الضبعية.. وطن الخال "الأبنودي" في الحياة والموت
كتب- محمد مهدي:
الأماكن تتنفس، لها روح، لديها شخصية لا يفهمها سوى عشاق الأرض، من بينهم الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي، إذ سكن قلبه قبل جسده في منطقة الضبعية حينما وطأت أقدامه بها للمرة الأولى، اختار الاستقرار بها بعد سنوات من التنقل بين الصعيد وأحياء وشوارع القاهرة الصاخبة، باتت الإسماعيلية وطنه الجديد، وأمنيته الأخيرة بأن يُدفن بها.
في مُنتصف الثمانينيات، كان الأبنودي يسافر كثيرًا إلى منطقة أبوعطوة بالإسماعيلية حيث تعيش شقيقته "الحاجة فاطمة" تدور في عقل الشاعر حينذاك فكرة واحدة "إنه راجل بتاع زرع، ونِفسه يشتري حِتة أرض" وفق محمود الأبنودي- الذي أُطلق عليه هكذا من شدة قُربه للشاعر.
لم تكن فِكرة مؤقتة أو حالة جنونية انتابت الأبنودي، ساندته شقيقته خاصة أنه يرغب في العيش بجوارها من شدة حبه لها "نزل يدور في أكتر من مكان بالإسماعيلية زي التعاون والاصلاح بس مرتاحش" لكنه حينما وصل إلى الضبعية شعر براحة "رغم إنها كانت مش متوضبة، مجرد أرض زراعية وبيوت صغيرة" اطمئن قلبه للمكان البسيط، فلم يتأخر لحظة عن إتمام قراره.
بدا موقفه غريبًا وقتها، لم يفهم أحد مدى تعلق الأبنودي للأرض "كان بيقول دايمًا إنه هيفضل عايش طول ما الزرع اللي عمله بإيديه موجود" كما يقول الكاتب محمد توفيق، صاحب كتاب "الخال" عن سيرة الشاعر الكبير. وحينما سأله في إحدى جلساتهم داخل منزله بالضعبية عن سر عدم اختياره لأبنود قال "عايز مكان قريب من القاهرة، الناس تعرف تجيلي، مقدرش أعيش من غير ناس".
في أحد الأيام، وقف الأبنودي في قَلب الأرض الزراعية، يتأمل المكان ويُفكر في المستقبل القَريب، والخطوة القادمة داخل الضبعية "جاله مهندس كبير عمل تصميم حلو للبيت" رفضه ابن الصعيد وبدأ في تخيل شكل البيت بنفسه "أصله لقاه عمله قَصر، وهو بتاع الناس والغلابة، مش عايز يعيش في قصور" بحسب أحاديث دارت بين توفيق ومحمود مع الأبنودي.
برفقة شخصين من رجاله المُقربين، صمم الأبنودي منزله "كان يقف ويقول أنا عايز أوضة هنا، وعامود هنا" كل شيء نُفذ بطريقته وأفكاره، بنى البيت، ثم مكتبة، ومن بعدها مندرة، ثم ديوان، وانغمس في الأرض الزراعية برفقة محمود الذي لم يكن يفارقه خاصة في سنواته الأخيرة "ارتاح للمكان وهو بعبله، وبقى يباشر كل خطوة بتحصل فيه".
خلال سنوات من ملكيته للأرض، مضى الأبنودي حياته بين القاهرة والإسماعيلية "يقعد معانا أسبوع أو اتنين ويكمل الباقي في مصر" قبل أن تسوء حالته الصحية، يضطر للسفر إلى الخارج، جولة في ألمانيا وفرنسا، علم هناك أن رئتيه لم تعدا كما كانت "افتكر إنها أيامه الأخيرة وفكر في بيع البيت والأرض رغم إنها على عينه" أراد أن يؤمن حياة أبنائه بعد وفاته لكنه تراجع بعد قرار الأطباء بضرورة استكمال حياته بعيدًا عن القاهرة "حسيت إنها جات من عند ربنا عشان ييجي يقعد معانا".
عاد الأبنودي من خارج البلاد بحالة صحية ونفسية سيئة، لكنه في شهور قليلة من وجوده في الضبعية تحولت حالته "كان جاي من فرنسا هلكان، لكن الدنيا هنا اديته أمل في الحياة من تاني، وروح جديدة" دفعه ذلك فجأة إلى غزارة في إبداعه الفني، كما يرى توفيق "وجوده هناك إداله فُرصة أكبر للكتابة، دا كان رأيه هو شخصيًا".
يتفق محمود على الرأي نَفسه، شاهد أمام عينيه حماس الأبنودي للكتابة بصورة أكبر، وقدرة المكان على إتاحة الفُرصة له للتركيز "بقينا متعودين عليه، فجأة بيكون شخص تاني خالص، بنقوم ونسيبه" كان الشاب الذي تربى على يد الشاعر الصعيدي يعلم أن الأخير يعامل الشِعر كحبيبة و"كان بيقول الشِعر دا ضيف خفيف، لو اضايق منك يسيبك ويمشي".
رغم عزلته من الناس حينما يأتيه الشِعر، كان الأبنودي قريبًا لأهل الضبعية، يجلس معهم، ينصت لهم أكثر من الكلام "تحس إنه واحد غلبان قاعد مع الناس الغلابة" يطمئن عليهم وأحوالهم، يشاركهم كافة المناسبات "ميفوتش عزا ولا فرح"وعند الحصاد يحرص على منح جيرانه من خيرات الأرض "بيعمل دا زي ما بيبعت لكل أحبابه وأصحابه".
بسيط الأبنودي مع أهالي الضبعية، لا يعاملهم كشاعر كبير، يشاطرهم الأزمات، ويبحث عن حل لأزماتهم. توفيق حضر ذات ليلة مكالمة أجراها مع إبراهيم محلب، رئيس الوزراء حينها "كان بيكلمه عن الطريق والحفر اللي بتتسبب في حوادث، والأطفال اللي بيموتوا بسببها" كان يجري اتصالات عديدة من الوزراء من أجل الضبعية.
بعد سنوات من استقراره في الضبعية، راودته فِكرة أخرى لم يتوقعها أحد "عايز يتدفن في الإسماعيلية" لماذا يختار رجل ولد في أبنود وعايش سنوات تألقه بالقاهرة أن يُدفن في الضبعية؟ الإجابة لدى الأبنودي "بدل ما أحبابي يروحوا الصعيد، بعيدة عليهم، وعشان ولادي وزوجتي يفضلوا رايحين جايين على البيت".
أراد الأبنودي-وفق محمود- أن يظل ارتباط الأسرة بالبيت قائماً "وكمان اختار المدفن في طريق اللي جاي للبيت، عشان أسرته كل ما ييجوا يبقوا يزوروه" الموقع لم يكن الحصول عليه هيناً، نجح في اقناع الأهالي عن طريق كبيرهم "واحد من أصحابه" واختار أعلى مكان بمنطقة المدافن "عشان أبقى باصص على الناس اللي بحبهم من عندي".
أثناء زيارات توفيق للأبنودي والتحضير لكتابه، تعرف على سر اهتمامه بالدفن هناك "المكان بالنسبال بقى خير ختام لرحلته، حب يدفن في مكان فيه كل طاقة الحُب دي" لَمس الكاتب ذلك في تعاملات الجيران مع الشاعر الكبير.
21 أبريل، كان يوماً مرُاً على جمهور وأحباء الأبنودي، وأيضًا أهالي الضبعية، حزن امتص البهجة في الوجوه، حينما علموا بخَبر وفاة شاعرهم بعد معاناة مع المرض. وفي المساء شُيعت جنازته بحضور المئات من جيرانه "الناس البسيطة هي اللي ملت الجنازة" كما توقع الشاعر وصرح لمحمود في عيد ميلاده الأخير. فيما لا ينسى توفيق حينما التقى في الطريق برجل بسيط من القرية "قالي أنا رايح جنازة عبدالرحمن صحبي".
بعد أيام ستحل الذكرى الثالثة لوفاة الأبنودي، غادر جسده بيته بالضبعية لكن "حِسه" مايزال موجوداً في أنحاء المكان "بحس إنه في كل مكان، بكون شغال ولا باصص على الشجر، أحس إنه جنبي، بيتابع معايا وبينصحني زي عادته.. هو لسه هنا مسبناش" يلفظها محمود كأنه يرى شاعرنا الراحل أمامه.
فيديو قد يعجبك: