننا سيئون لأننا لا نلعب بالطريقة التي نعرفها ونتقنها، والتي هي أكثر ما يمثلنا ويعبر عنا كبرازيليين".
في السويد انطلق كأس العالم نسخة العام 1958، ولم يكن فاز به أي فريق من خارج أوروبا على أرضها. المنتخب البرازيلي في حالة سيئة. كان محظوظا فقط بالصعود إلى كأس العالم. و"بيليه" لم يكن غادر البرازيل قبلا: "عندما ولدت لم أكن أعلم بوجود دول أخرى"، أعتقد أن اسم بلده ذائع الصيت في أوروبا، لكنه لم يكن كذلك أبدا، كان الأطفال السويديون يلمسون وجهه كلما رأوه، بينما هو يسأل نفسه: لماذا يلمسونني؟ ووجد الإجابة: "كان الأطفال ينظرون إلى أيديهم ليروا ما إن كانت صبغة سوداء انتقلت إليهم. ما كانوا قد رأوا رجلا أسمر البشرة من قبل"، بينما في المدرجات يهتف الأوروبيون بعنصرية ضد الأمريكيين الجنوبيين، ولسوء الحظ أو لحسنه، كان على البرازيل أن يُشرك أصغر لاعبيه في مباراته أمام الاتحاد السوفيتي، بعد تعرض أغلب لاعبيه للإصابات الشديدة.
كانت تلك المباراة أولى مشاركات "إدسون" في كأس العالم. لعب وهو مصاب بالركبة، فقط بنصيحة عدم لعب "الجينغا"، حتى لا يتعرض للضرب وتتفاقم إصابته، ويبتعد عن البطولة لنهايتها، وكان هذا أكثر ما يُرعب صاحب الـ17 عاما.
نفذ المراهق نصائح الطبيب بالحرف الواحد، لكنه كان تائها يتعرض للضرب من المنافسين في الملعب، ليكون على موعد مع لعب المباراة التالية، وكانت أمام فرنسا.
قدماه تحسنت كثيرا، وكلمات والده حاضرة في المشهد. ما باليد حيلة الآن. قفز المراهق على تعليمات المدير الفني. كسر صرامته. استلم الكرة، راوغ.. هدف. أحرز "بيليه" 3 أهداف مذهلة في شباك فرنسا، وفي 20 دقيقة فقط، تخيل! ليكون على موعد أسطوري مع نهائي كأس العالم.
في المؤتمر الصحفي الذي سبق النهائي، وصف المدير الفني للسويد لاعبي البرازيل بالمعاقين، وذكّرهم بعشوائيتهم في كأس العالم 1950، عام "الإخفاق القومي الذريع" في البرازيل، هذا الذي ابتدع له الكاتب المسرحي البرازيلي الشهير "نيلسون رودريغوس" عبارة: "عقدة مونغريل"، و"مونغريل" اسم إحدى سلالات كلاب الشوارع، وكان يعني ويقصد أن "الآخرون رائعون ونحن بلا قيمة"، داس مدرب السويد على "عقدة مونغريل" إذا، وقال إنها مستمرة إلى الآن، إلى تلك النسخة الجديدة من كأس العالم 1958، قبل أن يوجه سهامه الحادة تجاه "بيليه"، مقللا من أهمية أهدافه في المباراة السابقة، وقائلا باستحالة تكرارها أمام فريق بقوة السويد، فاللعب الخشن كان كفيلا في رأيه بإخراجه من المباراة. كانت الكلمات قاسية على لاعب لم يكمل من العمر 18 عاما.
هاتف والده بصوت محبط، ليلقى منه نفس الدعم الذي صنع مسيرته كما عبر دائما: "ثق بنفسك، دقت ساعة بيليه الآن. وثقت بنفسك ضد فرنسا وفزتم بالمباراة، جاء دورك الآن لتلهم فريقك كي يثقوا بأنفسهم وبالبرازيل وبالجينغا". كأن "إدسون" كان بحاجة لأن يُشحن بمثل تلك الكلمات.
اجتمع بزملائه في الفريق، وهو الأصغر سنا بينهم، ليحثهم على الاستمتاع لا أكثر من ذلك.
كان حماسه كفيلا برضوخ المدرب لفلسفته، وعن قناعة تامة تلك المرة، جمع المدرب لاعبيه وقال لهم كما حكى "بيليه" فيما بعد: "أظهروا مهاراتكم فقط لا غير، يقال إننا لا نلعب جميعا بالطريقة نفسها، كما أننا لا نشبه بعضنا، لكن هذا الفرق هو ما يجعلنا كما نحن، نحن نمتلك قاسما مشتركا، الجينغا، لذا عندما تنزلوا إلى الملعب أريد أن أرى البرازيل. لا أعرف إن كنا سنفوز بالمباراة أم لا، لكنني متأكد من أننا سنقدم لهم مباراة جميلة".
داخل دكان متواضع مزدحم عن آخره، جلس "أرانتيس" مشدوها إلى تلفاز صغير. كانت المباراة لا تزال في دقائقها الأولى عندما أحرز السويد هدف التقدم في المباراة، ليأتي الدور التاريخي على "بيليه" وزملائه المتعطشين للفوز. أحرز الصغير هدفين رائعين، وانتهت المباراة بالفوز 5، وحصول البرازيل على كأس العالم لأول مرة في تاريخة، إنجاز أكسب الأمريكي الجنوبي احترام العالم، ومن قلب أوروبا، حتى ملك وملكة السويد وقفوا لحظتها تصفيقا لهذا الغريب، أما في شوارع البرازيل دوى الرقص في كل مكان. جرت الأم إلى الدكان المتواضع واحتضنت الأب وبكيا، وفي نفس اللحظة أصيب "إدسون" بالإغماء على أرض الملعب، وعنها يقول: "حين فتحت عيني شعرت بأنني أحلم، كان قد انقضى 18 شهرا فقط على مغادرتي المنزل، لكن شعرت بأنهم سنوات".
وحينما التقى الصغير بأبويه: "ذكرني أبي بالوعد الذي قطعته قبل 8 سنوات، لكنني لن أنسَ أبدا 1958، العام الذي أصبحت فيه بيليه".
كان لكأس العالم 1958، وأقدام "بيليه" السحرية الفضل لأن تصبح "الجينغا" أسلوب اللعب الأشهر في العالم، ذاع صيتها كالنار في الهشيم، أصبحت علامة تميز البرازيل في كل مكان، وتكسبها احترام شعوب أوروبا والعالم كله.
حل الطفل "عقدة مونغريل"، دون حتى أن يعي نفسه القيمة وراء إنجازه هذا، عندما سُئل: أتعتقد أنك أفضل لاعب في العالم منذ عام 1958؟ أجاب: "لم أؤمن قط بوجود أفضل لاعب في العالم.. لتكون أفضل لاعب في العالم، عليك أن تكون أفضل لاعب في كل مركز، وذلك سيكون صعبا"، لكنه أصبح رمزا مضيئا عالميا لتحرير البرازيل، شهرته وصلت حد تهديده باختطافه واغتياله، ليعلن رئيسها في العام 1961 أن "بيليه" أصبح كنزا وطنيا، كانت تلك إحدى أفضل الفترات في تاريخ البرازيل، أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات ولدت كدولة حديثة، بوصف رئيسها فيرناندو أنريك كاردوسو (1995-2003)، لم تعد محض دولة مصدرة للمنتجات الزراعية، بل دولة صناعية ذات كفاءة وثقافة، دولة وثقت بنفسها ونجحت.
ولم يكن "بيليه" غير بطل لتلك الرواية، قبل حتى أن تتمدد أسطورته ويكشف عن كل أسراره، أحرز كأس العالم عامي 1962 و1970، ولا يزال اللاعب الوحيد في التاريخ الذي أحرز كأس العالم 3 مرات.
لم يعد مجرد لاعب كرة قدم بل مؤسسة وطنية، من أين أنت؟ من البرازيل، بلد "بيليه"؟
كان نجما لامعا في السماء السوداء لحياة البرازيل.
لقد بقي رمزا لأن تصبح دولة أكثر عدلا وسعادة.
المصادر:
*فيلم السيرة الذاتية: "بيليه.. ولادة الأسطورة"
*فيلم وثائقي على شبكة نتفليكس بعنوان: "بيليه"
*لقاءات تلفزيونية ومقابلات صحفية وتقارير وأخبار
فيديو قد يعجبك: