فراعنة "اليومين دول" (قصة مصورة)
كتبت- رنا الجميعي:
تصوير: محمد حسام الدين
عند 3 شارع البحر الأعظم يخلع عاملو القرية الفرعونية عنهم تفاصيل حياتهم، ما إن يعبروا نحو البوابة الكبيرة يتلبسّوا سمت الفراعنة، داخل قسم التمثيل يرتدي العاملون رداء قُدماء المصريين، ليعودوا بالزمن آلاف السنين، في القرن الحادي والعشرين يُبعث الفراعنة من رقادهم من جديد، يعيشون حياة منسوخة من حياتهم القديمة، ومتلبسة بروح العصر الحديث.
أنشئت القرية الفرعونية عام 1984، على يد مؤسسها الدكتور حسن رجب، في صغره كان عبدالنبي فتحي يرى القرية الفرعونية أثناء عملية بنائها، لقُرب مسكنه منها، ومنذ أن أصبح الرجل واحدًا من العاملين بها بعد ذلك بعشرة أعوام، لم يُغادرها أبدًا.
يبدأ العمل بالقرية في التاسعة صباحًا، يؤكد العاملون حضورهم عبر البصمة، ثم ينتقل عاملو قسم التمثيل إلى الناحية الأخرى من النيل، بُنيت القرية على جزيرة يعقوب، وحرص مؤسسها على إخفائها من الحياة الحديثة عبر زرع آلاف الأشجار حولها.
بمعزل عن العالم يعيش حوالي 40 عاملًا، من الرجال والنساء. نحو 24 سنة استمر خلالها عبدالنبي بالعمل بقسم التمثيل، دومًا يُحضر معه؛ سجائره، الشاي والسكر، ووجبتي الفطار والغذاء "مجرد ما بندخل مبنخرجش إلا آخر اليوم".
تعتمد القرية على الرحلة النيلية كجزء حيوي من برنامجها المعروض للزائر، يُقدّم المسار رحلة عبر النيل حول أهم مشاهد الحياة الفرعونية؛ الزراعية والصناعية والاجتماعية. قدِمت هدير للعمل منذ عدّة شهور بقسم التمثيل، كل يوم هو جديد بالنسبة لها، هُناك جدول يتوزّع حسبه العاملون أسبوعيًا، تُمثّل مرة كوصيفة لزوجة النبيل، وأخرى تتحوّل إلى عاملة داخل مشهد صناعة الكتان أو البردي أو العطور أو غيره.
على هدير أداء المشهد التمثيلي جيدًا، تعلّمت أداء الحركات من زملائها الأكثر خبرة، لا تجد الشابة صعوبة في الأداء، تجد نظرة الإعجاب والدهشة مما تقوم به في أعين الأجانب القادمين، غير أن السُخرية تطل من بعض المصريين الزائرين "بيتريقوا علينا: شعرك ده؟ هو قلم الروج دا عدى عليكو كلكم؟، مينفعش نتضايق، حتى لو اتضايقنا ممنوع نتكلم".
تنقسم المشاهد التمثيلية إلى أكثر من 12 مشهدًا؛ عملية الزراعة التي تتكون من الحرث وبذر البذور، ورعي الغنم، والري بالشادوف، وتفكيك البذور والتخزين داخل الصوامع، أما الصناعة فتتكون من مشاهد عمل البردي والكتان وصناعة الأسلحة والعطور، والنبيذ، وورشة النجارة والألباستر والفخار والطوب اللبن.
هُناك مواسم للزيارة، تُعتمد البداية مع الرحلات المدرسية، غير أن الموسم الأكثر ازدحامًا هو الصيف، حيث يُقبل العرب. عبر صُفّارة النداء يسمع الجميع قُرب قدوم الرحلة، وما إن يلتقطونها حتى يُصبح الكل في مكانه، منذ يناير الماضي يعمل يوسف كمُنادٍ، يجلس داخل عُشة عند ضفة النيل، حين يلمح المركب القادم عليه أن يُصفّر "لو فاتتني الرحلة باخد جزا، ولو قمت لازم حد يقعد مكاني"، يُحب يوسف العمل بالقرية "مفيش أسفنة، هنا مفيش فرق بين حد".
الإتقان في الأداء التمثيلي هو ما يُهمّ الجميع، منذ 14 سنة يؤدي عم محمد عمله كفلّاح في زمن الفراعنة، يُبهر الزائرين بإشعال النار التي يحتاجها الفلاح في خبز العجين، أما عم شعبان فيحرص على صناعة أشكال مختلفة من الفُخار بيديه، يعلم الرجل جيدًا مدى قدِم حرفته التي يعمل فيها منذ 50 عامًا، يعتنق الحكاية التي سمعها صغيرًا "دي حرفة من قبل الفراعنة، كانوا زمان بيشتغلوها بالزيت، ولما الزيت خلص والشغل هيبوظ، اللي بيصنعها راح معيط، الدمعة نزلت فلمع الطين، فكر إنه يجرب المية بدل الزيت ومن هنا جت حرفة الفخار".
على مدار ثماني ساعات يعمل مؤدو المشاهد التمثيلية، أحيانًا ما تتوالى الرحلات عليهم، وأحيانًا ما تقل، ووسط العُزلة التي يقيمون فيها عليهم قضاء وقتهم، بالثرثرة أحيانًا، التحدث عبر الهاتف، الاصطياد في النيل، العوم، شرب الشاي.
لدى كل مجموعة غُرفة، هي المأوى لهم بعد كل رحلة، يقضون فيها أوقاتهم؛ لذا توضع فيها أشياؤهم من ملابس، ومكياج، ومذياع، بوسترات، مراوح تقي حر الصيف، الشاي والسكر، ووجبة اليوم.
تعتمد القرية على نفسها في إنتاج كل ما تحتاجه، من أزياء، شعر مستعار، عرائس، وتحف فرعونية، البعض يميل إلى تعلّم حرفة لزيادة مُرتبه، تقوم بعض السيدات بإنتاج "الباروكة"، التي تنقسم إلى عمليتين؛ واحدة تهتم بالخيط وعمل الضفائر، والثانية بخياطة الشعر المستعار، أما الرجال فيهتمون أكثر بصناعة الفخار والقوالب الرخامية التي تتحول إلى تحف، تُباع تلك المنتجات في بازارات القرية، ويأخذ العاملون نسبة من الأرباح.
هُناك عالم آخر بجانب الرحلة النيلية، لم تتمكن هدير من رؤية الطرف الآخر من القرية سوى يوم إجازتها "جيت في يوم مع صاحبتي أزورها"، تحوّلت من عاملة إلى ضيفة؛ حيث رأت عرض أهم الآلهة، ونسخة طبق الأصل من مقبرة توت عنخ آمون، والمتاحف الموجودة، التي يبلغ عددها نحو 17 متحفًا.
في السنوات الأولى للقرية كان عدد عاملي قسم التمثيل يصل إلى مئة شخص، الحياة المُنعزلة التي تفرضها طبيعة القرية حول العاملين رُبما تكون السبب في انخفاض عددهم، بالنسبة لعبدالنبي لم يملّ من نمط الحياة هذا، اعتاد يوميًا على أكل الفول والكشري الذي يحضره معه "التكرار دا مبيزهقنيش، لو ما أكلتش كشري أحس إن فيه حاجة ناقصاني"، والمُتعة في نظره تأتي من إقبال الزائرين الكثيف على القرية، ما يُهمّه من حياة الفراعنة هي "لازم أعمل المشهد صح عشان الضيف يصدق إننا فراعنة".
فضلًا عن نجاح دكتور حسن، مؤسس القرية، في إعادة الفراعنة للحياة، ومن بعده ابنه عبدالسلام، غير أنهم نجحوا في إحياء ولاء داخل قلوب العاملين، لأعوام كان لأبناء العاملين حظّ في زيارة القرية خلال رحلات، من بينهم تمكّن أولاد عبدالنبي من رؤية القرية عدة مرات، كذلك سهّلوا للعاملين سفريات صيفية إلى الإسكندرية، ورغم إلغاء تلك الرحلات، إلا أنهم أبقوا على عادة جلب الكراسات والأدوات المدرسية للأبناء، في مرحلتي الابتدائي والإعدادي، حيث يتولاها الآن أحفاد المؤسس "نيفين وحسن".
في أعين العاملين فإن القرية الفرعونية هي سبيل لـ"لقمة العيش"، البعض جاء لقُربها من مسكنه، وأخرى شاهدت إعلانًا لها على شاشة التليفزيون فأعجبتها، وآخرون اتخذوها ملجأ للراحة بعد المعاش، ورغم أنهم لم يقرأوا عن حياة الفراعنة عبر كُتب التاريخ، إلا أنهم عاشوها بالكامل، تنبهر نجلاء بعبقريتهم "مفيش مخ زيهم ولا هيكون، إحنا حياتنا كلها مكن، هما كل حياتهم يدوي"، وتُعجب أخرى بصبرهم "الفلاح بيقعد ساعة لحد ما يولع النار، ومراته تقعد ثلاث ساعات تطحن الدقيق"، بينما تتمنى هدير عيشة بسيطة كمنزل الفلاح "إحنا حياتنا بسيطة أصلًا، متمناش الغنى أوي، المهم راحة البال".
فيديو قد يعجبك: