قصة أقدم مستشفى دمره انفجار بيروت: "أسعفنا المرضى على ضوء الهواتف"
تقرير- مارينا ميلاد
في العتمة، تحيط بهم أصوات الصراخ والاستغاثة: "يا حكيم ساعدنا"، "أنجدوا أخي"، "أمي ما بتتنفس". يركض الحكماء والممرضون- وبعضهم لم يضمد جراحه بعد- ليسعفوا المصابين. استعانوا بضوء هواتفهم بعد أن انقطعت الكهرباء لينبشوا بين ركام مستشفى "القديس جورجيوس" أو "الروم" بمنطقة الأشرفية في بيروت لعلهم يجدون أنبوبة أكسجين أو أدوية متبقية.
ربما لم يشهد أغلب الواقفين واقع الحرب الأهلية؛ حيث انتهت منذ 30 عامًا. لكن جدران المستشفى كانت شاهدة. ففي عام "1975" حين بدأت لبنان مشقتها، وألِف أهلها أصوات الانفجارات والرصاص، وأن تُنثر الدماء مثل الزجاج، كان هذا المستشفى صامدًا في وجه الصراع الذي خَلف لهم وللبلد المُقسم - آلاف الجرحى. كان عليه أن يداويهم، وقد فعل! حتى إنه في أوقات أجريت عمليات الجراحة في الممرات لنقص المساحة، ولم يتوقف رغم أنه طاله جزءٌ من التدمير.
ويوم الرابع من أغسطس الجاري قد فعل انفجار مرفأ بيروت به ما هو أشد، وقد بلغ عمره 142 عاما. فدمره بالكامل، أفقده أربعة من طاقمه، وأصاب أكثر من 100 شخصا به.
الساعة 3:30 مساء الثلاثاء 4 أغسطس
قد بدأت ماريا إلياس، الممرضة بقسم الأشعة، دوامها، كذلك طبيب الطوارئ صبحي فارس. كان المستشفى مكتظا كالمعتاد في ساعات الذروة. استعدت السيدة كريستيل لاستقبال طفلها ومعها زوجها الذي بات متحمسًا لتلك اللحظة. بينما خلع خليل موسى، الممرض، ملابس العَمل ليذهب إلى بيته ويفكر فيما يمكن إنجازه وقد اقتربت نهاية الأسبوع؛ حيث سيعود البلد إلى الإغلاق الذي فرضته الحكومة من جديد مع تصاعد إصابات فيروس كورونا.
الأمر لا يستدعى من خليل سوى أن يسير بضع خطوات ليصل إلى بيته المجاور للمستشفى والذي يسكن فيه مع زملائه في العمل.
بعد نحو ساعتين ونصف: خليل في بيته، الدكتور صبحي والممرضة ماريا بالدور الأرضي بالمستشفى، والسيدة كريستيل في مخاضها تقف بجانبها رنا، الممرضة المسؤولة عن التوليد. سَمع الجميع صوتًا قويًا. ظنه خليل هزة أرضية وما هي إلا ثوانِ معدودة وتبعه صوت آخر مدوٍ كسر كل الزجاج والأبواب بالمستشفى، وببيت خليل.
صرخ الدكتور صبحي في كل الموجودين أن يخفضوا رؤوسهم. ذهبت ماريا لتختبئ في الداخل؛ لأنها لا تستوعب ما حدث. وظلت السيدة كريستيل في مكانها ومعها زوجها ورنا التي هوى عليها جزء من السقف وجُرحت. أوقع الانفجار خليل أرضًا: "ما عرفنا شو اللي صار. سمعت أصوات ناس عم بتصرخ وفتحت عيوني لقيت البيت مكسر بأكمله". يتنهد محاولا استرجاع ذلك المشهد المأساوي: "يا ألله على هالنهار. طلعت على البلكون لقيت العالم بالشارع ينزل الدم من وجهها ومن جسمها".
عرف الجميع لاحقًا بانفجار شحنة مخزنة بميناء بيروت منذ 6 سنوات بها 2750 طنا من نترات الأمونيوم، وهي مادّة قابلة للاشتعال تُستخدَم في صنع الأسمدة والقنابل أيضًا. وأنها قتلت أكثر من 150 شخصا، إضافة إلى آلاف الجرحى غير المفقودين والمشردين.
وقف الدكتور صبحي يتفحص المحيطين به والمكان، ثم وجد أنه لم يتبقَّ من غرف قسم الطوارئ الـ25 سوى 4 غرف فقط يمكنه أن ينقل إليها المصابين. بحثت ماريا عن هاتفها لتطمئن على أهلها، فوجدته مُغلقا فاستعانت بهاتف زميلها: "قلت لهم أنا منيحة وبدي روح كفي شغل". أما رنا، فلم تولِ جرحها اهتماما، وبقيت تساعد كريستيل في الولادة.
ركض خليل باتجاه مستشفاه الذي يبعد نحو 3 كيلو ونصف فقط عن الميناء. على جانبيه أشخاص يركضون مذعورين وأبنية تساقطت نوافذها ومن حوله دخان أبيض كثيف يغطي كل شيء. وصل إلى الطوارئ، ووقف أمام المنظر مصدومًا: "المستشفى كان بحالة مزرية. هالمناظر ما بتروح أبدًا من بالي".
"ليس من قبيل المصادفة أننا في هذا الجزء من العالم. سنبقى ونخدم حتى النهاية"، وجه المطران إلياس عودة هذه الرسالة إلى العاملين بالمستشفى في الذكرى المئوية لتأسيسه عام 1983، وكانت ويلات الحرب تحيط بهم من كل ناحية، ومعها يستمرون في تقديم رعايتهم ويوزعون مياه الشرب النظيفة والمواد الغذائية على كبار السن بمنازلهم.
ربما استدعى طاقم المستشفى تلك الروح مجددًا. أزالت ماريا مع زملائها رُكام الأسرّة ليوضع عليها المرضى. حاول الدكتور صبحي أن يداوي الإصابات البسيطة سريعا لتفسح مجالا للأكثر خطورة التي يقول إنها ما بين "ضربة بالصدر أو الرأس أو نزيف بالبطن أو أشخاص غائبين عن الوعي".
استجمع خليل قواه ليُفيق من دهشته، ويكتفي بالعلم بوقوع انفجار بالمرفأ مؤجلا التفاصيل فيما بعد. مد يده مع زملائه ليداوي الجرحى، ومن بينهم عشرات من رفاقه: "كنا نحاول نأمن الأدوية والمعدات الضرورية وناخدها لبره لنقيم مستشفى ميدانيا. وصرنا ننقل الحالات الطارئة بالإسعاف على مستشفيات أخرى".
وصل فريق الصليب الأحمر إلى المستشفى ليخفف عنه الضغط. وبحسب بيان المستشفى: "قُتل 12 مريضا، وتم إجلاء 160 آخرين من الطوابق إلى غرفة الطوارئ، ثم إلى منازلهم أو إلى مستشفيات أخرى. وتحول المستشفى الذي يضم 400 سرير إلى مستشفى ميداني يوفر الرعاية العاجلة باستخدام كل الوسائل المتاحة".
كانت السيدة كريستيل ضمن المنقولين إلى مستشفى آخر برفقة أحد أطباء المستشفى. أنجبت طفلها "جون" بعد أن ساعدتها الممرضة رنا في أن تأتي به إلى العالم الذي استقبله بقسوة: "لقد كان أفظع يوم شهدته في حياتي المهنية. لكن حتى لو اضطررت إلى المرور به مرة أخرى، فلن أفعل أي شيء مختلف".
حَل الليل، وانقطعت الكهرباء كالمعتاد للبنانين المقدرين بحوالي 7 ملايين شخص نتيجة الأزمة الاقتصادية التي يعيشها بلدهم. استكمل الطاقم عمله على أضواء الكشافات والهواتف حتى الثالثة صباحًا، وكان الخوف والتوتر يُطبق على كل شيء.
بنهاية اليوم؛ لم تفلح كل محاولاتهم في إسعاف أربع ممرضات، ليفقدهم المستشفى. يقول خليل: "أعطيناهم ما بنقدر من طاقتنا لكن قَدر الله. كان نهار بشع ومُبكي".
نعى المستشفى ممرضاته عبر صفحته بـ"فيسبوك": "ما أخذه الانفجار المدمر منا كان أبعد من الأشياء المادية. فقدنا جيسيكا بازدجيان التي كانت منخرطة جدًا في عملها ومستعدة دائمًا للمساعدة، وجيسيكا قهوجي، الزوجة والأم لطفلة عمرها عامان وعملت في المستشفى مع زوجها لسنوات، وميراي، صاحبة اللمسة الفنية، ولينا التي أحبها جميع مرضاها بقسم التوليد".
وصل الدكتور صبحي منهكا تماما إلى بيته بعد هذا اليوم الصعب. ضمدت رنا جراحها واطمأنت على السيدة كريستيل وطفلها جون: "هدأت إصاباتي لما علمت أنهما بخير". واكتشفت ماريا في بيتها إصابتها في رجليها التي لم تكن تشعر بها طوال اليوم: "ما مصدقة إني طلعت من هيدا الانفجار بإصابة بس في رجلي! لكن حالتي النفسية ازدادت سوءا كلما مر الوقت".
الآن يعمل الموظفون وفرق الإغاثة على قدم وساق لرفع ركام المستشفى وتنظيفه. ذلك المستشفى الذي يعتمد على التبرعات منذ بدئه عام 1878 مع جمعية خيرية معترف بها من قبل رئيس أساقفة بيروت الأرثوذكسية لمساعدة المرضى المحتاجين. كان غرفة واحدة كعيادة ثم ثانية عام 1880 و6 أطباء فقط حتى توسع وصمد أكثر مع الزمن ولا يزال يحاول.
أجمع كل من خليل وماريا والدكتور صبحي على وصفوه بـ"بيتهم الثاني". فيقول خليل الذي قضى به 10 سنوات من حياته: "قلبي كان بيبكي من جوه لما شفته هيك"، لكنه لم يستطع إرسال لنا صور تعبر عن لحظاته وذكرياته فيها لأنه كان يحفظها على هاتفه الذي كُسر في الانفجار، وشطب تلك الذكريات.
- اسم خليل موسى هو اسم مستعار بناء على طلب الشخص.
فيديو قد يعجبك: