3 سنوات سجن بسبب "الجدعنة".. سيرة شاب أنقذه العفو الرئاسي
حوار- أحمد الليثي وشروق غنيم ودعاء الفولي:
تصوير - جلال المسري:
قبل أيام قليلة من 23 يونيو الماضي، وبينما يجلس أحمد عبد الرحمن داخل أحد زنازين سجن وادي النطرون، وصلته مجموعة من الأوراق ليملأها. حينها علم الشاب أن ما انتظره لثلاث سنوات قد حدث "قالولنا فيه عفو رئاسي".
ما أن تحصّل عبد الرحمن على تلك الأوراق حتى اُسقط في يده "مكنتش عارف مكان إقامتي فين ولا رقمي في القضية كمسجون بس كتبت على الخانات إني بريء". ورغم معرفته أن قرار العفو صار واقعًا، إلا أن ليالي السجن الطويلة مرّت في خاطره.
بدأ يوم السادس والعشرين من نوفمبر 2013 بشكل عادي. توجه عبد الرحمن من سكنه في عابدين، إلى مقر العمل في الشيخ زايد "لقيت مظاهرة ناحية مجلس الشورى والشرطة محاوطاها فوقفت أتفرج". فجأة أغرق الأمن الواقفين بالمياه. تسمّر الشاب مكانه. لم يركض. خاف أن تصيبه رصاصة طائشة. لم يعرف ماذا يفعل إلى أن لمح فتاة يتكالب عليها العناصر الأمنية "كل ما تجري يكعبلوها ويشدوا فيها".
انزعج عبد الرحمن مما رأى "قلت للضابط بهدوء يمسكها براحة.. كانوا قابضين عليها كأنها خُط الصعيد"، لم تسنح له الفرصة لاستكمال حديثه "لقيت ضابط تاني بيشدني من ورا وبيشتمني وخدوني على الترحيلات"، حتى تلك اللحظة لم يتخيل ابن الثلاثين عاما أن حياته ستنقلب رأسا على عقب.
حين خرج عبد الرحمن من السجن قبل عيد الفطر بيومين، حمل معه الحقيبة السوداء ذاتها، تلك التي حوت ما اعتبرتها الشرطة عام 2013 أداة للجريمة. كانت تضم مصحفا وكتاب، ملابس، شاحن، شبشب وصابونة، سبحة، و"سكّين" له قصة.
"كانت هي السكينة الوحيدة في السكن.. انكسرت وصاحبها كان هيرميها، قلت هاخدها أصلحها وحطيتها في كيس جوة الشنطة"، وفيما بعد أخرجها المحققون من حقيبته وكتبوا أن عبد الرحمن تعاون مع شخص آخر وأحضرا السكين لطعن الضباط، فيما أثار ذلك الاتهام السخرية في نفس عبد الرحمن "سكينة إيه اللي هطعن بيها ضابط ماسك رشاش؟".
عدة محطات خاضها الشاب الثلاثيني منذ اللحظة الأولى التي قُبِض عليه فيها؛ فقد تم احتجازه برفقة المتظاهرين داخل حديقة مجلس الشورى، ثم توجهت قوات الأمن بهم إلى قسم السيدة زينب الذي رفض استقبال الجمع نظرا لزيادة عددهم. خلال تلك الرحلة هاتف عبدالرحمن شقيقه الأكبر للاستغاثة به، فطمأنه الأخير بأنه سيتصرف في أسرع وقت.
لكن محاولات شقيقه "طلعت على فاشوش"، إذ أن القضية تم تحرير محضرها وتحويلها إلى النيابة في نفس اليوم "هنخليكوا عِبرة وهنحبسكوا بقانون التظاهر اللي نزلتوا تهتفوا ضده".. كلمات سمعها عبدالرحمن في التحقيقات. خلال كل ذلك كان يهمس صوتًا داخل الشاب بأنه سيخرج، إذ أنه لم يشترك في تلك التظاهرة، لكن من قُبِض عليهم معه لم يتملكهم ذاك اليقين "قالوا لنا إحنا خلاص لبسنا في الحيط".
مئة يومًا قضاهم عبدالرحمن داخل عنبر الزراعة في طُرة تحقيق مع مُتهمين في قضايا أموال عامة، ثم ما لبث أن نُقل إلى بلدته أسوان وقضى نحو شهر متنقلًا بين معسكر قوات الأمن هناك وأحد الأقسام، بعدها عاد ومكث شهرًا في قسم قصر النيل، ثم خرج بكفالة قدرها 10 آلاف جنيهًا.
لم يستمر عبدالرحمن طليقًا سوى أربعة أشهر فقط، بعدها عاد مرة أخرى للمحاكمة وقضت محكمة جنايات جنوب القاهرة في فبراير 2015، برئاسة المستشار حسن فريد، بالسجن المُشدد على علاء عبدالفتاح وأحمد عبدالرحمن لمدة خمس سنوات، والمراقبة الشرطية وتغريم كل منهما مائة الف جنية.كان اسم عبدالرحمن الثاني بعد علاء عبد الفتاح في القضية رقم 12085 لسنة 2013 "رغم إني مشوفتوش في المظاهرة خالص، وأتمنى يخرج قريب".
دخل عبدالرحمن في نوبة صدمة حينما سمع عن الحكم في قضية أحداث مجلس الشورى "فضلت 3 شهور عشان استوعب إيه اللي بيحصل"، لكن بمرور الأيام في سجن وادي النطرون "اتأقلمت".
داخل عنبر 4 اجتمع متهمو قضية الشورى، إلى أن تم نقل الشاب الثلاثيني إلى عنبر 1 والذي حوى شباب قضية مجلس الوزراء وحرق المجمع العلمي، ثم فيما بعد استقر بعنبر 2 مع الإخوان المسلمين "دة كان عنبر التكدير".
تقلّبت أحوال عبدالرحمن داخل الزنزانة "تهوية سجن وادي النطرون سيئة بسبب ضيق مساحة الغرفة والشبابيك كلها تراب فبتمنع الهواء"، فيما كان يفترش حوالي 30 "نفر" نفس العنبر، أما في حالة إصابة أحدهم بوعكة صحية "العيادة بتدي أي مريض مُسكن مهما اختلفت أعراض تعبه".
مرت أيام الحبس ببطء على الشاب، لم يلهيه عنها سوى انتظار الخروج، أما هواية مشاهدة الأفلام الأجنبية فقد حُرم منها "يادوب كانوا قناتين في التليفزيون المصري بنمشي حالنا بيهم"، كان يجلس أمامهما متأففا، فيما يضع المذياع على أذنه، كذلك الحال مع التريض "انا متعود من قبل السجن إني بمشي كتير" غير أن إدارة السجن سمحت فقط بساعة من الحركة في رُدهة لا تتعدى عدة أمتار.
كان يستعين عبدالرحمن على الوقت داخل العنبر بالصلاة "بتريحيني نفسيًا"، وفيما عدا تلك الأوقات ظل يفكر في تضرر عمله كحارس أمني "لازم ورقي يبقى نضيف ومش عليا أي قضية خصوصًا لو سياسية، وهنا في مصر بيعتبروا الجنائي زي السياسي"، لذا يتمنى أن "مؤسسة الرئاسة تحاول تطلع الناس اللي في السجون اللي ملهاش علاقة بأي حاجة واتقبض عليها عشوائي".
تتكون أسرة عبد الرحمن من فتاتين وولدين ووالدة. توفى عنهم الأب عام 2008، فيما قرر الشاب الأسواني عدم استكمال الثانوية العامة "كنت بشتغل". لكنه لم يأتِ للقاهرة إلا بعد ثورة يناير "لما السياحة وقعت في أسوان ومبقاش في شغل". رغم ضيق حاله إلا أن المظاهرات ظلت شيئا يُشاهده فقط "زي ما بتفرج على أي فيلم أجنبي"، كانت ظروف المعيشة تأسر الشاب الثلاثيني أكثر من أي شيء آخر "لو مشتغلتش مش هلاقي حد يصرف عليا".
بعدما زُجّ بعبد الرحمن في السجن لم يكن ثوريا أيضا "صحيح دخلت ظلم بس مكنتش عايز مشاكل"، إلا أن سوء الأوضاع في عنبر 1 بوادي النطرون غيّرت فكره "كنت محبوس مع قضية مجلس الوزراء.. والناس كانوا مكتئبين بسبب التجديد وانا مكنتش عارف أساعدهم ولا أساعد نفسي وطاقتي بقت بتضعف كل يوم"، طلب ابن أسوان نقله لعنبر آخر، ومع عدم الاستجابة دخل في إضراب عن الطعام.
على إثر قراره، انتقل إلى عنبر التأديب "تخيلت إني لما أبقى لوحدي هعرف أقابل المأمور وأقوله ينقلني عنبر تاني". خلال تلك الأيام نادى الشاب على الحُراس "مكنش حد بيعبرني"، حتى دلفوا عنبر التأديب بصحبة رئيس المباحث في اليوم الحادي العشر من الإضراب وانهالوا عليه بالضرب "قالولي إنت محدش يعرفك.. ملكش لزمة"، وقتها شعر بالانكسار "كلمت المحامي وقولت انا عايز أقدم شكوى"، نفّذ عبد الرحمن تهديده "ولما لقوا إني مُصرّ على الشكاوى نقلوني عنبر 2".
لقرابة عام مكث عبدالرحمن داخل عنبر 2، هناك سمع حكايات تطابق قصة القبض عليه، أناس جمعه العنبر بهم لمجرد مرورهم من مكان تظاهرة لجماعة الإخوان، فكان نصيبهم الحكم بـ15 عامًا أو المؤبد.
مع كل مرة لخروج دفعة من المحبوسين في العفو، كان عبد الرحمن يضع يده على قلبه، الحزن يمسك بتلابيب السعادة، والقهر يمتزج بالنشوة، والدموع لم تكن تعرف لها اسما أهي من شدة الغضب أم لمكنون وفير من البهجة، كل ذلك يمر في لمح البصر وقت أن تُتلى قائمة العفو الرئاسي على عنبر الشاب، ويكتشف خلوها من اسمه "مشكلتي إن كل أصحابي واللي بيعرفوا يفهموني خرجوا في القايمتين وحسيت بالسجن الحقيقي".
29 نوفمبر 2019 كان ميعاد خروج ابن أسوان. ورغم طول المدة إلا أن عبد الرحمن آمن بخروجه ضمن إحدى قوائم العفو الرئاسي. ولكن حتى بعد خروجه أيقن أن قاعدة العفو ليست دائمة "في ناس مرمية في السجون بالسنين ولسة مخدتش أحكام".
كانت مشكلات السجن يسيرة بالنسبة لعبد الرحمن إلا افتقاد والدته، لذا وفّر أحد أصدقائه لها تذكرة الطيران من الصعيد "قابلتها 4 مرات خلال الـ3 سنين". لم تلم الأم وليدها، وكذلك أشقائه "هما عارفين إني مليش في حاجة ومش بتاع مشاكل"، حتى أن أكثر من ضابط خلال التحقيق ردد عليه ذلك "كانوا بيقولوا لي إيه اللي جابك هنا؟"، فما كان من عبد الرحمن إلا الابتسام بمرارة.
أيام معدودة مرت على حرية عبد الرحمن، يستكشف فيها حياته الجديدة، فيما لا تبرحه المشاهد المؤلمة التي رآها بالداخل؛ على رأسها الطريقة التي يتبعها بعض الضباط مع الجنائيين، بعد عودتهم من الجلسات "بيشربوهم ميه ورابسو وطباشير مطحون وطافية سجاير وتراب عشان يجيبوا اللي معدتهم لو مهربين حاجة"، الخوف كان يتملكه أن يتبع مسئولو السجن إجراءات مماثلة مع السياسيين "أنت تموتني ولا إني أجرب الإهانة دي"، بينما يحكي عن بعض من فقدوا حيواتهم بسبب تلك الطريقة "بيلفوهم في بطانية ويرموهم من فوق السور على الأرض وكأنه هو اللي حاول ينط ويقع".
السفر هو الحلم الأوحد حاليا لابن أسوان "انا مقرر مقعدش في البلد هنا حتى لو مُت في الطريق لبرة". كان يسعى لتلك الأمنية قبل 2013 "بس السجن بيفوق الواحد ويخليه يبطل كسل". رغم التجربة المأساوية، لو أعادت الأيام كرتها لن يتوانى عبد الرحمن عن تكرار فعلته "مش هيعرفوا يوصلونا إننا نقطع في بعض ومحدش يسأل في التاني، ولو أنا كنت سكتت يبقى أنا ظالم زي اللي ضربوا الشباب".
بطيب خاطر تقبّل ابن أسوان المحنة "يمكن الحبس كان إيجابي في معظمه، متأكد إن ربنا مبيعملش حاجة وحشة"، قبل الدخول تحت أصفاد الزنازين كانت حياته يسيرة، يقول بوجه طفل برئ "كنت في الطراوة خالص"، يضيف برضا تام أنه كان يشعر دوما بأنه من أصحاب الحظ العسر، فيما اثقلته التجربة ببعض الخبرات، حين أفصحت له الحياة عن وجهها المستتر خلف جدران المحنة.
فيديو قد يعجبك: