بعد وفاة "مسيو رمزي".. "الزمالك" تفتقد جزءًا من طفولتها
كتب- محمد زكريا وشروق غنيم:
تصوير- ندى عمرو
في أواخر الخمسينيات، حقق "مسيو رمزي" حُلمه، افتتح مكتبة تحتضن شغفًا كبيرًا تملّكه تجاه القراءة والكتب. مع مرور الوقت بات المكان جزءًا من طفولة أهالي حي الزمالك، ورغم صغر مساحته إلا أن حُب روّاد المكتبة لصاحبها كان يزداد اتساعًا، كذا كان تمسك من عمل فيها للاستمرار عشرات السنين خير دليل. لكن كما يقال، يختار الموت من نحبهم، توفى رمزي عن عمر يناهز 85 عامًا، وبقيت من ذكراه كُتيب أبَّنَ فيه المحبون سيرته الطيبة، وعلق آخرون على زجاج مكتبته وريقات صغيرة تتمنى له السعادة في حياته الجديدة.
لأول مرة تخطو جولييت أبواب المكتبة، أمس الثلاثاء، دون أن يستقبلها مسيو رمزي بنفسه، كما اعتادت منذ عشرين عامًا. وجدت السيدة ابتسامته المُبهِجة تملأ صورة كبيرة، وأمامها باقة من الورود البيضاء، موضوعة أعلى منضدة تنتصف المكتبة، الآن علمت السيدة بوفاة رمزي.
بابتسامة رقيقة، وعينان موجهتان إلى كرسي اعتاد الراحل الجلوس عليه، تعبر جولييت عن شعورها "حاسة بفضا وإن حاجة مهمة في المكان ناقصة". اعتادت السيدة التي تعيش بالخارج، أن تزور المكتبة وصاحبها مع كل زيارة إلى مصر، حتى وإن لم تشتِر شيئًا، فقط تُلقِي التحية على صديقها وتتشبّع بطاقة "السلام" التي تملأ المكان.
في الخامسة صباحًا، كان يوم مسيو رمزي يبدأ، يستيقظ قبل شروق الشمس، يتوجه إلى مكتبته، يُضيء الشارع بأنوارها، التي أصبحت وجهة لأجيال مُتعاقبة "زباينه كبره معاه، اللي كان بيجي وهو صغير، بقى ييجي ومعاه ابنه، مكنوش أبدًا زباين، بابا كون معاهم صداقات وعلاقات أسرية"، تحكي ابنته غادة عن الحُب الذي حاوط والدها طيلة حياته.
لكن رغم ذلك، لم يشغله عمله عن أسرته ولو ليوم واحد. في المنزل كان يلعب الراحل نفس الدور مع أبنائه الثلاثة "كان يجيب لي وأنا صغيرة مجلات ميكي وتان تان ولما كبرت شوية بقى يجيب لي كتب نجيب محفوظ"، تحكي غادة أن ذلك أصبح مُتبعًا حتى مع أحفاده الستة "الهدية بتكون كتاب عشان يشجعهم على القراية، من وهما عندهم شهور جابلهم كُتب بملمس ناعم وخشن عشان ينّمي الحواس، وكتب مصورة وكارتون".
داخل المكان تتراص الكُتب والأدوات المكتبية، لكنها لم تكن مكتبة معتادة، وضع مسيو رمزي من روحه داخلها "كان بيدي الناس من وقته، يساعدهم في اختياراتهم للكتب، يُشبِع فضول الأطفال بمجلات وكتب تتلاءم مع أعمارهم، وبخبرته يوجه كل شخص لأكتر شئ هيفيده"، لذلك وجدت غادة في صداقات والدها بزبائنه من مختلف الأعمار مبررًا.
هذا لزبائنه العابرين، فما بالك بموظفيه في المكتبة، الذين شاركوه أوقاتًا طويلة. بعدما وصل طارق فتحي إلى عمر 18 عامًا، كان عليه البحث عن عمل، دفعته قدماه إلى حي الزمالك، ومنه إلى المكتبة التي تحمل نفس اسمه، يومها استقبله مسيو رمزي بكل ود، وافق على عمله مقابل مبلغ يتناسب مع مجهوده، بينما استمر فتحي في العمل معه طيلة 26 عامًا.
لم تكن العلاقة بينهما هي علاقة عامل بصاحب عمل، كان فتحي يعتبر مسيو رمزي أبًا "هو اللي مربيني"، لذلك حرص الأول أن يتعلم من الثاني أصول العمل وكذا أخلاقه "التعامل مع الناس أصعب شيء في البيع والشرا، رغم كده عُمر ما مسيو رمزي أتعصب أو غلط في حد، لما كان حد يغلط يقوله أدي لنفسك نجمة، زود في الغلط يقوله أدي لنفسك نجمتين، بمعنى أنك غلطت فمتزودش في الغلط.. كان راجل حكيم".
حكمته وهدوئه، هو أكثر ما لفت انتباه عطا كامل إلى شخص مسيو رمزي. طيلة 20 عامًا، هي مدة عمله مع رمزي، لم يلحظ كامل رفع الرجل لصوته ولو للحظة، هذا ما جذب إلى مكتبته المزيد من الزبائن "كلامه في سحر، متبقاش عارف بيكسب الناس إزاي"، وهو ما اضفى على مكتبته رونقًا خاصًا، ميزتها رغم صِغر حجمها.
رغم بلوغه من العمر 85، لم يتوقف مسيو رمزي عن العمل. في اعتياد يومي، يصل مكتبته باكرًا، حتى قبل أن يصل موظفيه، يرص الجرائد، ويرتب وضع الكتب، إلى أن يحضر كامل، يحاول أن يثنيه عن العمل وإراحته، يرفض رمزي "أحيانًا يبقى زبون عايز حاجة، يقوم يجبها بنفسه، ميقولش لحد أعملي حاجة.. كان بيعاملنا أحسن معاملة، يقولي أنتوا أولادي وزمايلي".
أكثر من نصف العمر، قضاه فتحي داخل مكتبة الزمالك، أكمل خدمته العسكرية، وعاد للعمل فيها، احتضنه مسيو رمزي، بينما تزوج فتحي وأنجب ثلاثة أطفال "كل ما كنت احتاج مساعدة يقف جنبي"، إلا أن تخرج أولاد فتحي، لذلك يدين الرجل بكل الخير إلى المكتبة وصاحبها، الذي كتب له بعد وفاته كلمات يرثيه فيها، أسوة بالعشرات من زبائنه ومحبيه.
حين غاب مسيو رمزي عن الحياة، تفاجئت ابنته غادة بالمحّبة القوية التي يمتلكها روّاد مكتبته لوالدها "كانو بييجوا مش لإن العزا واجب، لكن عشان يودعوه بُحب".
داخل مجلد، وضعته غادة بجانب صورته وباقة من الورد، كتب عشرات من المحبين كلمات الرثاء، رجال وسيدات وأطفال، أحبوا أن يُعبروا عن امتنانهم لما قدمه لهم في حياته، حكى آخرون عن مواقف جمعتهم بـرمزي.
بين دّفتي كتاب الذكريات الموجود بالمكتبة، كانت عبارات التعزية، التعبير عن الحُب والاشتياق للراحل، وبينهم مواقف لن تُمحى من ذكريات من تعاملو مع مسيو رمزي "واحدة كتبت عن إنه هو اللي عملها دعاوي فرحها في الستينات، وواحدة فاكرة له إنه نجدها وصورلها ورق ضروري لسفر كان ممكن يضيع عليها".
بينما فضل البعض عرض رسائلهم المكتوبة على أوراق صغيرة على زجاج المكتبة بالخارج، حملت إحداهم دعوة بقضاء يوم جيد في جنته بالسماء.
لحظة الموت كانت حرجة، فبينما كان فتحي منهمكًا في العمل داخل المكتبة، وصله خبر وفاة مسيو رمزي في المستشفى، كأن قلبه أنخلع عن جسده، لكن تمالك نفسه وأكمل عمله، كأن عزائه هو أن يستمر العمل في المكتبة التي أفنى رمزي حياته فيها، لذلك كان أكثر ما يخيف فتحي هو أن تغلق المكتبة بعد رحيل صاحبها، لكن اجتماعه بأولاد المتوفي بعد قبول العزاء في والدهم طمأن قلبه.
على فيسبوك، كان انتشر خبر رحيل مسيو رمزي، لكن بالنسبة للبعض كانت مفاجأة، حين دخلت أم وابنتها إلى المكتبة ووجدت الصورة استوعبت الحدث، انفجرت الأم في البكاء، بينما احتضنت صغيرتها بشدة، فمعه تكوّنت ذكريات الطفولة وسنين المراهقة.
منذ رحيل مسيو رمزي، تواظب غادة على العمل في المكتبة، تُريد أن تحفظ المكان بروح والدها "في وَحشة كبيرة لعدم وجوده هنا، حتى الكرسي بتاعه مش قادرة أقعد عليه، وأوضته في البيت مش قادرة أدخلها من غير ما ألاقيه.. لكن هفضل آجي هنا علشانه وعشان المكتبة تفضل موجودة وتكبر أكتر".
فيديو قد يعجبك: