قصة مصورة| أطفال الفواخير.. "زهور تحمل الطين"
تصوير - جلال المسري:
معايشة - مها صلاح الدين:
داخل ورشة إبراهيم، كان صوت أم كلثوم يصدح من بعيد، "كنت بشتقلك أنا وانت هنا.. بيني وبينك خطوتين"، وكان كل في مكانه، الطين على الأرض، وعامل شاب يجلس خلف "الدولاب" (أداة لتشكيل الخزف تشبه العجلة)، وطفلان بملابس رثة، صبي وفتاة، يقفان أمام مبنى حجري ذي فتحة كبيرة في المنتصف، ممتلئ بالحطب، يدعى فرن.
في الخارج، الأجواء شتوية، أسوار مصر القديمة الشاهقة تبدو وكأنها حصون مرصعة بالطين والألوان، تحمي من هم بداخلها، وتخفي ما يفعلونه عن العيان.
في مدينة الفواخير - بطن البقرة سابقًا - مشروع من المفترض أنه يدعو للفخر، أطلق برغبة مصرية، ومنح أجنبية منذ عقود، ليحفظ ما تبقى من تراث الطين، وحرفة الخزف، بشكل احترافي يحافظ على البيئة، والمهنة.
وبالداخل، أطفال بعمر الزهور يحملون الطين، يعملون لسد رمق اليوم، وآباء يخافون على صنعتهم من الاندثار، يودون أن يورثونها إلى أبنائهم منذ نعومة أظافرهم.
داخل أحد المباني المقببة ذات الطراز العربي، تمسك فرحة - 7 سنوات - بجاروف معدني له يد خشبية طويلة، بأنامل دقيقة، تجمع قطع الطين المنثورة حول الفرن، أما شقيقها كريم - 14 سنة - يقف أمامها، ممسكًا بـ "منخل" - مصفاة رمال - يستقبل ما تجمعه الصغيرة.
فرحة وكريم
ينهمك الصغيران في التنظيف حول الفرن، ويحملان ما قام بتشكيله صاحب الورشة من الطين، بأياد مرتعشة ليجف في الشمس، وبعد ساعات، يحملانه إلى الفرن من جديد، لينضج ويصبح خزفًا.
يعمل كريم، الذي يعيش في الشارع الخلفي ببطن البقرة، في هذه المهنة منذ 9 سنوات ويتقاضى 250 جنيه يوميًا. فيما بدأت شقيقته الصغرى مساعدته مقابل 100 جنيه فقط، منذ أربع سنوات.
بدأب شديد، يعمل الصغيران يتحدثان بحذر وفي وجود صاحب الورشة، الذي حدد يوميتهم بحسب قدرة أكتافهم على حمل الأثقال، مثلهم مثل ما يقرب من 20 طفلا، تتراوح أعمارهم بين الـ 6 والـ 15 سنة، والذين يعملون داخل 20 ورشة فقط لازالت تعمل داخل أسوار المدينة.
تذبل عيون الصغيرين، ويتهربان من جميع الأسئلة، ويلزمان الصمت عند إعادة السؤال عن أحوال والديهما، أو عن المدرسة.
بدر
في الورشة المقابلة، يجلس بدر - 12 سنة - على "الدولاب" أمام والده، يشكل قانية خزفية بعناية، يمسك مشرط صغير، ويفرغ فتحات مثلثة ومربعة من الطين، فتبدو كزخارف عربية.
بدأ بدر العمل مع والده في الورشة منذ عامه الأول في المدرسة. يحمل الطين مثل بقية الأطفال، ويتعلم الصنعة، يقول والده: "معدش فيه صنايعية، فبقينا بنجيب ولادنا".
يتفاخر بدر بما يستطيع أن يفعل، لكنه يؤكد أنه يحب المدرسة أكثر، يحدق به والده فجأة، وكأنه معترض على ما يقوله، رغم أن قانون العمل المصري والمواثيق الدولية، تجرم عمالة الأطفال تحت 18، ويرد مسرعًا: "لازم يتعلم صنعة، مين هيشغل الورشة من بعدي؟"
ورغم كل ذلك، لا يتقاضى "بدر" يومية نظير عمله، يقول والده: "بأكله وأشربه وألبسه وأعلمه وبديله مصروف".
يحيى
لم يبال "يحيى" -15 سنة-، بالموجة الباردة التي اجتاحت البلاد مؤخرًا، خرج يتسكع ببطء من ورشة لأخرى، بملابس صيفية خفيفة، ملطخة بالطين، مشاكسًا زملاءه هنا وهناك.
يحيى، لم يطل عهده بالمدرسة طويلًا، خرج منها في السنوات الابتدائية الأولى، يقول ساخرًا: "كنت خايبان وفاشل"، لديه 4 أشقاء، يسكنون مثل أغلب العمال فيما تبقى من بطن البقر، المنطقة المصنفة ضمن العشوائيات الأعلى خطورة، يعمل اثنان من أشقائه - صبي وفتاة - مثله أيضًا في الفواخير، وأخت كبرى تزوجت.
يحيى وإخوته يعولون الأسرة، بعدما توفي الأب، الذي كان يعمل أيضًا في الفواخير، ولم يجدوا أمامهم غير حرفته للعمل بها. اكتسى وجهه بالجدية قليلًا وهو يعلن عن أمنياته، بأن يمتلك ورشة هنا، ويكون لديه "شغيلة"، كما يعمل هو.
ملك
في الصف الأخير من الورش، نهاية "المدينة"، بدت ملك، صغيرة كعقلة الإصبع، عمرها لا يتعدى الـ 6 سنوات، ترتدي ملابس منزلية بالية، وقبعة صوفية، ترفع كفيها إلى الأعلى، وتحمل على كل منهما ثلاثة هياكل كبيرة من الخزف، تنقلهم إلى داخل الورشة.
تضعهم وتهرول لتلعب، قبل أن يناديها صاحب الورشة، فترد عليه ببراءة مشاكسة، على طريقة الصبيان، حتى أن الأغلب يتعثرون في معرفة أنها فتاة، في البداية.
ملك، مثل أغلب الفتيات في "مدينة الفواخير"، تعمل برفقة أشقائها الصبية، لكنها تتقاضى نصف ما يتقاضون من يومية، لكونها فتاة صغيرة، تفرح بما تجلبه من أموال "هكبر وأتعلم أقف عالدولاب".. تقول ملك، وتهرول ثانيًا.
أسماء
أما "أسماء" أكبر فتاة بالقرية، فتدرك أنها تعمل في نفس المهنة، لسد حاجة عائلتها، والدها "فواعلي"، ووالدتها بائعة خضروات بسيطة، أما هي فحظها العثر جعلها لا تستطيع اكمال تعليمها. زاد الجير المتناثر من الخزف، شحوب وجهها المستكين، الذي لا يبتسم، "بنشتغل عشان نجيب لقمتنا، هنعمل إيه؟".. تقول أسماء، قبل أن تحمل أكوام الخزف على ذراعيها، ورأسها، وتمضي.
حازم
جلس حازم إلى جوار جده، الحاج صلاح، بساقين متدليتين من أعلى طاولة "الدولاب"، يحدق في يدي جده، الذي انهمك في تشكيل الطين، كان فتى جده المدلل، ينال نصيبه من التعليم كأغلب الأطفال في عمره، ويأتي إلى الفواخير في أيام الإجازة، يتعلم الصنعة من جده، ويساعده في حمل كتل الطين الصغيرة، ويتقاضى "10 جنيهات" في اليوم، نظير عمله.
حازم، صاحب الـ 7 سنوات، من أسرة ميسورة الحال، والده يعمل تاجر فواكه، دائمًا ما يريد أن يخرج معه في الإجازات للعمل معه، لكن الصبي دائمًا ما يرفض، يتلعثم الصغير وهو يعبر عن رأيه في عبارات مقتضبة ومتقطعة.. "أنا بحب جدي، وبحب الطين، بيديني فلوس وبيخليني ألعب، وبيعلمني أبقى زي".
فيديو قد يعجبك: