صدى لم ينقطع.. صلوات العمال ونس المسجد الحرام في الإغلاق
كتبت- شروق غنيم:
بينما خلا صحن الحرم المكي الشريف من المُصلين والمعتمرين؛ كانت الحياة لا تزال تدب داخل المكان رغم الإغلاق بفضل العمال والموظفين، على مدار الـ24 ساعة تتبدل الورديات، يحرص عمال النظافة على العناية بالمكان المُقدّس، فيما ينكفئ الموظفون بالطوارئ على الصيانة. فيما مضى لم يكن ظهور العمال بارزًا، يذوبون مع حشد من البشر في الأرجاء، أما الآن فلا يظهر سواهم، يحرسون المكان ويخدمونه كما اعتادوا، وبين ذلك يؤدون الصلاة مع الحرص بالتباعد الاجتماعي والإجراءات الاحترازية، ليظل الحرم عامرًا بالصلوات والابتهالات رغم الإغلاق.
في منتصف مارس المنصرف؛ تزلزل شعور محمد زين بينما يُبصر تنفيذ القرار؛ صحن الحرم يتم إخلائه، لا مُصلين أو معتمرين في الأرجاء، ابتلع غصته، أمارات وجهه يكسوها الحزن فيما يجري على لسانه الدعاء برفع البلاء قريبًا. طيلة ثمانية أعوام، يعمل الرجل الأربعيني في قسم الطوارئ بالمسجد الحرام، لم يرَ مشهدًا كهذا، تألمت نفسه، إلى أن تلقى خبرًا غيّر من حاله.
أخذ الحزن في التبدد حينما استلم الرجل الأربعيني تصريح خاص يخوّل له الدخول إلى الحرم المكي الشريف قرابة 12 ساعة يوميًا لإتمام مهام عمله، لم يكد يصدق نفسه، امتنان كبير وحمد لأنه "االله اصطفاني من بين ملايين المسلمين وآلاف الموظفين لأكون داخل الحرم المكي الشريف"، في السادسة مساءً تبدأ وردية زين، وتنتهي مع حلول السادسة صباحًا.
رغم الضيق المسيطر على الأجواء إلا أن زين استمتع بكل لحظة في المكان، كالطير يتحلق في المكان بكل حُرية، يُملي أعينيه من تفاصيله المُقدسة، فيما يرتوي يوميًا من ماء زمزم "لنا معاملة خاصة في المكان من الإدارة، هناك فريق كامل يخدمنا، يقدمون لنا قرابة أربع قوارير من ماء زمزم، احتفظت بعينات منها في منزلي"، فيما يتابع مسؤولي الصحة الموظفين أثناء العمل.
في حضرة الحرم المكي الشريف، ينسى زين ما يجري في الخارج، يُركز في عمله، يتحيّن الفرص للطواف حول الكعبة والنظر لها مباشرة، وما إن يحصل على وقت الراحة يقضيه في قراءة القرآن. كان وقع الصلوات مختلفًا هذه المرة على نفسه "كنت أشعر بوحدة بداخلي لعدم وجود المعتمرين من بقاع الأرض"، لكنه عوّض ذلك بالحرص على أدائها برفقة الإمام "كنت أصلي بالقرب من الشيخ ماهر المعيقلي وخاصة صلاتي المغرب والعشاء، لدرجة أنني كنت أسمعه مباشرة بدون مكبر صوت كما في السابق. كنت سعيد جدًا بذلك".
داخل المكان ينفصل زين عن العالم الخارجي، يرمي كل الهموم وراء ظهره ويستمتع بلذّة التواجد في الحرم المكي الشريف، وبينما يقضي فترة عمله المسائية استقبل الخبر "أعلن الشيخ الدكتور عبدالرحمن سديس رؤية هلال شهر رمضان بعد صلاة العشاء، وكنت فرحًا جدًا بذلك لأنني كنت في صحن الكعبة، بعد خُطبة قصيرة منه بدأ صلاة القيام. كان أجمل خبر سمعته منذ حلّ الوباء".
شعر الرجل الأربعيني بأنه محظوظ بما يكفي لأنه يعمل في الفترة المسائية "كنت أفطر وأتسحر في الحرم"، لأول مرة يخوض تجربة شهر رمضان بهذا الوضع، لكن كان كافي بالنسبة له بالقدرة على أداء صلاة القيام والتهجد داخل البقعة المقدسة "كنت أقرأ مع الإمام من المصحف ولقد ختمت القرآن معه، فيما كنت أقضي خمسة عشرة ساعة في الحرم في الشهر الكريم، لأنني أعلم أن هذه فرصة تاريخية لن تتكرر، وكنت أمني النفس أن يفتح الحرم أبوابه في العشرة الأخيرة".
على مدار عمله كوّن زين أصدقاء من عدة دول التقى بهم خلال مواسم الحج والعمرة، حافظ على الوِد بينهما وصاروا على تواصل حتى الآن، لذا حينما كان يشارك يومياته على مواقع التواصل الاجتماعي من داخل الحرم المكي "كانوا يخبروني أنهم سعداء بأن لهم صديق في الحرم، وبعضهم يطلب مني أن أصور له بعض لقطات من الصلوات"، فيما لم ينقطع رنين هاتفه من المكالمات الدولية "بعضهم يتصل بي ويبكي ويقول أتمنى أن أكون في الحرم، وآخرين يريدون سماع صوت الأذان مباشرة، وبعضهم يطلب مني الدعاء لهم في الحرم المكي الشريف والحمدلله لقد تمكنت من تلبية ذلك بحكم تواجدي وطوافي حول الكعبة بشكل يوم".
استمسك زين بطقوسه في رمضان قدر الإمكان، قبل أربعة أعوام بدأ برفقة زوجته وبعض أصدقائه في تقديم وجبات الإفطار للمعتمرين والزوار، أراد أن يظل على ذلك العهد "قررنا إعداد الأطعمة مجددًا ولكن هذه المرة للموظفين لأن الحرم فاضي"، ورغم التأثر الاقتصادي الذي نال البعض جراء انتشار فيروس كورونا "إلا أنهم داوموا على المساهمة بالأموال أو المواد الغذائية وزوجتي تُعد المأكولات في منزلنا".
كان موسم العُمرة من كل عام فرصة للموظف بالمسجد الحرام لاكتساب صداقات جديدة "لكن هذا العام كانت فرصة لزيادة العلاقة بين الموظفين وبعضهم بحكم العدد القليل ومدة العمل، أصبحنا مثل العائلة الواحدة"، يقول إنه تم تقليص عدد الموظفين "لخمسمائة في القطاعات المختلفة التي تعمل بالمكان مثل الأمن، الصيانة، والنظافة".
يستعجل زين الأيام حتى تعود الأمور لمجراها، يتمنى برؤية حشود البشر يأتون من بلاد مختلفة ويتآلفون سويًا في الطواف حول الكعبة، يستبدلون بالصدى المميت أصوات الصلوات والأدعية، وفيما أقرّت وزارة الحج السعودية، اليوم الاثنين إقامة الحج هذا العام ولكن بأعداد محدودة من مختلف الجنسيات من الموجودين داخل المملكة، إلا أن الرجل الأربعيني ينتظر "افتتاح المسجد الحرام ثانية لكل المسلمين من بقاع الأرض، هذه أمنيتي الدائمة".
*تم تغيير اسم بطل القصة بناء على رغبته.
تابع موضوعات الملف:
العالم يقيم الصلاة.. حكايات عودة المساجد في زمن "كورونا" (ملف خاص)
ليلة عيد للمصلين.. كواليس فتح المسجد النبوي بعد إغلاقه بسبب "كورونا"
الفتح المُصغّر.. أهل القدس يلتقون "الأقصى" بعد 69 يومًا من الغلق
عبر الإذاعة المصرية.. كيف نَقل"مدني" أجواء أول صلاة جمعة منذ إغلاق المساجد؟
أحلام المصريين بعودة الصلاة في الحرم.. التعلق بأستار الكعبة عبر التليفزيون (تقرير)
عودة مُفعمة بالألم.. حكاية فتح أول مسجد بألمانيا بعد 60 يومًا من إغلاقه
إعادة فتح مساجد إيطاليا.. إمام "ميلانو" من المنبر إلى دفن موتى "كورونا"
صلاة خلف الأبواب الموصدة.. أئمة وعُمال في حضرة المسجد رغم الإغلاق
"ونس في بلاد الغربة".. حكايات العرب مع فتح المساجد في أمريكا
المسجد "بيت" وصُحبة.. عودة أكبر مركز إسلامي في "فينيكس" الأمريكية
"غدًا يلتقي الأحبة".. مصريون يتلهفون للعودة إلى المساجد في زمن الكورونا
بقرارات صارمة.. أول العائدين إلى صلاة الجماعة في العالم رغم "كورونا" (تقرير)
"كالخروج من السجن".. حال عودة المساجد الأردنية خلال أزمة "كورونا"
فيديو قد يعجبك: