من معهد ناصر.. مصراوي يتحدث مع الجرحى الفلسطينيين في مسيرات العودة
كتب-أحمد جمعة وإشراق أحمد:
بين الحين والآخر تستقبل المستشفيات المصرية عدد من أهل غزة، القادمين لتلقي العلاج، آخرها عام 2014 حين شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي حربًا استمرت 50 يومًا، تزامنت حينها مع شهر رمضان، واليوم بعد مرور أربعة أعوام وخلال الظروف ذاتها، تفتح المستشفيات أبوابها ليس لحرب هذه المرة، لكن لإصابات بالغة سببتها أسلحة الاحتلال للفلسطينيين من أهل غزة، ممن تظاهروا لأجل فك الحصار، عبر مسيرات العودة.
أول مسيرة وإصابة
داخل آخر غرفة بممر قسم العظام، في الطابق الرابع لمستشفى معهد ناصر، يستلقي زكريا سلامة على ظهره منذ 12 يومًا، يداه ورأسه فقط ما يقدر على تحريكها. 26 عامًا لم يتنفس فيهما الشاب هواءً خارج غزة، وفي مرته الأولى هذه، لا فرصة لديه سوى نصف ساعة يغادر فيها بسريره الغرفة، ويقضي وقتًا أمام زجاج المستشفى على النيل، فيما يمضي مرافقه رضوان طاهر في وصف ما يدور خلف النافذة.
زكريا واحد ضمن أربعة مصابين، استقر بهم الحال في القاهرة، بعدما نقلتهم سيارات الإسعاف، عقب قرار فتح المعبر طوال شهر رمضان في 18 مايو الجاري.
لا يترك زكريا الهاتف من يده، يتابع ما يحدث في موطنه. ما لبث الشاب كثيرًا في مسيرات العودة "كانت أول مرة أنزل في الجمعة التانية 6/4 اتصبت على طول. اليهود مستنوش عليّ" يقول الشاب مبتسمًا، بينما يتذكر يوم إصابته.
على مسافة يُقدرها الشاب بـ30 مترًا من جنود الاحتلال، انضم زكريا للمتظاهرين السلميين، احتمى الجميع من رصاص الاحتلال خلف ساتر ترابي، مرت قرابة ربع الساعة، وما إن وقف الشاب مستطلعًا الأجواء، حتى اخترق طلق ناري رجله اليسرى، عبر منطقة الحوض وتفجر في المعدة.
لم يتعاف الشاب عقب العملية الجراحية التي أجريت له في مستشفى الشفاء واستغرقت 8 ساعات، وما كان هناك بديلاً سوى تحويله للعلاج خارج غزة، غير أن المعبر وقتها كان مغلقًا –فتح يوم 12 مايو- فمكث أسبوعين قبل أن يأتي نداء الخروج، لينتظر في معهد ناصر استجابة الأطباء لحالته "مفيش حدا بيقول شيء.. مفيش حد بيقول بدنا نقطع رجله نقطع رقبته" يقولها رضوان ساخرًا، فيضحك زكريا.
ما سمحت الأوضاع إلا بمرافق واحد للمصابين، فلازم زكريا، رضوان والد خطيبته "أنا خرجت كتير ومن قبل رافقت نسيبي في تركيا. لكن هاد أول مرة إِله.. وهو ابني". يواصل رضوان المزاح، يحاول تخفيف المصاب على زكريا "كان المفروض فرحي بعد العيد"، غير أن الإصابة إلى الآن تحول بينه وبين ذلك اليوم، فضلاً عن فواته لامتحانات السنة النهاية لدراسته الجامعية.
لا يأسى زكريا على ما فات "كل واحد ونصيبه ولو كل واحد خاف وفكر في اللي مستنيه ما حدا راح يطلع". مشهد الخروج الجماعي لأهل غزة حرك الشاب وغيره أن يهبوا للضغط على الاحتلال لفك الحصار الواقع على مدينتهم للعام الثاني عشر على التوالي.
كحال أهل غزة شارك الشاب في فعاليات عديدة لمواجهة الاحتلال، يقول زكريا "هاي أول إصابة لي"، فيتبعه العم رضوان صاحب الأربعة والخمسين ربيعًا بالسخرية "أول إصابة بهاي الشيء.. لو فيه يتصاب تاني بس يطيب الحين".
يُمسك زكريا هاتفه المحمول، يستعرض صورة تجمع عدد من الشباب، يحمل جميعهم العكاز، يشير إلى أن ذلك بات حال مدينته المحاصرة "ما بقى في شاب سليم في غزة.. كلهم مكسرين".
يستعيد زكريا ما جمعته عيناه في مشاركته عن أسلحة الاحتلال "الرصاص كان بيقتل شاب يطلع منه يقتل شاب تاني، ومش ضروري يصوبوا على القريب منهم"، فيما يلتقط العم رضوان الحديث عن مدى تطور انتهاك الاحتلال، فلم يعد أمام الواقف على خط المواجهة خيار إلا الإصابة العاجزة أو الاستشهاد "زمان كان لو أخدت طلقة تطلع وتطيب، اليوم لو الشاب أخد طلقة يخرب لا ينفع لحرب ولا شغل، يا دوب يقوم لحاله".
يرى الرجل تعمد القوات الإسرائيلية إحداث مثل تلك الإصابات "اليهود عارفين بيصوبوا كيف حتى يقعدله الشاب سنتين تلاتة ميشفوش خلقته"، لكنه يراهن على صلابة الفلسطينيين، واعتيادهم الموت الذي لا يزيدهم إلا قوة في استمرار المواجهة لاقتناص حقوقهم.
بدأت مسيرات العودة، منذ 30 مارس المنصرف، للمطالبة بفك الحصار، وعودة اللاجئين الفلسطينيين في غزة إلى أراضيهم قبل عام 1948، ومنذ ذلك الحين وسقط 115 شهيدًا، فيما أصيب 13300، منهم 330 إصابة لازالت خطيرة شرق قطاع غزة، حسب أشرف القدرة، الناطق باسم وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، بآخر تحديث يوم 25 مايو الجاري.
أصغر المصابين
ليس جميع أصحاب الإصابات الحرجة غادروا غزة، والبعض ممن سافروا توجهوا إلى الأردن، وآخرين جاءوا لمصر، أولهم ضياء أبو سمرة، الذي تواجد منذ نحو أسبوعين، في الغرفة رقم 259، بالطابق الثاني لمعهد ناصر. كان صاحب التاسعة عشر عامًا الأصغر عمرًا بين المصابين الأربعة، والأكثر معافرة للحركة، إذ يتمسك بين الحين والآخر بالمشاية المجاورة له، ويغادر السرير مواصلاً الحديث إلى معارفه عبر الهاتف.
لا زال ضياء يتذكر بجلاء تفاصيل يوم إصابته: "كانت الجمعة الأخيرة قبل رمضان، وضلّنا من الظهر حتى بعد العصر، وعدد الشباب كبير وثائر". مناوشات لا تتوقف مع جنود الاحتلال، شباب يقذفون بالحجارة، فيما يرد الجنود بالرصاص الحي فيودي بمئات المصابين والشهداء.
أحد الذين سقطوا برصاص الاحتلال كان إلى جوار "أبو سمرة": "طخوا واحد في رأسه وقع على إيدي، معرفوش لكن كان دمه مغرق جسمي، حملته وزفناه زفة شهيد، ورجعت تاني، لأن كانت فيه إصابات كتير الإسعاف مش قادرة تدخلها، ودورنا نطلع المصابين ونسحبهم لبره".
لساعات ظلّ ضياء على هذا الحال، حتى أصابت إحدى تلك الرصاصات الطائشة قدمه اليمنى: "رايح أجيب الإصابات سمعت صوت طلق، جنبي كان فيه اتنين وقعوا ووقعت معهم، وحسيت بألم، لقيت البنطلون اللي لابسه هو اللي ماسك رجلي لأنها كانت مقطوعة". تحوّل ضياء إلى قائمة المصابين الذين تهرول الإسعاف لنقلهم إلى مستشفيات غزَّة المكتظة بمئات المصابين فيما تقع تحت وطأة نقص المستلزمات والأطقم الطبية.
تنَقل ضياء بين 4 مستشفيات داخل القطاع لإسعافه، فيما كانت التقارير الطبية تُشير إلى احتمالية بتر قدمه. رصاصة متفجرة وشظايا كبيرة تسببت في قطع الشرايين والأربطة داخل رجل ضياء، غير أن أسرته رفضت البتر "أخدوني على غرفة العمليات وضَليت نحو 3 ساعات في العمليات، ولما صحيت لقيت جهاز في رجلي وكانت ورامة كتير".
تبددت مخاوف الشاب من بتر قدمه كحال كثير من الشباب في قطاع غزَّة جراء استهدافهم بشكل مباشر من قِبل جنود الاحتلال، ليبدأ رحلة العلاج بعدما أنهى عمله أوراق سفره "كان يوم الإثنين المتزامن مع أحداث نقل السفارة، ومفيش إسعاف فاضية تنقلني إلى معبر رفح، تأخر الوقت شوي، رحنا في سيارة إسعاف خاصة مع حالة أخرى، وعند دخولي المعبر قالوا رجله خربانة ارجع على مستشفى ناصر بخان يونس لأنه لو ضل لبكره الصبح تكون رجله راحت".
ساعات ثقيلة مرّت على ضياء، وتمسك عمه بعدم عودته إلى مستشفى ناصر مرة أخرى خوفاً من عدم قدرته على الوصول إلى المعبر سريعاً في اليوم التالي، ومع دخول الليل أنهت السلطات المصرية كافة الإجراءات ونقوله إلى مستشفى العريش بشمال سيناء انتظارًا للصباح تمهيدًا لنقله إلى معهد ناصر بالقاهرة.
"استقبلوني استقبال الأبطال" يقولها ضياء عن المعاملة التي وجدها في مستشفى العريش، فيما كانت تجري الاستعدادات لدخوله عملية جديدة "تنظيف قدمه"، لينتظر في المستشفى عدة أيام، ثم يستقر منذ الجمعة قبل الماضية في معهد ناصر، وتجرى له عملية جراحية جديدة.
متاعب الإصابة تجمعت مع آلام الغربة بحلول شهر رمضان، فلأول مرة يقضيه ضياء بعيدًا عن أسرته على خط النار في جباليا: "مبحبش الغربة ومش متعود أسيب أهلي، وزعلان إني مش بصوم علشان العلاج". يُضاف إلى ذلك تأجيل خطوبته التي كان مقرر إتمامها بعد أسبوع من إصابته، إذ لا يزال ينتظر نحو شهرين للتعافي والعودة من جديد إلى غزة.
معاناة غزة في شخص
على السرير المجاور لضياء، يرقد شادي جمعة عبد السلام. الابتسامة لا تعرف الطريق لوجهه، وجسده النحيل يجمع كثير من معاناة أهل غزة، فإلى جانب المستقبل والطموح مرهون بالحصار، والأب الأسير في سجون الاحتلال، تأتي الإصابة البالغة لتحكم غلق دائرة هموم الشاب صاحب الخامسة والعشرين ربيعًا.
يوم الاحتفال بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أصيب شادي بطلق ناري في رجله اليسرى، رصاصة متفجرة مثل رفاقه. بين المشاركين في مسيرات العودة كان لابن مخيم جباليا ثأر خاص مع الاحتلال "روحت بدي اناضل ولو كان وقع تحت إيدي جندي أسره وأطلع بابا كنت هعمل هيك".
مضت تسع سنوات على آخر مرة رأى فيها شادي أبيه، منعت السلطات الإسرائيلية الابن من زيارته في السجن، الذي قضى فيه 14 عامًا من أصل 20 سنة حُكم عليه بها في قضية خطف جنود إسرائيليين كما يقول شادي.
كبر الشاب بينما لا يملك من والده سوى مكالمة يستمع فيها إلى صوته، كتلك التي استقبلها بينما يمكث في القاهرة "اتصل على الدار وأخوي اتصل علي وفتح المكالمة وقال لي دير بالك على حالك، بدعيلك والأسرى كلهم بيدعولك"، مثل تلك الكلمات تثبت شادي، ولا تثنيه عن الطريق، رغم محاولة أسرته ذلك.
يحكي ابن جباليا بينما يئن من تعديل وضع قدمه المثبت بدعامات حديدية "يوم إصابتي صليت العصر حسيت أن راح يصير معي شيء، اتصلت على أهلي قالوا لي روح بيكفي أبوك"، فرد الشاب "لا أنا رايح وإن شاء الله ما أنا راجع"، وقد كان؛ أصيب شادي على نحو 500 متر من السلك الشائك للحدود مع الاحتلال، ولم يعد من حينها إلى المنزل.
"إحنا مناضلين والإصابة دي شرف كبير إلنا" بنظرة تحدي يقول شادي، بينما يستعيد استهداف منزلهم في حرب 2014، مما اضطرهم للمغادرة ثم العودة مع نهاية الحرب، فيما يذكر أصدقاء له استشهدوا في المواجهة الأخيرة مع الاحتلال حال إبراهيم أبو ثريا، القعيد الذي ترك أثرًا في نفوس مستقبلي خبر رحيله، وأيضًا صديقه محمد كمال، مَن علم باستشهاده بعدما استقر في المستشفى للعلاج.
أخر ما توقعه شادي أن تكون الإصابة سببًا في خروجه من غزة، طالما سعى لذلك بشدة، آخرها قبل أسبوعين من إصابته "كنت حابب أسافر وأمن مستقبلي عشان لما يجيلي طفل ميقوليش بابا بدي شي ومقدرش أوفره"، ظروف محيطه من الأصدقاء والمعارف دفعت الشاب لرفض الزواج إلا إذا رضي بمعيشة جيدة.
رغب شادي في السفر لاستكمال دراسته والعمل في إحدى الدول الأوروبية "معايا صنعة في هندسة كهربائية وتمديد شبكات داخلية وتحكم صناعي"، لكن دائمًا ما واجه الرد بالرفض بسبب سجل أبيه في سجون الاحتلال ومشاكل له مع حكومة حماس حسب قوله، أما اليوم بات على يقين أن عودته لن تكون كالسابق "كنت شغال سواق، الحين خلاص ما بقدر".
صحافة تحت القنص
الصحافة أيضًا طالها من الاعتداءات نصيب. فبينما كان أحمد محمد أبو عمرة (29 سنة) يُغطي المظاهرات لوكالة إعلامية خاصة أصيب بطلق ناري في فخذه يوم 13 أبريل الماضي نفذ إلى كلتا قدميه، ليتسبب في تهتك بعظم الفخذ الأيمن وتقطع في الأوردة والشرايين وتمزق في أربطة الركبة وفقًا للتقرير الطبي الخاص به.
في مستشفى غزة الأوروبي أجري لأبو عمرة جراحة عاجلة في اليوم التالي لإصابته، وظل عدة أيام قبل أن يقرر العودة إلى منزله، لكن حاله لم يكن جيدًا إذا تعرض للسقوط في بيته ما أدى لكسر جديد في عظم الفخذ ونقله مجددًا لإجراء عمليتين، وطالبوه باستكمال العلاج في مصر.
24 ساعة فقط استغرقها أهل "أبو عمرة" لإنهاء أوراقه مع السلطة، لينتقل ابن مدينة رفح الفلسطينية بسيارة الإسعاف إلى المعبر حيث كان مقررًا أن يظل حتى الصباح لدخوله إلى الجانب المصري: "قعدت على كرسي وهيئت نفسي للنوم وبعد ساعة جاء الإسعاف المصري ونقلوني إلى مستشفى العريش، وفي صباح اليوم التالي انتقلت من جديد لمعهد ناصر".
"الاحتلال لا يفرق بين متظاهر وصحفي ومسعف"، يقولها "أبو عمرة" بينما وجد إلى جواره مُسعفين ممن حاولوا إسعافه عقب إصابته يوم المظاهرات. "الاستهداف للصحفيين لأنهم مش عاوزين حد يغطي الأحداث ويوصل رسالة الشعب الفلسطيني، كل الناس على الحدود قرب السلك الشائك، استنوا حتى خرجت بين الناس لعمل إعدادات البث المباشر لفيسبوك وضربوني لوحدي".
أكثر ما كان يخشاه "أبو عمرة"، وقع إصابته على والدته، حتى أنه هاتف شقيقه، الذي أجمع أخواته في منزل والدته لنقل الخبر إليها.
في تغطية "أبو عمرة" للأحداث عدة مواقف لا ينساها للمتظاهرين، يحتفظ بإحداها ويذكرها كلما حلّت فرصة. إحدى الفتيات تدعى "مريم مطر" تقف في المظاهرات، حماسها فاق من حولها، نصحها "أبو عمرة" ألا تتقدم إلى الحدود "بقولها بلاش، الشباب حتى لو أصيب مفيش مشكلة، البنت تضل بنت"، لكن الفتاة لم تلتفت إليه "نظرتني نظرة وقالت: لأ مش راجعة، عاوز ترجع أنت ارجع، وتقدمت من جديد". بعد 10 دقائق أصيبت بطلق ناري في القدم "عرفت بعدين إن أبوها شهيد وبعد الإصابة كانت بتقول أنا هرجع تاني لنفس المكان".
يبتسم "أبو عمرة" بينما لا يتردد في الحديث عن أول مخططاته حين العودة لغزة "هروح نفس المكان اللي اتصبت وأخد صورة هناك". يريد الشاب إثبات أن الشعب لن يترك حقه "إسرائيل بتراهن إن جيل الشباب ينسوا حقهم في العودة، لكننا أثبتنا للعالم إننا لا ننسى الأرض.. ولن نبيعها".
فيديو قد يعجبك: