700 يوم في مكة.. حكاية مصري يلازم "الكعبة"
كتبت- إشراق أحمد:
رسوم-سحر عيسى:
من قلب الشِدّة جاء الفرج؛ بمجرد أن تقدم محمد ناجي باستقالته من العمل، تلقى رسالة على هاتفه "مبروك تم قبولك للعمل في الحرم المكي".لم يتمالك الشاب العشريني نفسه، انطلق مرددًا "لبيك اللهم لبيك" بينما يسير في شارع شهاب بمنطقة المهندسين. ذاق ناجي الشهير بـ"محمد جدو" فرحة غابت عنه لوقت طويل، ولأجلها لازم مكة، ولم يغادرها لرؤية أسرته في مصر منذ عامين.
كان خريج كلية أصول الدين جامعة الأزهر يطرق جميع الأبواب لأجل "لقمة العيش"، لا يرفض عملا "طالما حلال" حتى لو رآه البعض أقل من إمكانياته "جه عليا وقت كنت ببيع شيكولاتة في المترو"، سافر إلى ليبيا عام 2012، مكث لنحو عام ونصف، نجا من الموت بعد اختطافه 20 يومًا على يد مهربين ثم عاد إلى مصر، تحمل المشقة لتوفير نفقات الزواج الذي خُطط له عام 2018، لكن كل شيء انقلب فجأة.
انفصل "جدو" عن خطيبته قبل أسبوع من الزفاف، وبات مستقبله مهددًا "كنت شغال في شركة مقاولات حصل أزمة في المرتب قالوا لي تشتغل الشهر ببلاش يا تصفي قلت لهم أمشي"، أُغلقت السبل في وجه الشاب، لكن ثقته لم تتزحزح "أنا مؤمن أن الرزق بإيد ربنا ولما باب يتقفل أكيد في باب تاني هيتفتح"، وهو ما حدث.
قبل أن يغادر "جدو" عمله الأخير في مصر، تقدم لإحدى شركات الهندسة السعودية، كانت أعلنت عن حاجتها لعمال يشتغلون في الحرم المكي، ذهب الشاب كخطوة معتادة يفعلها لزيادة الدخل، حينها أخبره مَن يجري معه المقابلة "يا بني ده عمل أقل من شهادتك وهتاخد عليه 1500 ريال"، كان الشاب المصري على استعداد لفعل أي شيء للقبول في هذه الوظيفة "قلت له أنا أنضف الحرم بلساني بس اقبلني"، راود الشاب شعورًا داخليًا بأن مستقر راحته داخل بيت الله الحرام "كنت في دوامة أكل العيش مكنش التفكير في عمل عمرة من أولوياتي لكن أول لما جت الفرصة قلت هعمل أي شيء".
حين تم قبول ابن محافظة القليوبية للعمل في الحرم المكي، وقع عليه كشف طبي كإجراء للسفر "كان عندي زي دوالي لكن مكنتش بحس بتعب"، رغم ذلك قرر الشاب المصري إجراء عملية جراحية لغلق الباب أمام أي ثغرة تمنعه من الذهاب إلى "الكعبة".
الوقوف الأول أمام الكعبة ليس له مثيل "عمري ما كنت أحلم آجي الحرم فجأة بقيت فيه طول اليوم"، تحولت الدقائق التي يراها على شاشة التلفاز إلى واقع لا يفارقه "ما بكتفيش بوقت الوردية أوقات كتير بقعد أدي كل الصلوات". تبدل حاله من شاب "الكل بيحكم على مستقبله بالفشل"، إلى شخص يغبطه الكثير على ما فيه، يذكر "جدو" أنه سبق له التقدم للعمل بالشركة ذاتها، ذهب حينها رفقة أصدقاء له "كلهم اتقبلوا وراحوا اشتغلوا في أماكن حلوة جوه مصر إلا أنا"، كان بانتظار صاحب التاسعة والعشرين ربيعًا شيئًا آخر مميزًا.
فُتحت الأبواب من وسع؛ بعد شهور قليلة حينما علم مدير "جدو" بشهادته الجامعية، رفعه من درجة عامل إلى "مراقب سلامة"، بات الشاب المصري ضمن فريق عمل يشرف، ويتمم على المعدات والأدوات التي تعمل داخل الحرم المكي، وبسبب ذلك تمكن من الصلاة داخل الكعبة، إذ وقع شيء يحدث مرة كل عقود حسب قوله "سقف الكعبة نشع ميه"، وكان لا بد من الصيانة، فتواجد "جدو" في قلب المكان المقدس.
بمرور الأيام في مكة، تأكد الشاب المصري أن ثمة لطفا خفيا يشمله، وليس أدل على ذلك له من رحلة الحج العام الماضي؛ لم يكن انقضى على تواجد "جدو" في السعودية سوى 7 أشهر، حين أُذن للحج، عز على الشاب المصري أن يكون جوار المشاعر المقدسة ولا يلبي النداء، لذا نوى الإحرام وتهيأ ثم انطلق.
ظن "جدو" أن تواجده وعمله بالحرم لا يُلزمه بتصريح مسبق لكن مع أول دورية أمن قرب منى، أُوقف الشاب وأُخبر أنه لا يحق له التواجد دون أذن، ووقع على ورقة تسمى "بصمة حج"، تجعله من الممنوعين من دخول السعودية إن عاد إلى مصر مرة أخرى.
بكى "جدو" كما لم يفعل من قبل، لم يكن يعنيه شأن تلك البصمة "كل اللي كان يهمني وقتها أني أحج"، لكن الخطى تسير خلاف ما يريد؛ صحبته دورية الأمن مع آخرين ممن يحاولون أداء الحج دون تصريح إلى خارج مكة، حتى لا يتمكنوا من العودة، قرب مدينة جدة وقف الشاب المصري خائب الرجى "بعد ما كنت أسعد إنسان في الدنيا بقيت أتعس واحد".
عاد "جدو" إلى سكنه بمكة مع أذان عشاء ذلك اليوم، إلا أن ثمة أملاً يؤرقه "صليت وأنا ببكي وأقول يا رب اكتبهالي ده بيتك ما تخليش حد مهما كانت مكانته يمنعني من فريضة الحج"، غط "جدو" في النوم وبعد ساعتين استيقظ على رؤيا تخبره أنه مازال أمامه يوم عرفة وتمام الحج بالوقوف على أرضها.
لم يفكر الشاب في العواقب، استقل سيارة أجرة، وذهب مرة أخرى، ومع أول دورية أمنية، تكرر المشهد ذاته، وقف "جدو" حزينًا على طريق جدة ثانية "لكن لسه جوايا حاجة بتقولي هتحج"، ومع الاتصال بصديقه ليأتي إليه للمرة الثانية، سمع نداء من أفراد في عربة، سألوه "عايز تحج؟"، تسمرت قدما المصري ودون تردد رافقهم "كانوا عايزين حد تالت معاهم".
كانت الأموال بحوزة "جدو" قد نفدت بعد تكرار محاولة الوصول إلى عرفة، إلا أن أحد المصاحبين له وكان مصريًا تكفل به حتى بلغوا مقصدهم؛ الآن "عامل الحرم" بين الحجيج، تفيض عيناه من الدمع بينما يلبي بصوت يشق بياض الصفوف.
لم يأس مراقب السلامة بالحرم يومًا على ما وقعت عليه يداه، اختار الطريق "مش هرجع مصر وهفضل عند الكعبة"، وجد أن الثمن بخس مقابل التواجد في خدمة بيت الله، وازداد يقينًا بهذا حينما تفشى فيروس كورونا المستجد، وأغلق الحرم المكي لأول مرة، وصار من القلائل المسموح لهم بالدخول.
على مدار شهور أصبح "جدو" مرسالا بين المشتاقين لـ"الكعبة"، يدعو لمن طلب ومَن لا يفعل، يصور العديد من الصور وينشرها على صفحته بفيسبوك"، بات واثقًا أن وجوده ليس تمسكًا براتب يحصل عليه إنما رحاب المكان المقدس.
تقدم الشاب المصري بطلب للحج هذا العام لكنه لم يبلغه، جاءه الاعتذار إلا أن شيئًا أثلج صدره ومحا عنه الحزن "حضرت تغيير كسوة الكعبة، وأشرفت على السقالات والمحركات"، للمرة الأولى يشهد الشاب الحدث المنتظر مرأى العين.
لأكثر من 700 يوم وطريق زيارة "جدو" لمصر مغلق لأجل غير معلوم، أصبح ملازمًا "الكعبة"، يرتوي بماء زمزم، يأنس بصحبة المعتمرين وصغار الدارسين في الحرم، ورفاق الحجة الفريدة، يعتمر لمرات ويرافق الركع السجود، وكلما غلبه الشوق لأسرته، تذكر أن ما فيه أكثر مما تمنى أن يُعوض به عما لاقاه من مشقة.
عامل الحرم المصري محمد جدو
فيديو قد يعجبك: