في سوق المستعمل.. تاجر يبحث عن مشتري "لم يأتِ" (معايشة)
كتب- أحمد شعبان وإشراق أحمد:
تصوير-نادر نبيل:
في سوق المستعمل، وقفت السيارات في انتظار مشتر "لم يأت"، الحركة هادئة، والتجار يمرّ الوقت ثقيلاً عليهم، بعضهم جلس أمام سيارته يقلب في هاتفه، وآخرون جلسوا في شكل دائري يشكون أحوالهم إلى أنفسهم، ترتسم على وجوه الكثير علامات الأسى، يتحسرون على ضجيج اعتادوه لسنوات، وبعضهم انشغل بغسل سيارته استقبالا للحضور القليل.
كان يوم الأحد الماضي استثنائيًا على كافة المستويات، في المعتاد ينتظر التجار عدد "زبائن" أقل عن يوم الجمعة المعروف بكونه التجمع الرسمي لمرتادي المكان المعد رسميًا لاستقبال المركبات للبيع والشراء منذ عام 2004، لكن مع مطلع يناير خابت آمال تجار سوق المستعمل في حركة البيع كما حدث مع الراغبين في امتلاك سيارة، بعدما ظنوا أن إعفاء السيارات الأوروبية من الجمارك سيخفض الأسعار.
من الإسكندرية، يأتي عماد يونس إلى الحي العاشر في مدينة نصر، طيلة نحو 30 عامًا قبل أن يتشكل السوق بهيئته الحالية. خمس سيارات يعرضها للبيع، لكن يومًا بعد الآخر يخيب أمله، ويثقل كاهله "وقف الحال".
لم يشهد الرجل الخمسيني ركود كهذا، يرسم صورة لوضع السوق اليوم: "الأول كنا بنبيع 5 أو 6 عربيات في اليوم، وفي أسوأ الأحوال كان يبقى 3 عربيات، لكن أحنا دلوقت في فترة مفيهاش بيع خالص".
ممسكًا بجردل ينثر ما فيه من ماء كوسيلة لكسر الجمود البادي، لخص يونس الوضع "السوق مات" لكن ميعاد دفنه لم يحن بعد، يقول بحسرة "الوشوش حزينة كأننا في ميتم، نتمنى حد ينفخ فيه الروح تاني، احنا تعبنا وده أسوأ وقت عدّى علينا".
يرى يونس، أحد أقدم التجار المعروفين بالمكان أن السبب في الأزمة هي الحالة العامة للبلد "كل حاجة غليت". في شهري ديسمبر ويناير يكون أصحاب السيارات على موعد مع ركود في حركة البيع، يعرفونه ويستعدون لذلك "لكن السنة دي حالنا واقف من شهر 10، حاجات كتير اتجمعت ضدنا"، فيما يبدي استغرابه مما وصفه بـ"عزوف" المستهلك عن الشراء فطالما كان هناك زبونًا يشتري حتى في أوقات الأحداث غير المتوقعة.
أطلق يونس ضحكة عالية بينما يتذكر. قبل ثمان سنوات، تحديدًا في الثامن والعشرين من يناير 2011، المعروف بـ"أحداث جمعة الغضب"، وبينما كانت القاهرة ومحافظات عدة في مصر تخوض مخاضاً صعباً، والمحتجون يملئون الشوارع؛ أتى الرجل من الإسكندرية "كان معايا 5 عربيات، بعت منهم 3 وفيه ناس تانية باعت"، واستمر ذلك، عل ما يحكي الرجل، طوال الفترة اللاحقة، رغم ما شهدته مصر من احتجاجات في أيام الجمعة، بطول البلاد وعرضها، وعلى رغم تحذيرات أقاربه له بالقدوم إلى القاهرة، لم يمنعه شيء لأن "مكنش فيه أسبوع مش بنبيع".
ما بين مشهد السيارات المنتشرة، كان وجود أحمد حسن وزوجته لافتًا، أخذت أعينهما تطوف بين السيارات دون أن تغفل عن ركض صغيرهما حسن بالجوار، يزور الزوجان القادمان من الإسكندرية سوق السيارات لأول مرة، استغلا وجدوهما في القاهرة لزيارة بعض الأقارب لعلهما يجدا ما يبحثا عنه؛ سيارة صغيرة تعينهما وقت الزحام يكون سعرها في حدود 50 ألف جنيهًا.
لجأ حسن إلى المستعمل مستندًا على مدخراته، لا يتابع الرجل العشريني حركة البيع والشراء لكن ما يعمله "أن العربيات الجديدة مش هلاقيها بالسعر اللي عايز أجيب في حدوده"، لم تؤثر عليه حالة الخوف من انخفاض الأسعار في حالة البيع أو الشراء، التي لدى معارفه في ذلك الوقت "لأن بالنسبة لي السعر اللي تحت 100 ألف جنيه مبينزلش بالعكس بيزيد".
لم يكن حال سوق السيارات المستعملة كما هو عليه الآن، اعتاد المهندس خالد دياب، صاحب مركز لفحص السيارات داخل السوق، أن يأتيه في أيام (الجمعة والأحد) ما لا يقل عن 30 سيارة، يرغب مشتروها في التأكد من سلامتها وصلاحيتها للركوب، يلمس دياب تغير الأحوال منذ شهر نوفمبر الماضي، قلّ عدد السيارات التي تأتيه لأكثر من النصف "يوم الجمعة اللي فات مجاش غير 6 عربيات"، وأمس، الأحد، لم تأته سيارة واحدة حتى الثانية عشر والنصف ظهراً.
المضطرون فقط مَن يُقبلون على الشراء والبيع، والمظلومون في رأي دياب هم التجار، يأتون من محافظات مختلفة، ويعودون أدراجهم دون عائد، وهذا الوضع لم يشهده دياب منذ وطأت أقدامه السوق قبل 3 أعوام "وده مش متعلق بإن المشتري بطل يلجأ لمراكز فحص مثلا ولكن مفيش بيع بسبب اتفاقية زيرو جمارك".
مطلع يناير الجاري، تم تطبيق الشريحة الأخيرة من التخفيضات الجمركية على السيارات الأوروبية، حوالي 23 علامة تجارية أوروبية وغير أوروبية أعلنت تخفيض أسعار أكثر من 170 طرازاً جديداً، بنسب تراوحت بين ألفين وحتى مليوني جنيها، فيما رأى العملاء أن هذه التخفيضات غير عادلة، ما جعل حملة "خليها تصدي" تنشط مُجدداً، وطلب مؤيدوها بمقاطعة شراء السيارات لحين انخفاض الأسعار، يُرجع البعض الركود إلى تأثير الحملة، بينما يرى "عمر علي" غير ذلك.
يرى الرجل القادم من محافظة الشرقية أن حالة الركود الحالية "طبيعية" في هذا الوقت من العام، يقول إنه باع سيارة في سوق الجمعة الماضي "أكيد الزبون ده بيشوف الكلام على النت والتليفزيون، اللي عايز يشتري هيشتري"، يبدي استغرابه من المطالبة بانخفاض أسعار السيارات في حين أن أسعار الوقود وقطع الغيار في ازدياد.
"العربيات هتنزل في حالة واحدة لو الدولار رجع 6 جنيه وده مش هيحصل"، يقول عمر بثقة إن الحملة لن تؤثر على الأسعار، بل ستمضي في طريق الزيادة كعادتها.
التململ كان رفيق البائعين في سوق السيارات، بعد انتظار أكثر من ربع الساعة، جلس فيها محمود عباس يحك يديه، تقدم بخطوات نحو سياراته "رينو" رمادية اللون موديل 2004، وضع على زجاجها الخلفي لافتة كتب عليها "للبيع" ورقم هاتفه المحمول. 5 شهور يتردد عباس على سوق السيارات في يوميه الجمعة والأحد أملاً في إيجاد مشتري "كنت شاريها بـ95 ألف من حوالي 6 شهور عايز ابيعها تجيب حتى 85 ألف لكن مفيش زبون كله بيسأل ويمشي"، مضطرًا يفعل الرجل الأربعيني، بعدما تعذر في بعض الأموال للإنفاق على أسرته كما يقول.
لأسباب مختلفة يذهب أصحاب السيارات لسوق المستعمل "إما تكون قارفاه، الزنقة، عايز يجيب حاجة أفضل" كما يقول عارف الهواري، وأما الهدف الأخير هو مبتغاه، خاصة وأنه يستهلك سيارته التي تعينه وأسرته في مشاوير العمل من فيصل إلى جامعة عين شمس حيث يعمل.
من 2003 يمتلك عارف الهواري سيارة، سيات 28، اشتراها حينها بـ6 آلاف، ومن ثلاث أشهر فقط اشترى رينو مستعمل بـ75 ألف جنيهًا، غير أن الأعطال المعروفة بين المستعمل تجعل صاحبها يعتاد فكرة التغيير سواء قصرت أو طالت المدة كما يقول. يعقد النية للشراء لكن الأسعار لا تروق له ولم يجد حتى انتصاف اليوم ما يرضي جيبه في اليوم الأول لجولته، يبتسم الباحث عن سيارة قائلا "خلاص خليها تصدي"، ومع ذلك يرى أن حالة البيع والشراء لم تتغير، لكن ما لمسه هو تمسك البائع بالسعر المعروض، يرى أنه "كسبان فيها ليه متتهاونش".
تقارب الساعة الثالثة عصرا، لازال عدد المتواجدين لا ينافس السيارات الواقفة، لكن لا يجد مصطفى حمدي ضررا في هذا.
في منتصف ساحة السوق، جلس حمدي أمام طاولة وضع عليها مفاتيح ثلاث سيارات يعرضها للبيع، لا تبدو على ملامحه الأسى حال كثير من المتواجدين، لا يبرح هاتفه المحمول، كلما استقبل مكالمة، كأنما يحرص عل إسماع من حوله متحدثًا بثقة "لا بنبيع والحال هيمشي ده رزق كل واحد هيجيله"، ثم يعود لمتابعة ما يحدث في الفضاء الإلكتروني.
منذ عام 2001 بدأ حمدي رحلته مع السيارات، اتخذ مكانه في السوق "العربية بالنسبة لي فلوس والفلوس هي عربية.. بيعت رخيص هشتري رخيص والعكس"، يعتبر الرجل الأربعيني أن الاحتكام في التجارة لـ"العرض والطلب"، ولا يستطيع أحد إجبار البائع أو المشتري على شيء.
يزيد عدد السيارات في ساحة السوق، يسأل أحدهم حمدي عن السيارة الحمراء الصغيرة الجالس أمامها، فينفي البائع أنها تخصه. يرى حمدي أن ما يقال عن ركود السوق "كتر كلام"، يعتبر أن الوضع القائم مؤقت "الزبون هيزهق لما يلاقي أن الأسعار مش هترخص يعني العملية كلها وقت"، ينتظر شهور الرواج في يونيو ويوليو، مشيرًا إلى أنه يخزن بعض السيارات حالياً لبيعها "العربية اللي فيها حادثة هي اللي تزعل لكن العربية الجديدة إياكش تقعد العمر كله".
بجلبابه الصعيدي يقف طنطاوي عبد الحليم أمام عربيات ذات الإنتاج القديم نسبيا، كذلك يفعل طيلة 4 شهور، يرغب عبد الحليم في بيع سيارته المرسيدس موديل 80، يحتاج الأموال لمساعدة ابنه المقبل على الجواز، يستطلع بعينيه العربيات الواقفة بينما يأمل ألا يكتفي ببيعها فقط. ودّ لو وجد من يتبادل معه سيارته التي بلغت تكلفتها في السوق وفقا له 65 ألف جنيها، فيتفاوض في فارق السعر، ويجمع بين الحسنيين من الاحتفاظ بسيارة والحصول على مال يعينه على حاجته.
كذلك بحث التجار عن طرق أخرى للتحايل على الوضع الراهن، رأى يونس، أحد أقدم التجار في السوق، أن يخفض من سعر السيارة 15 ألف جنيه، رضي بالخسارة، ورغم ذلك لا يجد مشترٍ، لذا اتبع وسيلة أخرى لم يعتدها من قبل، أن يبيع لتاجر آخر "بنبيع لبعض وننستبدل سيارات بأخرى عشان نحرّك العجل ونغيّر عتبة، أهو نظام جديد بنضحك بيه على نفسينا ونراضيها".
على مدار خمس ساعات، ظلّ المشهد القائم في السوق هو زيادة عدد السيارات، مقابل قلة الباحثين عنها، حتى في جانب بيع السيارات الأقل سعراً، فرغم أن "محمد حمد الله" توقف قبل 4 سنوات عن تجارة السيارات ذات الفئة العالية، بعد تحرير سعر صرف الجنيه، إلا أنه ينتظر لأكثر من أسبوعين دون أن يأتي مشترٍ "دي حاجة مش عادية أنا شغال في عربيات سعرها مش بيزيد عن 23 ألف جنيه ومحدش بيشتري".
فيديو قد يعجبك: