إعلان

"المهمة المستحيلة".. حكاية رحلة نعيمة مع أبنائها الـ8 بعد وفاة زوجها

01:09 م الأربعاء 21 مارس 2018

أرشيفية

كتبت- فايزة أحمد:

حتى نهاية عام 1994، كانت الأجواء داخل منزل السيدة الريفية "نعيمة حامد" بإحدى قرى مركز شربين بمحافظة الدقهلية، هادئة للغاية، الزوج يعمل في حقله منذ الصباح الباكر، الأبناء السبعة يتلقون دروسهم، بينما تقوم هي بأعمالها المنزلية رفقة رضيعها الثامن، في انتظار عودة الزوج والأبناء؛ لتناول طعامهم كما اعتادت على مدار (14عامًا) عُمر حياتها الزوجية، لكن القدر أبى استمرارها أكثر من ذلك؛ أصيب عائل البيت بحُمى أودت بحياته، لتجد الزوجة نفسها في نهاية المطاف بمفردها تواجه مصيرًا مجهولًا، وفي عنقها ثمانية أبناء؛ أكبرهم كان في الحادية عشرة من عمره. 

24 عامًا انقضت على واقعة وفاة الزوج، كبرت نعيمة، غزا الشيب شعرها، افترشت التجاعيد وجهها، طبع الزمن آثاره على يديها اللتين تحملان وشوم الزراعة وتربية الأبناء، غير أنها مازالت تحتفظ بابتسامة فتاة في ربيع العُمر، تُعزيها لإتمام مهمتها في هذه الدنيا، بتعليم الأبناء وتزويجهم، حتى صارت جدة في منتصف عقدها السادس. 

لم تكن مهمة نعيمة التي وُضعت على كاهلها بين ليلة وضحاها هينة إطلاقًا، إذ كان الإرث الذي خلّفه زوجها لها ثقيلًا وضعيفًا في آن معًا "ساب لي 3 بنات و5 صبيان وبيت من الطين بالإيجار"، لكنها رفضت أن تنصاع للظروف الصعبة وضيق الحال، فشمّرت عن ساعديها، مقررة أن تنوب عن زوجها في كل شيء حتى عمله في الحقل "كنت بروح أحرت الأرض بأيدي وأزرع وأقلع زي الرجالة.. متكسفتش".

"لا وقت للأحزان" كان ذلك شعار نعيمة الذي رفعته نصب عينيها، ربطت على جراحها التي أودعتها قلبها، فكان أول قرار لها؛ أنه ليس على الأبناء مغادرة مدارسهم، مُتعهدة بأن تكفيهم حاجتهم، رافضة مساعدة الأعمام والأخوات، إلا أنها قَسّمت المهام اليومية عليها وعلى أبنائها كلُ حسب قدرته؛ فالبنات خُصصن لعمل المنزل ورعاية الرضيع، فيما واصلت زراعة الأرض رفقة الولدين "حمادة الكبير وأحمد أصغر منه بسنة"، وذلك عقب عودتهما من المدرسة. 

عام تلو آخر، تحصد نعيمة وأبناؤها ثمار كدهم من زراعة الأرض،مستعينين ببقرة تساعدهم في عملهم، ثم بأخرى، إلى أن كونوا قطيعًا صغيرًا سُرعان ما در بخيراته عليهم "كنت بمشي نفسي من بيع اللبن والجبنة والسمنة لحد ما نجمع المحصول"، ثم تتخذ خطوة جديدة في طريق المهمة التي لم تكن مستحيلة عليها "اشتريت بيت دور واحد من الطوب الأحمر.. كنت ببوس إيدي وش وضهر". 

رغم انشغال الأبناء مع الأم في الأرض والبيت الذي تزداد مهامه يومًا عن الآخر، كانوا يحصلون على أعلى الدرجات، إلى أن أنهت الفتاة الكبرى المرحلة الإعدادية بمجموعٍ يؤهلها للالتحاق بالثانوية العامة، لكن واقع الأسرة آنذاك لم يكن يسمح بذلك "فادية كانت طول عمرها شاطرة في المدرسة.. بس وقتها الظروف خلتني أقول لها الدبلوم يناسبنا أكتر"، حتى لحق بها أشقاؤها السابعة "كان نفسي يكون ليا ابن محامي ولا ظابط.. بس ده اللي قدرت عليه". 

قبل أن ينتهي العام الأخير للابنة الكبرى في مرحلة الدبلوم، تقدم لخطبتها أحد شباب القرية، فكان شرط الأم لإتمام الزيجة أن تنتهي ابنتها من تعليمها أولًا "وكمان نكون بعنا المحصول"، إلاّ أن ناتج هذا المحصول لم يكن كافيًا، فقررت مُرغمة بيع إحدى البقرات التي تمتلكها "المهم عندي ما أمدش إيدي لحد"، إلى أن زُفت ابنتها إلى بيت زوجها، لتعاود استكمال طريقها "حمادة خلص الدبلوم واتوظف في الأوقاف"، فلزم غرسها إلى الآن. 

تمر السنوات، ينتهى الابن الثالث من تعليمه أيضًا، فلم يجد وظيفة مثل شقيقه، فما كان منه سوى أن يحزم حقائبه كباقي شباب قريته واتجه صوب ليبيا "جوّزت البنتين وفوقت للصبيان"، لحق الابن الثالث بأخيه في ليبيا، بينما ظل قبل الأخير رفقة أمه وشقيقه الأكبر يحرثون الأرض "اشتريت فدانين وبنيت الدور التاني عشان الصبيان يتجوزوا". 

أتمت السيدة الريفية نصف مهمتها بزواج الولدين، فكبرت عائلتها بزوجات أبنائها وأحفادها أيضًا، كما تضاعف المحصول وإنتاج الحظيرة من اللبن والجبن، فضلًا عن مساعدات الأبناء من الخارج تلك التي لم تنقطع أبدًا، فأرادت أن توفر ما يحميهم من تقلبات الزمن "أشتريت كمان طين وبقى عندنا 7 فدادين.. فضل ونعمة"، لم تتوقف عند ذلك، فزوجت ابنيها الباقيين ببناء الدور الثالث "ولادي لازم يكونوا جانبي.. إحنا فلاحين بنبني فوق البيت.. محدش يخرج عن طوعي". 

14 هو عدد أحفاد المرأة الستينية، يكتظ البيت الكبير عن آخره بالبنات والأولاد، أزواج البنات وزوجات الأبناء، يتحلقون حولها، تسترجع أمامهم كيف مرت عليها أيام صعاب لم يكن هناك فيها سوى ستر الله ورعايته، تنصحهم بألا يبرحوا البيت الكبير طيلة حياتهم؛ لكونه شاهدًا على تلك الأيام، تستوصيهم خيرًا بشقيقهم الصغير الذي لم ينل من حنان أبيه شيئًا "سامح الصغير بيعتبر أخوه حمادة هو أبوه.. ما هو ملحقش يشوف أبوه". 

يرتسم على وجه الجدة ابتسامة رضا تتجلى في تقسيم وجهها المُجعد، لكونها أتمت المهمة التي أُجبرت على خوضها، لكن شيئًا يُنغص عليها هذه الفرحة الساكنة في قلبها "نفسي أجوز سامح قبل ما أموت"، تنهض بجسدها النحيل، تقترب منه، تلفه بذراعيها، تربت على كتفيه "أول ما يخلص جيش السنة الجاية لازم أجوّزه.. عشان أقول لأبوه أنا ما قصرتش".

اقرأ ايضا:

تسلم الإيد اللي ربّت (قصة مصورة)

1

"أم أمل" وبناتها العشر.. 37 سنة "كفاح وأمومة"

2

حنان حشيش.. قصة سيدة لم تُرزق بأولاد فأبدلها الله بـ"شلة بنات" (فيديو وصور)

3

بالفيديو- "الفايتر" غادة.. "أم وأب" في حياة ولادها

5

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان