بُترت ساقاه في الطفولة.. كيف صالحت كرة القدم «محمد» على العالم؟
كتب- عبدالله عويس:
يدفع نفسه للأعلى. يستلم الكرة. يمررها من بين أقدام منافسيه، وينطلق مسرعًا لا يجاريه أحد. يراوغ بمهارة، وعيناه على كل زاوية في الملعب. يتحين الفرصة المناسبة؛ ليحرز هدفًا حاسمًا لفريقه، باستقرار الكرة في شباك الفريق المنافس. يطلق الحكم صافرته معلنًا الهدف، لكن هدفًا أكبر يتحقق في قرارة محمد محمود، كلما لمس الكرة ومسته بالجنون. فبعدما فقد ساقيه في طفولته، خلقت له كرة القدم حياة جديدة، لكنها هذه المرة ليست بالقواعد المعتادة، إذ يلعبها ذو الـ16 عامًا بيديه.
«كرة القدم صالحتني على العالم.. أخرجتني من عزلة المنزل، دفعتني لاكتشاف نفسي من جديد»، بهذه الكلمات يتحدث محمد عن كرة القدم، التي ما إن يلامسها بيديه حتى يشعر أنه في عالم آخر، لا وجود للكرسي المتحرك فيه، ويتساوى مع الآخرين في فرص اللعب، كتفا بكتف، وركلة بركلة، وهدفا بآخر. تنسيه همومه وآلامه، وتدفعه إلى انتظار الغد، ذلك الذي كان يخشاه قبل لعب كرة القدم، لكنها أعطته الجرأة لاكتشاف نفسه أولا والعالم المحيط به بعد ذلك، ليقرر بينه وبين نفسه، أن الإعاقة لن تمنعه من الاستمتاع بالحياة، وأنه سينتصر عليها بما أوتي من ثقة.
«لم أكن أدرك ما الذي يحدث، كل ما أتذكره أنني استيقظت من النوم فلم أجد شيئا أسفل الفخذ، وكل ما فعلته البكاء» يصف محمد اللحظات التي أعقبت بتر ساقيه من فوق الركبة، وهو في الرابعة من عمره، إثر إصابته بالغرغرينة في كلتيهما. وتتغير ملامح حياته بشكل كبير بعد تلك العملية الجراحية التي خضع لها. اختفت شقاوة الطفل الصغير، لم يعد بإمكانه النزول إلى الشارع بشكل كبير، ولكل خطوة حسابها، ولكل مشوار همه الثقيل، وصار له كرسي متحرك يرافقه أينما ذهب، ومرافق يدفع له الكرسي، قد يكون أباه أو أمه، لتظلم الدنيا سريعا في وجه الطفل، قبل أن تمنحه وميضا، ويحمل بنفسه مشعل أمل، قاده للتحرك في تلك الظلمات: «حين أدركت أنني فقدت ساقي إلى الأبد، أصابني يأس كبير، لكن الاستسلام له لم يكن من شيمي».
في حي العوايد، بمحافظة الإسكندرية، شمالي مصر، أنجب محمود عبدالعاطي ولده الأول. اختار الوالد الذي يعمل مدرسا للغة الإنجليزية أن يطلق على ولده اسم محمد، وكانت فرحة الأب والأم كبيرة بالطفل، الذي كان يكتسب مهارات بسيطة، شأنه شأن كل الأطفال، تعلم الحبو، والنطق، والمشي، ثم الجري واللعب بشقاوة كبيرة، كانت تحول سكون المنزل إلى صخب كبير محبب للأب والأم، ولم يكن بمخيلة أحدهما أن مصير ساقي ابنهما ستكون البتر: «كان خوفهما على كبيرًا، لكنهما كانا يعطياني الحماس لفعل أي شيء مهما بدا ذلك صعبًا أو حتى مستحيلا».
صار على «محمد» الخروج لمواجهة العالم، كبر الصغير والتحق بمدرسة ابتدائية، تقع على بعد أمتار قليلة من منزله، ولم تكن تلك المدرسة هي التي يهوى دخولها، إذ كانت رغبته أن يدرس في الأزهر الشريف، ولما كان المعهد بعيدًا عن المنزل، رأت الأسرة أن يلتحق بالمدارس الحكومية لقربها من البيت، وهو ما سيسهل عليهم نقل محمد من وإلى المدرسة: «كانت والدتي تذهب معي كل صباح للمدرسة، ثم تعود لأخذي إلى المنزل، كان الناس ينظرون إلى نظرات غريبة، لكنني لم أبال».
منذ التحق محمد بمجمع مدارس البكاتوشي في الإسكندرية، وإدارة المدراس تخصص له ولبقية زملائه فصلا يقع في الطابق الأرضي، تيسيرًا عليه، في المراحل التعليمية المختلفة، الابتدائية، ثم الإعدادية، والثانوية حاليًّا. أظهر الطالب تميزًا في دراسته، وكان أساتذته يثنون على تفوقه ورجاحة عقله، ويشجعونه على استكمال التعليم مهما كلف الأمر من مشقة وتعب: «كان طبيعيًّا أن أكون متفوقًا، أجلس في المنزل أكثر الوقت، بين جهاز الكمبيوتر، والكتب، وحل المسائل الرياضية، رفقة والدي الذي كان يذاكر لي كل المواد» يحكي محمد، الذي بدأ في تكوين علاقة صداقة مع طلاب آخرين بمدرسته في المرحلة الابتدائية، ليكون له رفاق آخرون غير الذين اعتادهم لسنوات طويلة من الأقارب والجيران وزوار المسجد الذي يقع على بعد أمتار من منزله.
محمد جابر، محمود أسامة، محمد السيد، محمد خالد، أربعة أصدقاء مقربون من محمد عرفهم في المرحلة الابتدائية، وصارت بينه وبينهم محبة كبيرة. جمعهم في البداية إذاعة المدرسة، حين كان محمد يلقي الشعر والحكم والمواعظ، وتطورت العلاقة بينهم، حتى صار الخمسة أصدقاء يخرجون سويا وبعيدا عن محيط المدرسة، للممارسة ألعاب الفيديو، وصاروا يزورونه كثيرا ويزورهم أيضا في منازلهم: «لأصدقائي الأربعة فضل كبير علي بعد الله وأسرتي، لولاهم لما كان هذا حالي، وما كنت لألعب الكرة، أو حتى أستسيغ الخروج من المنزل».
«الصف السادس الابتدائي، كان رحلة تحول كبيرة في حياتي، لعبت كرة القدم لأول مرة، وهذا الشعور الذي منحته إياي لا يمكنني نسيانه ما حييت، كنت أشعر أنني أحلق في السماء» قالها محمد، الذي بدأ لعب كرة القدم بالمصادفة في دورة رمضانية للكرة بمنطقته، وكان رفاقه يلعبون حينها وأخبرهم على استحياء أنه يود لو جرب ذلك الشعور، وكانت تلك المباراة هي الأجمل له على الإطلاق والأكثر إمتاعا، وألما كذلك: «كان الألم في يدي كبيرًا، على مدار أيام بعدها لم أكن أشعر سوى بالإرهاق، لكنها لحظات ممتعة لا يمكن أن تنسى» كانت تلك المباراة التجريبية، تمهيدًا لمباريات أخرى خاضها محمد مع أصدقائه، لم يمانع أحد قط أن يشارك في اللعب، وصار لاعبًا أساسيًا في الفريق، الذي يشارك في دورات شعبية لكرة القدم ومباريات ودية بين أبناء المنطقة الواحدة.
بعد عدة مباريات خاضها محمد أدرك أن عليه ممارسة الكثير من الألعاب الرياضية لتقوية ذراعية، صار بإمكانه التحرك بعد ذلك بكرسيه المتحرك دون مساعدة من أحد. يركب المواصلات، يذهب لدروسه، يقابل رفاقه، يتجه لملعب الكرة وحده دون مساعدة من أحد، إلا من ذراعيه: «اليد بالأساس خلقت لاستخدامات غير التي خلقت لها القدم، لكنها في حالتي تقوم بالأمرين، والآن وبعد تدريبات طويلة أستطيع اللعب على مدار ثلاث ساعات دونما توقف أو تعب».
وبعدما كانت المباريات التي يلعبها الصغير مع أصدقائه كل يوم في المرحلة الابتدائية، صارت أقل من ذلك تدريجيا، لانشغاله في الدراسة، وهو الآن طالب بالصف الثاني الثانوي، ويتمنى أن يصبح طبيبًا في المستقبل.
وسبق أن جرب لعب التنس على الكراسي المتحركة، والكرة الطائرة أيضًا، والسباحة، لكن شيئًا لم يسحره مثلما فعلت كرة القدم: «في المرحلة الإعدادية كان أكثر وقتي يذهب لكرة القدم، ومع ذلك تفوقت دراسيا وكان ترتيبي الثامن على مستوى المدرسة».
لا مساحة للرأفة في لعب كرة القدم، يدافع محمد بضراوة، تؤلمه أحذية الخصم أحيانا، ويدفعهم بما تبقى من جسده حينا، يلتحم ويقطع الكرة، يمررها سريعًا. بينه وبين المنافسين عقد لا يتغير، يقوم على المنافسة بشكل متكامل، دون الوضع في الاعتبار حالته الخاصة: «الإعاقة هي ألا تستطيع فعل شيء ما، وأنا لدي القدرة على فعل كل شيء.. تؤلمني أحيانا نظرات التعاطف، لكنني تجاوزت ذلك، وتحولت تلك النظرات إلى إعجاب بعد ذلك».
الجناح الأيسر، المركز الذي يهوى محمد اللعب فيه. لحظات الدفاع أصعب ما تكون، يتحرك على يديه بسرعة، يقطع الكرة، ويمررها بيديه دون أن يمسك بها، فهو وإن كان يلعب باليد إلا أنه يضع لنفسه قواعد خاصة، لا تمنحه أفضلية على اللاعبين الآخرين. وفي كل دورة كروية صار اسم محمد موجودًا، يعرفه الجميع ويقدرونه، ويخشون مهارته أحيانا: «لكن لي أحلام أخرى غير الرياضة، أمارسها فقط للهواية، أحلم أن أصير طبيبا، كما أحب التمثيل وإلقاء الشعر».
في منزله المكون من أخ وأخت يصغرانه في السن، يقرأ الصبي كثيرًا، يحاول تعلم أمور مختلفة. يمثل موقع يوتيوب له موسوعة كبيرة، ونافذة على العالم، يردد دوما بعض كلمات من آية يحبها من القرآن، حفظها في طفولته «لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا» ويرى أنها تمثل شعارا له: «بعد أن فقدت ساقي كنت أحسب أن هذا نهاية المطاف، لكنك لا تدري.. لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا».
فيديو قد يعجبك: