قبل رامي مالك.. قصة "العامل البسيط" أول مصري حصل على الأوسكار (صور)
كتب- أحمد شعبان:
المكان: دوروثي تشاندلر، أحد مسارح هوليوود- لوس أنجلوس
الزمان: 7 أبريل 1970
شابٌ قصير القامة، ذو بشرة سمراء، أتمّ عامه الـ37، يتقدّم بين صفوف الجالسين في أمسية حفل توزيع جوائز الأوسكار في دورتها الـ42، يصعد إلى المسرح، ليتسلم الجائزة المرموقة، تقديراً لاختراعه الذي أحدث "ثورة" في حقل الإنتاج السينمائي، وحجز لصاحبه مكاناً في تاريخ الفن السابع، فيما كانت أعين الحاضرين تتساءل عن ذلك المتوّج غير المعروف في أوساط جمهور السينما، حتى إن المذيع تلعثم حين نادى اسمه!
ذلك المتوّج لم يكن ممثلاً أو مخرجاً أو مؤلفاً، ذلك المتوّج قطع رحلة صعبة بدأها مصوراً مساعداً، حتى أضحى واحداً من كبار رجال الصناعة في أمريكا، حين اخترع ما سمي حينها بـ"السيني موبيل" أو الاستديو المتنقل، حاملاً على عاتقه تغيير صناعة السينما وطريقة إنتاجها، باختراع يختصر تكاليف الإنتاج، ويوفر ملايين الدولارات للسينما الأمريكية، ذلك المتوّج هو أول مصري وعربي يفوز بالأوسكار، ذلك المتوّج هو "فؤاد سعيد".
في أسرة ميسورة، ولد "سعيد" بالقاهرة عام 1933، وقبل أن يبلغ عامه العاشر، توفّى والده، وانتقل للعيش مع خاله، جوزيف عزيز، المصور السينمائي الذي كان مديراً لاستديو الأهرام، وقاطناً بجواره، تفتّحت عينا الصغير على عوالم صناعة السينما، ولعَ بها، كان يفضّل اللعب بين الديكورات وغرف المكياج وكشّافات الإضاءة، أسَرته كاميرات التصوير، صباحاً يذهب إلى مدرسته، وفي المساء يعمل في الاستديوهات كمصوّر مساعد.
حكى "سعيد" بفخر كبير عن تلك الفترة في حوار أجرته معه مجلة "الشبكة" اللبنانية بعد حصوله على الجائزة عام 1970، وهو حواره الوحيد مع مجلة ناطقة بالعربية، قال: "كنت مجرّد عامل بسيط بأجرٍ بسيط بلغ خمسة وعشرين قرشاً في اليوم".
كانت بداية لم يكن يتوقعها أحمد فؤاد سعيد – اسمه بالكامل- لمسار حياته، ساقه القدر إليها، ورسمت هذه الفترة جزءاً كبيراً من شخصيته، حتى بات التصوير مهنته، وهو في السادسة عشرة، تدرب على تكنيكاته خلال سنوات دراسته الثانوية، صار يملك فهماً فنياً كبيراً للكاميرات والأضواء والصوت وصناعة الأفلام بشكل عام، وعمل مع عدة مخرجين في أفلام مصرية وعربية، حسب ما قال لـ"بارت شيريدان" المحرر المشارك في مجلة لايف والواشنطون بوست ولوس أنجلوس تايمز، في حوار أجراه لصالح مجلة "أرامكو العالمية"، ونشر في أكتوبر عام 1971.
من استديوهات الأهرام.. إلى استديوهات هوليوود
في أوائل الخمسينيات، تحديداً عام 1953؛ كان "سعيد" في المرحلة الثانوية حين قدم المخرج العالمي روبيرت بيروش إلى مصر، لتصوير فيلمه الشهير "وادي الملوك"، وخطط للاستعانة بطاقم مصري، لتصوير بعض اللقطات الدعائية للفيلم، يعود القدر للتدخل بقوة في حياة سعيد، حين رشحه استديو مصر لتلك المهمة "حصلت على وظيفة مساعد مصور وكان دوري تصوير التريللر، وصورت بطلي الفيلم: روبرت تايلور وإليانور باركر، وكانا من أشهر نجوم العالم وقتها، في أماكن مختلفة بمصر، حماسي كان كبيراً وكنت أهتم بكل الملاحظات التي يقولها مدير التصوير العالمي روبرت سرتس".
انتهى تصوير الفيلم، غير أن أعين "بيروش" التقطت ذلك الشاب، شجّعه على السفر إلى الولايات المتحدة لدراسة فن التصوير السينمائي، أتته الفرصة، لم يكن قد تجاوز العشرين من عمره حين التحق بجامعة كاليفورنيا، عاش ظروفاً صعبة لتدبير نفقاته، في البدء كان يدرس بالجامعة صباحاً، فيما يعمل بإحدى محطات البنزين مساءً، إلى أن بدأ العمل في استديوهات هوليوود للحصول على أجر، كجزء من برنامج دراسة العمل بالجامعة. زادت معارفه وتعددت خبراته، عمقها بزيارات العمل الصيفية إلى استديوهات كبرى في أوروبا واليابان، التي تواصل معها ليلمّ بتقنيات التصوير الأجنبية في ذلك الوقت.
كان ذلك في العام 1957، عندما بدأ دراسته في الخارج، شعر في البداية بما أسماه، في حواره مع بارت شيريدان بـ"فجوة التقدم" في صناعة الأفلام بين هوليوود وبين الأوروبيين واليابانيين، حاول تقليصها، من ألمانيا أحضر كاميرا وزنها حوالي 6 كيلوجرامات فقط بدلاً من الكاميرا التقليدية التي تزن 84 كيلوجراماً، ومن سويسرا أحضر أجهزة صوت حديثة صغيرة وخفيفة، نجح في استخدامها، عرض أفكاره على صناع سينما هوليوود لتطويرها، "لماذا لا تستخدمون معدات عصرية مبتكرة، بدلاً من الكاميرات والمعدات التي مرّ عليها 40 عاماً دون تطوير؟"، سخروا منه ومن تساؤلاته، واجهوه بصلف "كانوا يزدرون ما أقول وغير مبالين بي، كانوا يستخدمون الأضواء الثقيلة وكاميرات قديمة باهتة بدلاً من النماذج الخفيفة والمدمجة التي كان الأوروبيون يحصلون منها على نتائج رائعة، وكانت تعني صناعة الفيلم بطريقة عصرية، لقد صُدمت تماما كيف كنا متخلفين في هوليوود مقارنة مع الأوروبيين واليابانيين".
لم يستسلم، ناقشهم لماذا يرفضون التجديد، أتاه الرد صادماً: "هذه هي الطريقة التي نعمل بها، تعوّدنا عليها، ولا تستطيع أن تتغلب على سنين طويلة من الخبرة حتى نصل إلى هذا"، بخيبة أمل عرض عليهم مرة أخيرة: "لكن الطريقة الجديدة أفضل بكثير، ألا نستطيع على الأقل أن نجرّب؟"، فعادت السخرية والضحك مما يقول.
أُغلقت في وجهه الأبواب، لم ييأس أو يُحبط، وحده كان يعرف مسار رحلته جيداً "كان عليّ أن أفعل ما أريد وأواجههم أو أصمت، هم لا يريدون التغيير، وإذا جئت بشيء جديد فإنهم يحاربونك"، هكذا وصف الأمر في حواره مع "شيريدان"، لذا انخرط في العمل التليفزيوني وأصبح مصوراً متفرغاً للأفلام الوثائقية لشركة CBS، وبعدها عمل مصوراً في سلسلة المغامرات التليفزيونية الأمريكية I Spy TV، على شبكة إن بي سي، مع المخرج شيلدون ليونارد عام 1965.
الطريق إلى الثروة والشهرة.. والأوسكار!
منذ عودة فؤاد سعيد من أوروبا واليابان إلى الولايات المتحدة، ونجاحه في استخدام الأجهزة التي أحضرها من ألمانيا وسويسرا، طغت فكرة واحدة على تفكيره؛ فكرة تقلل الوظائف وتخفّض تكاليف الإنتاج والتصوير السينمائي والتليفزيوني، تمنع هدر الوقت والمال والجهد، عن طريق ضغط معدات استديو كامل في شاحنة متنقلة واحدة، يمكن لها أن تذهب إلى أي مكان، يمكن شحنها في طائرة، وتصبح جاهزة للاستخدام عند وصولها موقع التصوير، درس فكرته جيداً، اختمرت في ذهنه، وقام ببناء أول نموذج لسيارة "سيني موبيل"، بأمواله الخاصة، يضم أصغر أجهزة صوت وأخف معدات تصوير.
ككل اختراعٍ جديد، واجه صعوبات في البداية، ظهرت بعض المشكلات الهندسية في النموذج التجريبي الذي بناه سعيد، كاد مشروعه أن يفشل، غير أن "ليونارد" ساعده، أقرضه أموالاً تعينه على استكمال ما بدأ، صنع سيارة أخرى، تقل سعة 16 قدماً، خرجت بدون مشكلات هندسية، واستأجرها ليونارد على الفور لتصوير عدة حلقات من I Spy.
كان الاختراع انقلاباً في الصناعة أحدثه سعيد، النتائج كانت مُثيرة، خفّض ليونارد طاقمه من 18 رجلاً إلى 11، وخفض التكاليف في الموقع بمقدار الثلث، وأنجز تصوير حلقاته في وقت قصير، مقارنةً بما مضى، لم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، تغييراً كبيراً كان في الطريق، بحلول عام 1968، حين استُخدمت شاحنات "فؤاد سعيد للإنتاج" على 12 عملاً من البرامج والمسلسلات التليفزيونية منها "أيرون إنسايد".
في كل خطوة من خطوات الشاب الواثقة، كان شيئاً واحداً يلوح أمام عينيه: "كيف يغزو هوليوود باختراعه الجديد، كيف يجذب منتجيها بأفلامهم ذات الميزانيات الكبيرة، كيف يجعلها تنافس الأفلام الأوروبية؟"، بعد أن رسخت أقدامه في صناعة الحلقات التليفزيونية، كان على موعد مع تغييرٍ أكبر، أدرك أنه يحتاج إلى كثير من "السيني موبيل"، كخيار وحيد لجذب منتجي هوليوود، فقام بدمج شركته مع شركة مع شركة Taft Broadcasting Company، التي تضم محطات تليفزيون وراديو، وفّرت له الصفقة مبلغ 5.1 مليون دولار، وصار رئيساً لشركة Cinemobile Systems التي حلت محل شركة فؤاد سعيد للإنتاج كشركة تابعة ومملوكة بالكامل لشركة Taft.
في ذلك الوقت، كانت الأفلام في هوليوود تتكلّف أكثر من بلدان أخرى، مقاييس الأجور كانت فلكية، يقول محرر أرامكو، كذا الجمهور بات متنوع للغاية وانتقائي كذلك، وبالتالي صغير، لذا سعى المنتجون إلى تعويض بعض التكاليف، وتلبية طلب الجمهور بأعمال واقعية، والذهاب أكثر وأكثر إلى المواقع والأماكن التي يدور حولها العمل، دون بناء استديوهات باهظة الثمن، لذا جاء المصري فؤاد سعيد في الوقت المناسب.
ويمضي سعيد في شرح ذلك: "قوافل الشاحنات التي تحمل معدات التصوير المرهقة كانت تستغرق وقتاً طويلاً للذهاب إلى المواقع، ثماني وتسع وعشر شاحنات في قافلة، كل واحدة تضيف سائقا إلى كشوف المرتبات، يستغرق الأمر ساعات في كل مرة، كل ساعة تُكلف آلاف وآلاف الدولارات، لذا قمت بتصميم استديوهات خاصة لجعل التصوير سريعاً وفعّالاً ورخيصاً"، فيما كان يؤجر الوحدة بأسعار تتراوح من 225 دولار إلى 1500 دولار في اليوم، حسب درجة استعمالها.
بدأت ثروة "سعيد" تزداد يوماً بعد آخر، فيما كان الجميع في هوليوود "يدورون في أماكنهم"، على حد تعبيره، بات لشركته سجل نجاح حافلاً، حققت له أرباح تقدر بملايين الدولارات، توج ذلك النجاح بحصوله، وهو في الـ37 من عمره، على جائزة الأوسكار للتميز التقني (الفئة الثانية)، عام 1970، وقد كان يملك حينها 13 سيارة "سيني موبيل"، كل واحدة منها تحمل كل ما يحتاجه التصوير الخارجي؛ آلات، كاميرات، معدّات إضاءة، آلات رافعة، ومولدات، وغيرها.
شرفٌ كبير، ولحظة لا تنسى في تاريخ "فؤاد سعيد"، بدأت معها رحلة المصريين مع الجائزة الأضخم. قال عنه محرر صحيفة "الكريستيان ساينس مونيتور" حينها: "إن أبرز حدث وقع في مهرجان الأوسكار هذا العام، هو فوز فؤاد سعيد بالأوسكار، نتيجة لاختراعه الفني الذي أدى إلى تطوير الإنتاج السينمائي"، مختتماً كلامه بأنه "سيأتي اليوم الذي تغلق فيه استديوهات السينما أبوابها، وتضع نفسها في أحضان فؤاد سعيد"، حسبما نقلت مجلة "الشبكة" اللبنانية في عددها الصادر في يونيو 1970.
الجائزة التي حصل عليها سعيد، ظهرت لأول مرة في حفل الأوسكار عام 1931، أي بعد أربعة أعوام من تأسيس الجائزة الرفيعة التي تمنحها أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة بالولايات المتحدة الأمريكية، كفئة جديدة تُمنح لأصحاب الإنجازات العلمية والتقنية التي تُحدث تأثيراً محدداً على تقدّم صناعة السينما، وباتت واحدة من أبرز الجوائز في موسم جوائز الأوسكار، حسبما يوضح الموقع الإلكتروني الخاص بالأكاديمية.
لم تشغل فؤاد سعيد الجوائز أو الأرباح ولا خطط لها، بقدر ما همه الوصول إلى اختراع أجهزة جديدة، وواجه تحديات كثيرة كونه مصرياً عربياً مسلماً ببشرة سمراء، على حد قوله، إلا أنه لم يثنه شيء عن طموحه، ظل متحمّساً لأفكاره، كالواثق يسعى لتحقيقها، إلى أن فرض اختراعه على هوليوود، وصار واحداً من رجالها الكبار، ورُغم نجاحه الكبير، كان كل همه توسيع مشاريعه، المشاركة في تمويل وإنتاج الأفلام، الدخول باختراعه إلى أماكن جديدة كالشرق الأوسط، يقضي وقته في مواقع التصوير التي تتكفل بها وحداته من الـسيني موبيل، يطير إلى تلك المواقع أينما كانت بالعالم، لمتابعة عملها بنفسه.
يصرّ على معرفة كيف يتفاعل طاقم العمل مع وحداته، ما الذي يمكن تحسينه، كان طموحه غير محدود، التطوير والتجديد رفيقاه "شركتي ناجحة، نعم. لكن ليس من السهل على شخص واحد مثلي أن يأخذ على عاتقه صناعة كاملة ويقول سأقوم بتغيير هذه الصناعة، المهمة ليست سهلة، وأبحث عن التطوير دائماً، معظم الوحدات لا تزال مجرد شاحنات مزودة بمعدات محملة بها. هناك الكثير من الأعمال في هذا المجال أكثر من ذلك"، على ما قال في حواره مع أرامكو العالمية عام 1971، فيما ينقل عنه محرر "الشبكة" قوله: "لقد حاولوا في هوليوود اختراع شيء مماثل ولكنهم فشلوا فنحن وحدنا".
كنتيجةٍ طبيعية لسعيه الدائم نحو التطوير والنجاح، زاد عدد وحدات السيني موبيل التي تملكها شركته ووصل إلى 38 وحدة متنقلة، واخترع سيارات جديدة أكبر حجماً تسع إلى جانب المعدات 45 راكباً، ولم يغفل أن يزودها بحجرات لتغيير الملابس وحمامات وحجرة طعام، لتوفير الراحة للممثلين، وقد قال سعيد لمحرر "الشبكة" إنه يخطط ليصل عدد السيارات إلى 50 سيارة مع نهاية عام 1971.
وفي عام 1970 وحده؛ أنتج "سعيد" عشرات من الحلقات التليفزيونية، وأكثر من 70 فيلماً رائداً، وهو ما يقرب من ثلاثة أرباع عدد من الأفلام الروائية الأمريكية التي تم إنتاجها خلال العام، وفق محرر أرامكو، كما شاركت وحداته في إنتاج عدد من الأفلام الناجحة مثل فيلم "العراب" The GodFather، الذي حصد 3 جوائز أوسكار في دورتها الـ45، وفيلم جون واين The Cowboys، الذي تم تصويره في جميع أنحاء جنوب غرب المحيط الهادئ.
وفي عددها الصادر يوم 27 أغسطس 1971، وصفت صحيفة النيويورك تايمز فؤاد سعيد بـ"الشجاع"، ومضت تتحدث عن اختراعه الذي "غيّر شكل إنتاج الأفلام في الولايات المتحدة"، وأشارت إلى شركات الإنتاج الرائدة التي عمل معها سعيد مثل: Universal و Paramount و Goldwyn وغيرها.
كذلك عمل مع مجموعة كبيرة من الفنانين العالميين منهم مارلين مونرو، اليانور باركر، و أنتونى كوين، وجاك ليمون، و ريتشارد هاريس، وروبرت تايلور، والمخرج ووودي آلن، وكثيرين غيرهم.
لم يتوقّف الأمر عند ذلك أيضاً، بدأ سعيد، الذي وصفه البعض بـ"هنري فورد السينما الأمريكية"، في ابتكار "الفيديو موبيل"، الذي ينقل الصوت والصورة معا لاسلكياً، حلق بالإعلام والتصوير بعيداً بعيداً حين نقل في بث مباشر زيارتي الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى بكين وموسكو، عام 1972، بطلب من الإدارة الأمريكية، وأذيعت مراسم الزيارتين في جميع أنحاء العالم بجودة وتقنية عالية، وبهذا دخلت الصورة التليفزيونية عصر الأقمار الصناعية.
"لم يهتم به أحد في مصر!"
على عكس الضجّة الكبيرة التي حدثت، أواخر فبراير الماضي، بعد أن طيّرت لنا الصحف ووكالات الأنباء خبر فوز رامي مالك، 37 عاماً، ذي الأصول المصرية، بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل، عن دوره في فيلم "بوهيميان رابسودي" أو "الملحمة البوهيمية"؛ كان فوز "سعيد"، الذي تربى وعاش في مصر حتى بلغ العشرين من عمره، بالأوسكار "في صمت"!، حتى حينما تحدث عنه المصور السينمائي الكبير سعيد شيمي، في كتابه "تاريخ التصوير السينمائي في مصر 1897 – 1996"، الذي صدر عام 1997 عن المركز القومي للسينما، باعتباره أحد "الشهب المصرية اللامعة في السينما العالمية"، قال إنه "لا يعلمه أحد إلا بعض السينمائيين المُخضرمين، ولم يسمع عنه أحد من السينمائيين الموجودين على الساحة الآن"، دون أن يتطرق إلى فوزه بالأوسكار.
لم يهتم أحد في مصر بخبر فوز "سعيد" بالأوسكار؛ زيارة إلى مركز الأهرام للميكروفيلم والبحث في أرشيف صحيفة الأهرام في ذلك الوقت أكدت ذلك، وزيارة أخرى إلى أرشيف مجلتي "الكواكب" و"روز اليوسف"، أكدت خلو أعدادها من ذكر الخبر، وحدها مجلة "الشبكة" اللبنانية، التي صدر العدد الأول منها في يناير عام 1956، أفردت 4 صفحات عن فوز "سعيد" بالأوسكار، وذلك في عدد يونيو 1970.
محمود عبد الهادي، محرر المجلة، الذي حاور سعيد بعد فوزه، وعنون موضوعه بـ"أول مصري يفوز بالأوسكار.. في صمت"، كان ينتظر أن تُثار ضجة كبيرة حول هذا الموضوع، في مصر وفي هوليوود، لكن خاب أمله، ثم مضى يتحدث عن اختراع فؤاد سعيد "العجيب"، وعدد مزاياه، كذلك لفت إلى خطط الشاب المصري الطموحة في هوليوود، معتبراً أنه ينطبق عليه مقولة والت ديزني، الذي قال ذات يوم : "إن العمل في مدينة ديزني لن يتوقف"، واعتبر أن فؤاد سعيد يفعل الشيء نفسه في هوليوود.
ذهب فؤاد سعيد إلى مصر بعد فوزه بالجائزة، إلا أنه "لم يتكرم واحد من السينمائيين بالاتصال به، وبالتعرف على شيء من اختراعاته"، على ما قال محرر "الشبكة".
أسباب غياب الاحتفاء من وجهة نظر الناقد الفني طارق الشناوي، تتعلق بالتحولات الكبيرة التي شهدها البث التليفزيوني والانتشار الكثيف للفضائيات، خاصة مع بداية الألفية الثالثة، والتي استطاعت أن تجعل الناس تشعر بأهمية حفل الأوسكار وتترقب لحظة إعلان الفائزين، فضلاً عن التطورات التكنولوجية التي تُطلعك على ما يحدث في العالم عبر شاشة هاتفك، كل هذا لم يكن متاحاً حين فاز "سعيد" بالأوسكار، على عكس الحال مع رامي مالك، حيث زاد الاهتمام بالأوسكار باعتباره الحدث السينمائي الأهم في العالم.
غاب خبر فوز فؤاد سعيد بالأوسكار، بالرغم من أن الصحافة المصرية كانت تهتم بأخبار السينما العالمية في السبعينيات وقبلها، وشاركت عدة أفلام في مهرجانات دولية، أيضًا يذكر الشناوي أن بداية معرفة المصريين بالأوسكار بدأت عام 1958، حين اختار المركز الكاثوليكي فيلم "باب الحديد"، ليشارك في الفئة التي أضافتها الأكاديمية التي تمنح الجائزة، فئة "أفضل فيلم أجنبي"، قبل ذلك بعامين، وبعدها توالت اختيارات المركز وبعده نقابة المهن السينمائية، لأفلام مصرية، غير أنه لم يصل أي فيلم مصري حتى للقائمة الطويلة، باستثناء فيلم "الميدان"، إنتاج مصري وأمريكي، الذي وصل للقائمة القصيرة في قسم التسجيلي الطويل، عام 2014، دون أن يفوز بالجائزة، وبالتالي ليس لنا رصيد يذكر مع جائزة الأوسكار، حسبما ذكر الشناوي.
سبب آخر يطرحه الناقد كمال رمزي، يرى أن إنجاز واختراع "سعيد" أقرب إلى التكنولوجيا منه إلى الإبداع الفني، يتعلق بالصناعة وتكنولوجيا التصوير وليس مرتبطاً ببطولة فيلم أو إخراجه مثلاً "هي جائزة محترمة ولازم نفرح بيها طبعاً، احنا والعالم كله بنغطي فعاليات الأوسكار من زمان، لكن محدش بيهتم بالحاجات التكنولوجية، الاهتمام دائماً وتسليط الضوء على النجوم الذين يراهم المشاهد على الشاشة، وليس من يقفون وراء الكاميرات"، لذلك يمكن اعتبار أن جائزة رامي مالك هي الأولى من نوعها، لأنها مرتبطة بفيلم معين ودور معين، شاهده الجمهور وتفاعل معه، وفق ما يوضح رمزي.
بينما يرى شهدي عطية، المهتم بالتاريخ وأرشيف الصحف والمجلات، والذي أمدّنا بعدد مجلة "الشبكة"، أن الظرف السياسي وقتها، ربما ساهم في إغفال ذكر جائزة سعيد، حيث كان حديث الصحف، وبينها الأهرام –الصحيفة الأعرق- يتركز على ما بعد نكسة 1967، وما تلاها من أحداث في مصر، وكيف ستدير مصر معركتها مع إسرائيل.
تأخَّرَ تكريم مصر لـ فؤاد سعيد، 40 عاماً، حين قرر مهرجان القاهرة في دورته الـ34، عام 2010، برئاسة الفنان عزت أبو عوف، تكريم عدد من المبدعين المصريين في الخارج، وكان منهم فؤاد سعيد، وأقيمت له ندوة بأحد فنادق القاهرة، وتحدث عن ملامح من رحلته في أمريكا.
تكريم متأخر، يعتبره "الشناوي" تقصيراً في حق مبدعينا، يلازمنا دوماً، فيما تقول الناقدة ماجدة خير الله: "احنا معندناش أي قدرة على استثمار نجاح حد، مش استغلال، لكن نحتفي بيه وندعمه"، تضرب مثالاً بالجدل الذي أثير مؤخراً عقب فوز "مالك" بالجائزة المرموقة، والحديث عن أنه "ليس مصرياً خالصاً، فهو مولود في الولايات المتحدة"، أو أن الدور الذي قام بتمثيله في فيلمه الأخير لا يناسب طبيعة مجتمعنا المصري "احنا مهمتنا إفساد الفرحة بأي شيء، ورامي مالك ليس جدوده فقط مصريين عاشوا في مصر، إنما أبوه وأمه مصريين من الذين عاشوا في مصر وهاجروا إلى أمريكا"، تقول ماجدة، وتتمنى أن يتم الاحتفاء به في الدورة المقبلة من مهرجان القاهرة السينمائي.
بعد 17 عاماً من العمل في مجال "السيني موبيل" وصناعة السينما، اختار فؤاد سعيد لحياته مسارات مغايرة، بعد أن حقق أرباحاً طائلة، وفاز بالأوسكار؛ حصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال والاقتصاد، واتجه إلى الاستثمار في مجالات عدة، كالسيارات والبورصة، ساهم فى تأسيس مجموعة كارلايل جروب التى تأسست عام 1987 شاركه فيها رؤساء جمهورية ووزراء دفاع وخارجية فى الولايات المتحدة الأمريكية، وتدير صناديق للاستثمار، سكن في قصر روتشيلد فى جنيف بسويسرا، وأدار بنكاً استثمارياً رأسماله 20 مليار دولار، وبات واحداً من أكثر المصريين ثراءً في الخارج. وفي التسعينات قرر أن يستثمر 100 مليون دولار في شراء مصنع أسمنت بمصر، غير أنه دخل في منازعات قضائية، وخرج منها بتجربة سيئة.
فيديو قد يعجبك: