في سيرة ضحايا قطاري الإسكندرية.. من يجلب لـ"فاطمة" الحقيبة الوردية ومتعلقات الخالة سميحة؟
-
عرض 4 صورة
-
عرض 4 صورة
-
عرض 4 صورة
-
عرض 4 صورة
كتب- إشراق أحمد وشروق غنيم:
في نظر الجميع هي حقيبة ظهر عادية، لكن في عين من رأى الموت، ما تحويه تلك "الشنطة" يساوي مقدار لحظة عودة إلى الحياة ويوم عصيب شاهد على فقدها. تحاول فاطمة زينهم أن تتجاوز آلام إصابتها منذ خروجها من المستشفى، قبل يومين، لكن نفسها لا تشفى من أمنية واحدة، تحفظها حقيبة وردية اللون كانت تحملها "مش عايزة غير حاجات خالتي اللي كانت معاها.. ده اللي بِقي منها يوم ما اتاخدت قدام عيني".
أصيبت فاطمة بين أكثر من 170 مصابًا، فيما توفت خالتها سميحة حسن القاضي ضمن 41 شخصًا لقوا مصرعهم في حادث تصادم قطاري رقم 13، 571 المتوجهان إلى الإسكندرية، يوم الجمعة المنصرف الموافق 11 أغسطس الجاري.
عُرف عن سميحة كرهها للسفر يوم الجمعة، لكن طلب زوجها لها بالانتظار حتى يعطيها ما تحتاجه من أموال غيّر المقادير؛ تخلت السيدة عن عزمها السفر يوم الخميس، وعادة حجز القطار كلما زارت والدتها في الإسكندرية، التقطت السيدة الأربعينية حقيبة يدها الشخصية، وحملت فاطمة على ظهرها حقيبة ظهر وردية اللون، وضعت بها سميحة "خمار وهدومها اللي بتحبها وتاخدها معاها لما نكون مسافرين خفاف من غير حد". وفي المحطة لحقوا بقطار اكسبريس المنطلق في الحادية عشر وربع، والبالغ سعر تذكرته 10 جنيهات.
صحبت سميحة ابنها الصغير عبد الوهاب 4 سنوات، وابنة شقيقتها فاطمة المقيمة في العقار ذاته لزيارة والدتها في الإسكندرية، كانت السيدة الأربعينية عادت إلى القاهرة بالقطار قبل أسبوع لقضاء احتياجات زوجها، وجلب مصاريف تكفيهم فترة إقامتهم، ورجعت معها الفتاة ذات الثامنة عشر ربيعًا حتى لا تتركها بمفردها، كما تقول سميرة الشقيقة الكبرى.
في منزل العائلة بشارع الترعة، منطقة باكوس، الإسكندرية، جلست فاطمة جوار والدتها سميرة، لاصق طبي أبيض يغطي جانب وجهها الأيمن، فيما تئن بشدة جراء أي لمسة لرجلها اليسرى المغطاة بشاش طبي يخفي جرح غائر. ترى الأم أن العناية الإلهية وحدها انقذت ابنتها وعبد الوهاب ابن شقيقتها. بدت السيدة متماسكة، وكذلك الجميع قبل أن تفصح الفتاة المصابة عما تكتمه داخلها.
حفظت فاطمة ما حدث باللفتة، مكان جلوسهم الذي اختارته الخالة سميحة بنفسها في العربة الأولى بعد سائق القطار، إصرارها على تلقي مكالمة شقيقتها المتصلة على تليفون ابنتها قبل نحو ربع ساعة من الحادث "قالت لها أحنا عدينا دمنهور وخلاص هندخل على اسكندرية"، وساعة يدها التي توقفت على الثانية وعشر دقائق، فدللت لها على ميقات مصابهم.
القدر يعلم؛ طلب الراكب الجالس جوار سميحة أن تستبدل مقعدها معه، فتكون بجانب الشباك، فيما تقعد أمامها فاطمة "الراجل ده اتهرس تحت القطر" تقول الفتاة. وقبل الحادث التقطت السيدة الأربعينية ابنها عبده –كما يلقبونه- كي تريح ابنة شقيقتها من جلسته على رجلها طيلة الطريق، دقائق ووقعت الواقعة "الكرسي بتاعي اترفع.. وأنا بتشال وبتهبد.. كل الحاجات كانت بتضغط عليا كنت حاسة أني هنفجر" تصف فاطمة بينما تندفع الدموع من عينيها.
انطبقت العربة على مَن فيها، التصقت المقاعد بالركاب، رأس فاطمة قرب سقف القطار "كان في كهربا كتير فوقيا كنت خايفة منها أوي"، يزيد الحديد من ضغطه على ركاب العربة الأولى في قطار "13"، لازالت الشابة تبصر خالتها أمامها تحتضن ابنها، بينما تصرخ علها تجد مجيب "عيالي بيموتوا"، تتذكر الفتاة جيدًا أنها كانت تحدثها طيلة فترة احتجازهم داخل العربة المنقلبة حتى جاءت نجدة أهالي عزبة الشيخ.
دقات عنيفة من الخارج، تُكرر سميحة الغوث، يلتقط أحدهم نداءها، تخبره "طلع ابني الصغير الأول"، فتحة صغيرة تم انتشال عبد الوهاب عبرها، تُقدر فاطمة مكوثهم بنحو نصف الساعة أو أقل قليلًا لكن الوقت كان لها كأنما دهر "كانوا بيشدوا في الحديد ويكسروا.. التكسير والخبط كان ببيسمع فينا"، القلوب بلغت الحناجر، والخالة تواصل تصبير صغيرتها "متخافيش مش هسيبك"، لكنها فعلت "فجأة قالت لي اتشاهدي ورفعت صباعها وراسها مالت".
ظنت فاطمة أن الخالة سميحة فقدت الوعي، لم يدم تفكيرها كثيرًا، نادها أحد الأهالي كي يخرجها، علّق شعر الفتاة تحت محتويات القطار "الراجل قال لي إما اشد شعرك بس استحملي عشان مش معايا مقص ومش هسيبك مزنوقة كده أو تستني لغاية ما اجيب مقص"، طالبته فاطمة أن يخرجها بأي طريقة كانت، تحررت رأس المصابة وأخرجها الأهالي من شباك القطار.
خارج العربة المُهشّمة، دارت عينا فاطمة بحثًا عن الخالة سميحة، أبصرت جثث ملفوفة في "ملايات"، أشاحت نظرها عن التمعن فيها، حتى مع مطالبة أحدهم بالبحث عن خالتها بينها "قلت له لأ أكيد مش فيهم دي كانت كويسة وبتكلمني هي مش جثة". لم يكن لدى فاطمة حينها أغلى من رؤية خالتها، قبل أن يصبح لمس متعلقاتها المودعة في الحقيبة المفقودة أثمن ما ترغب فيه الآن.
حوالي الثانية والنصف ظهرًا، وبينما يستقر صابر، زوج سميحة، بمنزله يوم إجازته، استقبل خبر الحادث، في تلك اللحظات كان الفرع الآخر من الأسرة المتواجد بالإسكندرية، هرعوا إلى منطقة خورشيد شرق المدينة، وهم أشقاء سميحة وأبنائهم. أمام القطار المُحطم لم تستطع الأسرة تمالك أعصابها، انفرطت الدموع من الأعين، وانفطر القلب على ما راءوه، من هُناك بدأت رحلة البحث عن سميحة، فاطمة وعبدالوهاب في جميع مستشفيات الإسكندرية وكفر الدوار.
في مكان الحادث، علمت الأسرة بوجود عبدالوهاب في المستشفى الإيطالي، وبحلول الرابعة عصرًا عثروا على فاطمة في مستشفى مصطفى كامل التابعة للقوات المسلحة، فيما ظل مكان الخالة سميحة في علم الغيب حتى الحادية عشر مساء، حينما مرت الأسرة على مستشفى رأس التين للمرة الثانية، تفقدت ثلاجة الموتى "فتحنا أول تلاجتين مكنتش موجودة" لكن بمجرد فتح الثالثة "كانت هي"، كما يقول محمد عبد السلام ابن شقيقة الراحلة.
دار خبر وفاة سميحة بين هواتف الأسرة الباحثة عن أمل في نجاة فردها الثالث في الحادث، استقبله بعضهم بينما يتواجدون في مكان الاصطدام، انتهت رحلة الأسرة المستمرة منذ ظهر الجمعة حتى آخره، لتبدأ رحلة أخرى في البحث عن ما تبقى من "ريحة" سميحة.
بعد يوم من الحادث علمت فاطمة بوفاة خالتها، أخفى الأهل عنها الخبر حتى عادت إلى المنزل، انهارت الفتاة حينها، بينما احتفظت برغبة قوية في إيجاد متعلقات خالتها "مش مهم شنط الإيد أهم حاجة شنطة الضهر". في اليوم الثالث من الفاجعة ذهب الزوج وأقاربه إلى مكان الحادث للبحث عن الحقائب، فأخبروهم بالذهاب لقسم رمل ثانٍ، وفي نيابة رمل صُدموا بما قاله لهم وكيل النيابة "إنتوا ملكوش حاجة غير تعويض تاخدوه من وزارة التضامن الاجتماعي".
في منزل آل القاضي، الحقيبة الوردية التي تتمنى فاطمة إيجادها، جزء من حق اتفقت أسرة سميحة على استرداده، يستميت الزوج رغم الألم في البحث عن أوراق زوجته الشخصية فضلا عن إصراره لمعرفة تفاصيل القضية من النيابة، تصيح هدى زوجة أخيها منفعلة "الدولة استخسرت تصرف عشان تتطور السكة الحديد فخلاص الفقرا يموتوا"، فيما تلجم فاطمة الجميع بما استشعرت بعدما طالبت أحد العاملين في المستشفى أن يطمئنها على خالتها فرد عليها "خليهم يبصوا عليها في المشرحة"، كان وقع الجملة أسوأ ما سمعته الفتاة حينها "قالها كأننا هنطلع فسحة".
تبدل حال أسرة الراحلة؛ صارت الإجازة الصيفية منذ الجمعة الماضية عزاء على فقيدة، وحمدًا لتخفيف المصاب بنجاة ابنين، وعدم اصطحاب سميحة لباقي أولادها –شهد 12 عامًا ومحمد 14 عامًا- في رحلتها الأخيرة إلى الإسكندرية قبل أسبوع "وركبت قطر برضه.. ده شيء مش جديد علينا" تقول سميرة شقيقة الراحلة.
يوم عصي على النسيان، لكن احتضان فاطمة لمتعلقات خالتها، التي كانت بمثابة الأم الثانية لها، تُربِت على القلب وتحفظ لميقات الموت جلاله إن ضعفت الذكرى، تغوص الفتاة في حزن دفين لاستعادتها لحظة علمها بوفاة خالتها، تتحدث الأسرة عن مواصلتها الأيام القادمة في التردد على النيابة للحصول على إذن لتفقد المنتشل من الحقائب، تشيح فاطمة عينيها إلى أسفل وترفعها ثانية مكررة طلبها على مسمع أسرتها لعله يتحقق عن قريب.
فيديو قد يعجبك: