رياضة بطرف صناعي وعكاز.. "عليوة" "وأبو دقن" رفيقا التحدي في غزة
كتبت-إشراق أحمد:
كانت لحظة فريدة؛ بعد ثلاثة أعوام، أخيرًا يحصل محمد عليوة على الطرف الصناعي، يسارع بالذهاب إلى صديقه أحمد أبو دقن، هو الآخر فقد إحدى رجليه لكن سبقه في تركيب البديل. يندفع عليوة متحمسًا للوقوف بلا عكاز، يتجاهل نصيحة المعالج بألا يتحرك به كثيرًا في البداية، يشارك أبو دقن العزيمة كما يفعلان طيلة الأعوام الماضية، لم يكتفيا بما يفعلاه من لعب كرة القدم، وجدا أن ثمة شيء جديد يرغبان في التحدي لتجربته معًا؛ يشجعان بعضهما ويرتديان الملابس الرياضية، ثم يحملان كرة السلة ويمضيان في اللعب لأول مرة بدون عكاز أو كرسي متحرك.
في غزة، جنوب فلسطين، العديد من الشباب فقدوا أطرافهم لأسباب مختلفة، تُقدرهم اللجنة الدولية للصليب الأحمر بنحو 1600 شخصًا، لكن زاد الالتفات إليهم بعد مسيرات العودة التي انطلقت 30 مارس 2018 واستمرت لنحو عام، إذ تعرض نحو 136 فلسطينيًا لبتر أطرافهم بفعل رصاص الاحتلال الإسرائيلي –حسب وزارة الصحة الفلسطينية، كان عليوة واحد من هؤلاء "كنت واقف متل كل الشباب. قريب من السياج وحامل علم فلسطين فجأة لقيت حالي مصاب".
يحفظ عليوة التاريخ الذي معه تغيرت حياته؛ في التاسع من نوفمبر عام 2018 استيقظ صاحب السادسة عشر ربيعًا من التخدير وقد فقد طرفه الأيمن. انقضت الأيام ثقيلة في البداية، لا يعلم الفتى ماذا يفعل، والأكثر أهمية لديه كيف سيمارس كرة القدم مع رفاقه في الطرقات كما كان يفعل؟
رفض عليوة أن يظل حبيس المنزل، خرج للطريق وعزم على ممارسة حياته الطبيعية، تزامن هذا مع إعلان نادي الجزيرة الرياضي في غزة عن تشكيل فريق لكرة القدم البتر، لم يتردد في التقدم للمشاركة، ومن حينها باتت الرياضة ملاذ الفتى وعكازه الحقيقي بعدما كانت الدراسة والعمل في النجارة يشغله عن معشوقته "كنت في الأول ألعب كرة على قدي.. كنا نلعب نظام الحواري". أما اليوم يحمل عليوة لقب أفضل لاعب في دوري كرة القدم البتر عام 2019.
لم يكن عليوة وحده في الطريق لتجاوز الأيام العصيبة، التقى أبو دقن، جمعتهما منطقة السكن بحي الشجاعية والمصاب، لكن السبب كان مختلفًا؛ "فقدت رجلي في حادث سير في 2007 وأنا عمري 4 سنوات كنت رايح على الروضة وصار الحادث". عاش أبو دقن طفولة شبه منعزلة "أصحابي عددهم قليل وأغلب حياتي من المدرسة للبيت. ما كنت بطلع كتير وطول الوقت بقضيه مع القرايب بس"، في قرارة نفسه علم أبو دقن أن لا حدود لطاقته " أنه عندي مواهب بس ما لقيت حد يكون معي في كل شيء"، حتى عرف عليوة، أصبح لديه رفيق يشاركه الدرب ويتقاسم معه السعي لترك بصمة مختلفة صارت مصدر إلهام العديد في غزة.
تشابهت ظروف الرفيقين، كلاهما أحب الرياضة وما وجد الدعم والوقت إلى أن ساقهما القدر لجمعية كرة القدم البتر نهاية عام 2018 كما يحكي أبو دقن لمصراوي "تاني يوم بلشت أنا ومحمد فيها وبعدها بدينا ندخل في كل الرياضات لحد اليوم". لم يتركا شيئًا إلا وفعلاه، التحقا بفريق السباحة، انضما للعب كرة السلة لكن على كرسي متحرك وفق شروط اللعبة لذوي الإعاقة، ركبا الدراجات ودخلا السباقات فيها، حتى الأنشطة الفنية ما تركوها "شاركنا في عروض الدبكة الفلسطينية على الكراسي المتحركة".
كلما تمكن عليوة وأبو دقن من أداء رياضة، التحقا بأخرى حتى لو كانت أصعب، يدفعهما الشغف والرغبة في كسر شوكة كلمة "مستحيل"، لذا حينما حصل عليوة على طرفه الصناعي الأول، في 6 يناير الماضي، لم ينتظر لمقاسمة صديقه تلك اللحظة "كنت سعيد. حاسس حالي طاير"، اختار الرفيقان كرة السلة لأنها الوحيدة التي يلزم لعبها استخدام كرسي متحرك، بينما أراد الصديقان التحرر من هذا ولعبها بلا قيود.
لم يكن لعب كرة السلة بالأطراف الصناعية لأول مرة بدون تدريب أمرًا جديدًا، فعلا الشابان أكثر من هذا، مؤخرًا مارسا "الباركور" وهو القفز من المرتفعات بخطى سريعة، شكلا فريقًا وركضا فوق البنايات بالعكاز، لم يلتفتا لأي صوت يحبط عزيمتهما. "كذا شخص حكي لي بدك الرجل التانية تتقطع" يحزن عليوة لما يسمع، كما يضيق صدر أبو دقن كلما آتاه أحدهم لا يعرفه ويظن أنه فقد طرفه في مسيرات العودة ويمضي في انتقاده "كتير بتفكرني هيك ويحكوا لي أنتم ضيعتم حالكم"، لكن في النهاية يواصلا التحدي.
عرف عليوة وأبو دقن الطريق منذ التحقا بفريق كرة القدم البتر، تأكدا أن إرادتهما أكبر مما يتصورا، وكذلك حال 20 شابًا يلعبون بفريق نادي الجزيرة الفلسطيني كما يقول جلال سكيك، مدرب الفريق ومسؤول ملف ذوي الإعاقة بالنادي الرياضي. قبل عام 2014 لم يتخيل أحد في غزة أن تصبح كرة القدم متاحة لمن فقدوا أطرافهم، لكن سكيك كان سببًا في ذلك.
يعشق صاحب التاسعة والخمسين ربيعًا كرة القدم كما يقول لمصراوي "كنت حارس مرمى النادي الأهلي الفلسطيني حتى آخر مباراة لي عام 83"، سافر بعد الاعتزال إلى السعودية، أمضى فيها 15 عامًا ثم عاد إلى غزة، تزامن هذا مع نشأة نادي الجزيرة الفلسطيني عام 2007، تولى سكيك التدريب، أراد أن يحظى الجميع بمتعة ممارسة الرياضة عامة ولعب كرة القدم خاصة "كنت بعمل دمج لذوي الإعاقة وغير ذوي الإعاقة الجميع يلاقي مكان لممارسة الرياضة اللي يحبها". أشرف سكيك على العديد من الرياضات، لكن بعد حرب 2014 التفت إلى زيادة أعداد من فقدوا أطرافهم.
عمل سكيك على تطوير لعبة كرة القدم لتناسب أصحاب السيقان الواحدة "وشوي شوي بدأنا ننشأ فرق"، وتأسست في غزة عام 2018 جمعية تحت اسم "فلسطين لكرة القدم البتر"، ثم توسعت اللعبة ليضمها قرابة 7 أندية ويمارسها نحو 18 فرقة، لكن ظل نادي الجزيرة الأكثر استيعابًا للاعبين كما يقول سكيك.
لكرة القدم البتر أسلوب يختلف عن لعبة الساحرة المستديرة أو الطريقة الخماسية "الفريق بيكون 7 لاعبين بحارس المرمى وممنوع اللعب بالأطراف الصناعية"، العكازات تصير "هي رجلين" اللاعبين كما يقول مدرب نادي الجزيرة.
وحال أي رياضة حديثة، اختبر سكيك قبول أهل غزة لها، يذكر المدرب المباراة الأولى للفريق "لما نزلنا كنا نلعب للمرح والانسجام"، داخل نادي الجزيرة الفلسطيني في وسط القطاع المحاصر، لمس سكيك السرور في أعين اللاعبين بينما يؤدون المباراة ويتوافد الجمهور لمشاهدتهم فضولاً في معرفة ماذا يفعلون "كنت أسعد إنسان في العالم وقتها وأنا بشوف الابتسامة في وش اللاعيبة بتاعتي"، ذلك الإحساس تكرر بعد حصول فريقه على بطولة الدوري لعا م 2019، فقد أصبح لكرة القدم البتر شأن في غزة، وصل حد تشكيل منتخب يمثل فلسطين في الخارج.
داخل الملعب وفي السباقات يتناسى عليوة وأبو دقن صعوبات المعيشة في أوضاع متردية؛ شوارع غير ممهدة لذوي الإعاقة، وإجراءات طويلة للحصول على طرف صناعي والصيانة الدورية له، فضلاً عن الحروب والقصف المتوالي بين الحين والآخر. كل شيء يزول لحظة التدريب أو بدء المباراة، لا يفكر عليوة في شيء سوى الفوز "مبحبش اخسر في نفس الوقت بستمتع وأنا بلعب"، فيما يزيد إصرار أبو دقن "أن نبين للعالم أنه نحنا نقدر".
كذلك يتحدى مسؤول ملف ذوي الإعاقة في النادي الفلسطيني الصعوبات، يواصل سكيك العمل بإمكانيات محدودة وأمنيات كبيرة "الأطراف الصناعية مش سهل توفيرها ومش متاح إقامة معسكرات"، فضلاً عن الملاعب ذات الأرضيات غير المجهزة، يواجه المدرب ذلك بالاستمرار لدعم ذلك الشعور بالثقة في عيون اللاعبين.
اليوم عليوة وأبو دقن لاعبان أساسيان في منتخب فلسطين لكرة القدم البتر، وبفريق الجزيرة للسلة، يمضيان لتحقيق مزيد من الخطوات في مسيرتهما الرياضية، لا ينسى عليوة أول رحلاتهما إلى فرنسا، يونيو 2019، لملاقاة المنتخب الفرنسي لكرة القدم البتر في مباراة ودية، رغم الخسارة بثلاث نقاط مقابل هدف إلا أنه سرى في نفس عليوة سعادة "أحرزت الهدف الوحيد وهاد شيء كبير وتجربة حلوة أحنا جداد في اللعبة أمام فريق يلعب من 10 سنين".
وجد ابنا حي الشجاعية في الرياضة فرصتهما للحياة ومجابهة الواقع، بطرف صناعي أو عكاز يمضيان، يتحديان الظروف في كل وقت، ويغامران حينًا؛ يتذكر عليوة رحلته إلى تركيا مطلع عام 2020 للبحث عن فرصة للعب في أحد الأندية، لكن جاء تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) ليعرقل مسيرته، ومع هذا لم يستسلم، عاد الشاب إلى غزة سبتمبر المنصرف، ومرة أخرى تقاسم مع صديقه السعي موقنًا إن "ربي أخد شيء مني وعطاني شي أحسن"، لا يأمل عليوة إلا في طرف رياضي يكمل به حلمه بأن يصل باسم فلسطين إلى العالمية، فيما يحلم أبو دقن باستكمال دراسته الثانوية والالتحاق بتخصص العلاج الطبيعي ليتخرج ويساعد أهل غزة ممن فقدوا أطرافهم، يود أن يمنع عنهم ما لاقاه من معاناة "لي 14 سنة مصاب سافرت كتير وركبت أطراف كتير"، لعله يمنحهم الأمل.
فيديو قد يعجبك: